شخصياتمستجدات

حديث وحوار الحلقة الثانية: الأسطورة والعقيدة والعقل


بداية، جزيل الشكر لقراء الحلقة السابقة والتي تعد الخطوة الأولى من مسافة الألف ميل لمشوارنا الفكري. كما أشرت الية في
الإفتتاحية فان حديثنا ينبغي له التفاعل مع طرح المتدخلين في الحوار والى ما سمي مسلسل الحلقات التي تعرض: “حديث
وحوار”. انطلاقا مما سبق سيكون حديث اليوم حول ثلاث محاور والتي هي كما يلي:
1 – ما هو الفهم المعرفي للأسطورة ؟
2 – علاقة الأسطورة بالعقيدة
3 – علاقة العقل بالأسطورة والعقيدة
كمدخل لهذه المحاور الثلاث قبل التفصيل فيها أذكر، وكما سيتم التأكيد عليه كلما ادعت الضرورة، أن الغاية التي تحفز بحثنا في
هذه القضايا هو الفهم الموضوعي لثقافتنا الحضارية الجامعة في بعدها العقلي اإلنساني العام. هذه الثقافة العامة الجامعة التي
انطلقت من مهد الحضارات والثقافات االنسانية – حضارات ما بين وادي الرافضين وحوض النيل وإمبراطوري ة قرطاجة –2
لتصل أوجها في القرن الوسيط، عبر تطوير اللغة والمنطق والفلسفة. لحد أمكن القول معه أن مستواها المعرفي وصل، في
حدود النسبية العلمية، حيزا يمكنه أن يضاهي في كثير من جوانبه ما وصل اليه الفكر اإلنساني الحديث. مقارنة بسيطة بين جوهر
الفكر العقلي عند فواحل الفالسفة والمفكرين في حضارتنا الجامعة، أمثال ابن رشد وابن عربي وابن خلدون وابن سينا والرازي والخوارزمي والغزالي … مع مفكري الغرب وفالسفته أمثال كانط وسبنوزا ونيتشة وهيجل وماركس … تسمح إلقاء نظرة شمولية للفكر اإلنساني خارج ا لنظر الضيقة اليه من زاوية معينة لثقافة وحضارة منفردة. نظرتنا هذه لثقافتنا الجامعة تسمح ب التعاطي مع الفكر اإلنساني في شموليته لت ظهر جليا مكانة ثقافتنا الحية التي هي في صلب الحضارة الحديثة وليست خارجها.
النظرة الشمولية لتراثنا الحضاري يسمح مراجعته بشكل متزن بعيدا عن االنغالق المرضي لذات ثقافية هجينة كما هو الرائج. هذه
النظرة الشمولية واإلنسانية وحدنا تمكن تجاوز الشوائب التي حلت بثراتنا الحضاري وحالت دون تطوره الطبيعي. هذا التطور
الطبيعي الذي جوهره الحداثة الموجودة في عمق ثقافتنا الحضارية والتي يريد الفكر الضيق تعليبها في إطار تاريخان ي وهمي باسم
خصوصية ثقافة متخلفة .
1 –ما هو الفهم المعرفي لألسطورة؟
أ – الحلقة المفقودة في التطور البشري
يجمع علماء األنثروبولوجيا، المختصون في التطور الثقافي
والحضاري، أن وعي اإلنسان البشري بوجوده ككائن يفكر،
3
حصل لما وعي أن الموت مالحقه هو اآلخر. بمعنى أن الموت
يتربص ه مهما طال عمره وأينما حل وارتحل. هذا الوعي لإلنسان
أنه مالق حتفه ميزه عن باقي الحيوانات األخرى. التي تعيش
حسب حواسها البدائية من أكل ونوم وتناسل ال علم لها بما هو
الموت. فتحيا وتموت بعد أن تتناسل لضمان االستمرارية
الحيوانية. يمكن القول، أن االنسان لما وعى أن الموت مالحقه ال
محاله، أخذ يبحث عن حيل وذرائع ووسائل للتخلص منه والنجاة
من الصدمة القوية الت ي لحقت بوعي ه. األمر الذي خلق عنده هلعا
مريبا ظل يالحقه جيال بعد جيل منذ عشرات اآلالف من السنين.
لحد يمكن القول معه، إذا استثنينا الفهم العقائدي السماوي، أن عقدة
الموت ال زالت مطروحة بإلحاح لحد تحت ل فيه مكانة مركزية
بخصوص وجود االنسان . لماذا نأت ي لنموت؟ لماذا نأتي لنعيش
الحرب واالضطهاد واالستبداد والفاقة والمرض بينما قلة من بني
البشر يحق لهم السطو والجاه والمال؟ أسئلة طرحت منذ األزل وال
زالت مطروحة ت حاول االنسان اإلجابة عنها، اما عن طريق
فضيلة االيمان العقائدي أو عن طريق التفكير العقلي. لمواجهة
طيف الموت المريب طور االنسان البشري قدرات خارقة للبحث
عن طريقة تقه شر العاقب ة والتي حسب تطور مختلف الثقافات
تمركزت في بداياتها على رفض الموت بشكل قطعي. هكذا تم
الفصل بين الروح والجسد في وقت مبكر من وعيه. فاذا كان
الجسد يشكل هي كال يصيبه الفناء، فان الروح ثابتة داخل الجسد
وخارجه. ألنها أبدية ومنه تشكل عبر مختلف الطقوس والثقافات
اعتقاد روحاني حيائي أ نيمي، حسب التسميات المستعملة في هذه
الثقافة أو تلك. االعتقاد بأزلية الروح سيخضع لطقوس وشعائر
4
ومراسم تختلف وتتنوع حسب أشكال العيش والتعايش والتفاوت
في التطور الثقافي والحضاري.
ان منطلق الفكر اإلنساني واحد، تفرعت عنه مختلف االتجاهات
الطقوسية و العادات والمعتقدات، وضعية فسماوية فعقلية. التفاوت
الذي يحدث عند تناول القضايا األساسية في وجود الفرد
والمجتمع، هو محاولة وضع تعارض بين المكونات األساسية في
التكوين النفسي للفرد والمراجع العرفي ة للمجتمع. حيث أن الكائن
الباطني لإلنسان خارج الجسد المطبوع بالتالشي والفناء، هي
روحه األبدية والتي في جوهرها تجسد حريته. فإذا كان من
الممكن اخضاع الجسد لحد تدجينه بواسطة مختلف الوسائل، من
استالب فكري او ترويض مصلي مادي أو اللجوء الى العنف
النفسي والمعني فالتعسف بمختلف أنواعه، فان تشبث االنسان
بحريته الروحية المتأصلة فيه بشكل فطري تجعله يقاوم لحد
التضحية الجسدية. ما دام الجسد فان والروح أبدية تظل ذاكرتها
تتوارث عبر األجيال أو ما جسدته بعض األساطير والمعتقدات
بتناسخ األرواح. حيث الروح تبعت في أجساد متعاقبة ومتنوعة.
البحث عن حريته الجسدية التي تتماشى وحريته الروحية هو الذي
جعل االنسان عبر تطوره الحضاري يقّوم فهمه العقلي إلدراك
سيرورته الوجودية. هذا االدراك يتعقد مع تعقد االجتماع البشري.
ب –األساطير
يمكن تلخيص األساطير والنواميس و القصص وغيرها من األقوال
واألخبار المتداولة شفوّيا قبل المخطوطات التي بين أيدينا، سواء
ما عبرت عنه الكتابة المسمارية للحضارات األشورية واألكادية
واآلرامية أو األوغاريتية الكنعانية واألكسسية والهيروغليفية
5
الفرعونية واإلغريقية والهندية والصينية. ما يعني أن األساطي ر
موجودة في كل الثقافات. وهي تهم باألساس وجود الكون
واالنسان. هكذا، وكما أشرنا اليه، لما فطن االنسان أنه فان، ركز
كل اهتمامه حول الكون وكيف خلق وهو ضمه. كل هذا في خضم
صراعه مع الطبيعة من أجل البقاء والعيش مع غيره. لذا تداخلت
الطقوس والمعتقدات من ثقافة ألخرى وظل القاسم المشترك لها
كلها، سواء التي بقيت محسورة في مكان معين أو التي تطورت
لتعم شعوب واألم، أن هناك خالق للكون وأن هناك خير وشر.
مجمل الطقوس، محورت بهذا الشكل أو ذاك، الخير في آلهة توجد
ب السماء وهي خالقة الكون ومن فيه والى جوارها ي وجد األعوان
واألرواح. أما آلهة الشر فهي أقل مرتبة لكنها مثل األولى أزلية
ولها نفس القوة يساعدها على الشر الجن والشياطين عن طريق
السحر. في الحين الذي تتحكم آلهة الخير باأللباب للقول وفعل
العمل الصالح، تعلب باأللباب آلهة الشر لتدفع الى فعل السوء.
هناك عامل مشترك لمجل الطقوس يتمحور حول وجود مكان
مقدس يربط األرض بالسماء تقام به المراسيم تقربا وزلفا آللهة
الخير واالبتعاد عن آلهة الشر.
ت – أساطير اإللياذة وألودسية
خالفا لغيرها من األمم والشعوف، وخاصة الشرقية منها، أخدت
األساطير عند اإلغريق شكل مسرحية وجودية خارقة اختلطت فيها
الحقيقة بالخيال فامتزجت قصصها حياة اآللهة بالبشر وتداخلت
بشكل شمل االعتقاد والتشريع وأسلوب الحكم. وبخصوص أسلوب
الحكم، اتسمت أساطير االغريق، كما سطرتها أناشيد االلياذة
وألوديسة، بنوع من التوافق و اقتسام المهام بين اآللهة وان ظل
6
االله األكبر زوس يحظى باالمتياز. لكنه ليس امتياز مطلق
ويضطر ألخد القرارات الكبيرة والحاسمة تحكيم باقي اآللهة
المختص كل منها بأحد مرافئ الوجود. ثم أن اآللهة ليست
مقصورة على الرجال بل هناك أيضا النساء. زد على هذا كون
اآللهة التي خلقت البشر على شكلها، ال تقتصر عالقاتها الجنسية
بين ها بل أيضا مع البشر هكذا نجد االل ه األكبر زوس يجامع النساء
وينجب منهن أبناء في هيئة بشر شأن أشيل وهرقل ومثال والذين
لهم إمكانية القيام بأ عمال خارقة في مقام المعجزات.
زيادة عن القصص والخرافات واألحكام فان أساطير اإللياذة
وألوديسة تحمل في طياتها مجمل الحكم والعبر التي كانت متاولة
لما قبل العصر الثامن قبل الميالد والتي مهدت في تركيبها الجدلي
أسس الفكر الفلسفي.
2 – عالقة األسطورة بالعقيدة
خالفا لتعدد اآللهة التي جاءت بها اإللياذة وألوديسة، فان التوراة
التي لخصت أساطير األمم والشعب والقبائل التي عمرت منطقة
الشرق، فإنها اختزلت تعدد اآللة في إله واحد أوحد وهذا بعد
صراع طويل للمعتقدات التي تقر بتعدد اآللهة وتستمد طقوسها
وتخيالتها ومعتقداتها من وحي وضعها البشري. كما ألغت الديان ة
السماوية كل تدخل بشري بصفة أن االنسان كائن مخلوق كغيره
من المخلوقات.
مما يلفت النظر أن كل من االلياذة وألوديسة أو التوراة تم نسخها
في نفس العصر تقريبا، وهذا يعبر عن مستوى تطور الوعي بين
البشر في مناطق مختلفة الطبائع وصيغ الحكم في ما بينها. تنسب
7
االلياذة وألوديسة الى هوميروس الملقب بالشاعر والذي عاش
نهاية القرن الثامن قبل الميالد. أكثر الظن أن أساطير االغريق،
كما هو حال قصص ألف ليلة وليلة مثال، كتبت خالل أحقاب
متتالية وفي أمكان مختلفة وتم جمعها في مخطوط موحد. ونظرا
النسجام نسقها الثقافي سهل نسبتها لف رد أو مجموعة أفراد
محدودين. نفس األمر حصل بالنسبة للتوراة التي بقيت نصوصها
متفرقة عبر األماكن وتتطور عبر األحقاب الى حين ت م جمعها
على يد بعض الكهنة ابتداء من القرن الثامن والسابع قبل الميالد.
ليتم سقلها حسب مختلف المراجع في شكلها العام، ابتداء من القرن
السادس قبل الميالد بعد الغزو البابلي ألرض كنعان )جنوب
سوريا، األردن، فلسطين ولبنان( وتكسير هيكل سليمان وترحيل
اليهود الى أرض بابل. علما أن مجموعة منهم نزحت بعد ذلك
لبالد مصر والمغرب.
لقد ظلت األسطورة مقرونة بالعقيدة في االلياذة وألوديسة، حيث
الخيال يمتزج بالواقع لحد أن اآللهة وأنصاف اآللهة لهم طبائع
تقترب من طبائع البشر من كالم وجنس وصدق وكذب…. خالفا
لذلك اقتبس كهنة اليهود الكثير من أساطير األولين ببالد النهرين
وكنعان ومصر. خاصة ما جاء في سفر التكوين الذي يجاري الى
حد كبير رواي ة الخلق البابلية. حيث هناك تشابه كبير حول ظهور
السماء واألجرام وانفصال الماء عن األرض وخلق االنسان في
اليوم السادس وراحة االله في اليوم السابع وقصة الطوفان …. كما
أنهم نسبوا بطوالت ومالحم األمم القديمة الى آبائهم. هذا التشابه
في الرواية بدأت تبّينه كشوف الحفريات المعاصرة وفك الكتابة
الهيروغليفية المصرية والمسمارية لبالد الرافدين واألوغاريتية
الكنعانية.
8
في الحين الذي ظلت األسطورة ممتزجة بالعقيدة في الثقافة
االغريقية ومن تأثر بها في البالد الهيلينية، سخرت التوراة أساطير
األولين ومالحمهم لصالح الشعب المختار مع نفي وجود باقي آلهة
وأن الخالق الوحيد للكون وب اقي المخلوقات هو الرب األعظم
الخالق تماشيا مع العقيدة الوحدانية التي دعا اليها إبراهيم الخليل
واألنبياء والرسل من بعده. المالحظ أنه سواء األساطير أو
المعتقدات الوضعية والسماوية ارتكزت جميعها على العوامل
التالية:

  • اعتماد الشعر وال ب الغة اللفظية في صياغة األبيات واآليات،
  • اللجوء لألمثال والعبر والقصص لتوضيح المعني،
  • جعل الماء منبع كل شيء حي،
  • جعل أماكن وأحجار مقدسة تربط األرض بالسماء،
  • تعدد اآللهة في األساطير والمعتقدات الوضعية، وحدانيتها في
    المعتقدات السماوية. أي هناك خالق للكون واالنسان غير التطور
    الطبيعي للبشرية كما جاءت به النظرية الدروينية،
    في الحلقة القادمة نتمم هذا الباب بالحديث عن عالقة العقل
    باألسطورة والعقيدة.
    طابت أوقاتكم
    محمد المباركي
    20 يناير 2022
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube