احمد رباصمستجدات

مفهوم السعادة في فلسفة نيتشه (الجزء الثالث)

أحمد رباص – حرة بريس

انصب تكوين نيتشه في الأصل على مهنة دينية، انكب على دراسة فقه اللغة، قام بدراسات في الآداب الكلاسيكية، وكرس حياته للفلسفة بشكل نهائي. كان أيضا شاعرا وعازف بيانو وملحنا. ويبقى نيتشه اليوم فيلسوفا غير قابل للتصنيف، وغالبا ما يتم تقديره لإصراره على وضع نفسه على هوامش الفكر الفلسفي التقليدي.
هو مفكر معروف بافكاره المعارضة، يكشف في واضحة النهار عن موقف وروح هما على درجة من التعقيد بحيث غالبا ما جرا عليه رفض زملائه. لطالما كانت لديه موهبة احتواء شيء لا يمكن تمييزه إلى حد ما. شغفه بالتراجيديا اليونانية القديمة سوف يؤثر، حتى نهاية حياته، على روحه وفكره الفلسفي.
يجب أن يقال إن المعنى المعقد الذي يمنحه للفلسفة غالبا ما أدي به إلى أن يُنظر إليه على أنه فيلسوف يغذي الشعور بانخفاض قيمة الوجود. والأكثر من ذلك، في مجتمع اعتبر فيه العديد من المفكرين، وفقا له، أن على التنمية الشخصية أن تؤدي بالضرورة إلى رفض المعاناة من أي نوع كانت، وأن تقوم على كل ما يهدئ روع ويسكن الم الفرد حتى يعيش بانتظام على حال من السعادة المطلقة. ومع ذلك، يستمر العديد من أتباعه في مدح استقلاله الفكري، لأنه في النهاية أبرز فكرا أكثر دقة وبراعة من ذلك الذي نود أن ننسبه إليه في كثير من الأحيان.
بدل الاكتفاء بمدح “إرادة القوة” وصورة “الإنسان الأعلى” كغاية في حد ذاتها، عمل نيتشه على تفكيك آليات الفلسفة التي وصفها بأنها “دوغمائية” لأنها ستحدد بشكل فردي شروط الوجود السعيد من خلال تجنب النظر بأي ثمن إلى الأجزاء الغامضة والعناصر والأحداث السلبية، التي تشكل مع ذلك بنية تراجيدية هي جوهر حياتنا اليومية. والتي اعتبر أنها ضرورية لإعادة التفكير في الذات، وكذلك في العالم من حولنا.
وإذا أردنا تلخيص مفهوم نيتشه الفلسفي عن السعادة، نجد أن هذه الأخيرة ليست، حسب رأيه، غاية في حد ذاتها. ما يعنيه بـ “السعادة” يسميه “القوة الحيوية” أو “إرادة القوة” التي تجمع بين الفرح والتراجيديا. وهكذا تكمن السعادة، حسب قوله، في “إرادة القوة الفردية”، مثل القوة التي تنتج عن الانتصار على الذات، تبعا لمؤثراتنا المختلفة، سواء كانت إيجابية أو سلبية. في نظر الفيلسوف، السعادة، لنسمها هكذا، تتمثل، بالنسبة لرجل أو امرأة، في “التغلب على صعوبات الوجود اليومي”.
سعى نيتشه إلى إظهار كيف أن “الفرح” و “التراجيدي” مكونان غير منفصلين في الشرط الإنساني يكمل كل منهما الآخر ويجب التفكير فيهما معا لتحقيق مزاج وجودي أفضل.

يجمع الدارسون لفكر نيتشه على أنه تحدث للمرة الأولى عن” السعادة في المجلد الثاني من كتابه”Considérations inactuelles”حيث تخيل شخصا ينظر إلى قطيع من البقر ويعجب من السعادة التي يبدو أنها تنبع من الأبقار ولو أنها مقيدة إلى وتد الوجود دون أن يحصل لها أي وعي بمرور الوقت. هكذا أنشأ نيتشه سيكولوجية دقيقة للغاية عن الفرد من خلال الاهتمام بجميع مؤثراتنا البسيطة، وسمح لنفسه بوصفنا من جميع جوانبنا، خاصة من الجانب الأضعف والأكثر تعقيدا في ذواتنا”.
اراد نيتشه أن يعارض التعريف التقليدي للسعادة الذي وقع عليه إجماع بين العديد من الفلاسفة منذ البداية، الذين تصوروا أن المجتمع السعيد هو المجتمع الذي يتوصل فيه كل واحد إلى نوع من المعيار في الحياة حتى يتمكن من التخفيف من المعاناة بأكبر قدر ممكن. هذا ما يستجيب له القول المأثور الشهير: “كل ما لا يقتلني يجعلني أقوى”.
بالفعل، يعتقد نيتشه أن هذا التعارض “خير / شر” ، “حسن / قبيح” ، “سلبي / إيجابي” من الجمود بحيث لا يسعفنا في التفكير في كل شيء يحيط بنا، ولهذا السبب يجب علينا دمجهما في واحد.
تعلم التعايش مع الأشياء السلبية من شأنه ان يجنبنا الندم باستمرار. وهذا ما يسميه مفهوم “العود الأبدي”. إنه يدعونا إلى دمج هذه الاختيارات، هذه الأفعال التي تمكنا من القيام بها في الماضي على مضض أحيانا. لا يمكننا أن نكون سعداء إذا كنا نجتر دائما ذكريات الماضي. وهكذا يتضح أن الفيلسوف يعتبر “النسيان” ضروريا لأجل تيسير استقبال إيجابي للماضي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube