السلك الدسبلوماسيمستجدات

الآخر الاسباني في كتاب “رياح الشمال”

الآخر الاسباني في كتاب رياح الشمال

للاستاذ محمد العربي المساري

ذ.عزيز قنجاع

حلت في الخامس و العشرين من الشهر المنصرم الذكرى السادسة لرحيل احد ابرز عناوين الصحافة و الثقافة المغربية ونعني الاستاد المرجوم العربي المساري والذي جعل من اسبانيا احد ابرز اهتماماته المعرفية و الصحفة و يسير كتاب رياح الشمال الذي صدر سنة 2009 في هذا السياق اذ نجد انفسنا و نحن نقرا كتاب السي محمد العربي المساري رياح الشمالامام سؤال اكيد انه انتاب العديد ممن سنحت له فرصة الاطلاع على هذا المولود الادبي الفريد، وهو تحت أي جنس ادبي يمكن ادراج هذا الكتاب، الذي يبدو ان صاحبه استغرق مدة ليست بالقصيرة في إعداده وتحضيره ليصير مادة قابلة لفعل القراءة . اكيد ان العديد منا ستصيبه الحيرة في ايجاد باب من ابواب الفنون يمكن ان يقال ان هذا الكتاب يعد اضافة له، او يندرج في بابه، لكن يجب التاكيد منذ البداية ان كتاب رياح الشمال حين يحاول ان يعرف بالمنطقة الشمالية و يستجلي حقبة من تاريخها وفي القلب منها مدينة تطوان، فانه يدمج بين مضمونين من هذا النوع من الكتابة: مضمون تقليدي وآخر حداثي.

فالمضمون التقليدي وينتمي الى تراث ادبي اصيل تفردت في ريادته الكتابة التاريخية المغربية حينما خرجت عن ضغط المدارس التاريخية المشرقية ونحتت لنفسها مسارا جديدا خالف أصولها في التأليف التاريخي الموسوعي الذي يعتني بذكر الأحوال العامة لكل الآفاق و الأجيال والاعصار كما فعل المسعودي في كتابه مروج الذهب حيث تحدث بإسهاب عن أحوال الأمم والأجيال منذ بداية الخليقة الى عصره او كما فعل الإمام ابن كثير وابن الاثير، و الطبري وغيرهم. الا ان المدرسة التاريخية المغربية شقت لنفسها طريقا خاصا في الكتابة التاريخية سيكون له تأثير كبير في افادة البحث التاريخي المعاصر، ومده بمادة تاريخية خبرية دسمة شارك فيها مؤرخون مغاربة وأندلسيون . ويمكن القول أن المؤرخ ابن حيان الاندلسي قد اصل لهذا النوع من الكتابة عندما قام باتباع شكل الكتابة الصحفية اليومية وهو يسرد اخبار قرطبة، وقد سار على منوال ابن حيان مؤرخون مغاربة آخرون، ولا نشك ان صاحب كتاب الحلل الموشية في ذكر الاخبار المراكشيةلمؤلف مجهول كان اول مغربي اختار التأريخ لمدينته مراكش منذ تأسيسها وتتبع تطورها التاريخي وتوسعها العمراني، وقد أصبح هذا النوع من الكتابة التاريخية راسخا في التاليف التاريخي المغربي فجميع المؤرخين الذين اختاروا تدوين احداث عصرهم وطنوها ضمن تطورات احوال مدنهم و يعد كتاب الانيس المطرب بروض القرطاس في اخبار ملوك المغرب و تاريخ مدينة فاسنموذجا متفردا لهذا النوع من الكتابة التاريخية حيث ضمن صاحب هذا الكتاب علي ابن ابي زرع الفاسي كتابه احداثا ونقل عن مخطوطات متنوعة المصدر و المنشأ للتعريف بفاس و نواحيها وأحداثها ورجالاتها. الا ان ما يجب الاشارة اليه هو ان هؤلاء الكتاب رغم محاولاتهم التركيز على التأريخ لمدنهم فقد انساقوا الى ملامسة افاقا تاريخية شاسعة شملت البلاد كلها إن لم نقل أقطارا عدة، ونذكر في هذا الصدد المؤرخ الكبير ذو الوزارتين لسان الدين ابن الخطيب في كتابه الكبير الاحاطة في اخبار غرناطة“. وهو الشيء الذي حاول مؤلف كتاب اتحاف اعلام الناس بجمال اخبار حاضرة مكناسعبد الرحمان بن محمد السجلماسي المعروف بابن زيدان تجاوزه بالتركيز على اخبار حاضرة مكناس حيث جمع في مؤلفه هذا نصوصا متفرقة لمؤرخين من كل الافاق و شهادات الرحالة و مجموعة متفرقة من مختلف اطياف الوثائق لتثبيت تاريخ شامل كامل مانع لحاضرة مكناس وكذلك ونفس الامر يقال عن السي محمد داوود الذي ارخ لمدينته تطوان. ولم نذكر في هذا الباب مؤلفين اهتموا بتاريخ مدنهم بالتركيز على التاريخ لاوليائها وهناك من اهتم بالتاريخ لقضاتها مثل الخشني القروي الاندلسي وكذلك المؤرخ المغربي الشريف ابي عبد الله محمد بن جعفر بن ادريس الكتاني في كتابه سلوة الانفاس ومحادثة الاكياس بمن اقبر من العلماء والصلحاء بمدينة فاسو العنوان هذا يعفينا من شرح مضمونه.

اما عن الجانب الحداثي في عمل السيد العربي المساري، فيبدو ان كتاب رياح الشمالانبني على استخطاطيات واعية ودقيقة، تساءل الاولى العلاقة القائمة بين الذات في استمراريتها والثانية العلاقة التي ينسجها الاخر حين يكون موضوع اشتغاله ذاتنا، أي البراني المقابل بالنسبة له، لذا استعمل الكاتب المادة الخبرية بجميع أصنافها واستغل جنس الرواية والعمل الصحفي والانطباعات والمذكرات الشخصية والرسائل ليعيد بناء صلة ما مع الماضي الممتد من الفترة 1860 الى تاريخ الاستقلال، هذا الماضي الذي يبدو ظاهريا في الكتاب كاستحضار قيمي للاعتبار والاقتداء، وهو الامر الذي نتوهمه ونحن نطالع الكتاب من خلال الشخصيات الثلاثة الاولى التي يقترحها علينا السيد العربي المساري، وهي شخصيات طبعت مسار العمل الوطني و اختلفت في رؤاها المتباينة لمداخل العمل السياسي ، وهم السادة: عبد السلام بنونة، و بن عبد الكريم الخطابي، و عبد الله كنون ، فما الفائدة من هذا الاستحضار في كتاب لا يود ان يكون صاحبه ساردا للتاريخ فحسب، وهذا ما يجرنا لسؤال اخر حول نظرة العربي المساري الى هذا التاريخ . ان استثارة الماضي عند المفكر العربي المساري هي بين اكثر الاستراتيجيات شيوعا التي يعتمدها في تاويلات الحاضر، وما ينفح مثل هذه الاستراتيجية الحياة بالنسبة له ليس الخلاف على ما حدث بالماضي وما كانه الماضي فحسب ، بل هو أيضا اللايقين مما اذا كان الماضي ماضيا فعلا منتهيا و مختتما، ام كان لا يزال مستمرا لكن في أشكال قد تكون مختلفة. كما أن هذه المشكلة تنفح بالحياة كذلك أنواعا شتى من المناقشات حول التأثير وحول اللوم و المحاكمة والمسؤوليات وحول الوقائع الراهنة وواقع الحال في الراهن ايضا والأولويات المستقبلية، وبصيغة أكثر وضوحا حول تصورنا للعدالة الانتقالية كما قادها المغرب في الان بصيغ تغاضى فيها عن الإشكال الجغرافي الضاغط في الكتاب. ان الحس التاريخي عند محمد العربي المساري يتضمن ادراكا حسيا لا لماضوية الماضي فقط، بل لحضوره ايضا بوجود متآين و يؤلف نظاما متحاينا واعيا حد الوعي لموقعه في الزمن محاولا تأسيس لاستمرارية مع ماض تاريخي ملائم ، فالتأريخ للاختيارات السياسية الثلاث لمداخل العمل الوطني من خلال رجال بعينهم هي تذكير بالاحالة على الان الذي لا زال يراوح نفس الامكانيات والاطروحات الماضية في الفعل السياسي.

في الجهة المقابلة، يبدو الآخر طاغيا في الحضور في كتاب رياح الشمال، بل هو البوصلة التي تنتظم بها درر الكتاب، فحتى في نقاش مواضيع معرفية و ادبية كما هو الحال في فصل حول الصراع الثقافي في تطوان خلال الخمسينات و رغم ما قد يبدو عليه الامر من كونه نقاشا معرفيا الا انه في العمق يسيح الى مستويات مرتبطة بالموقف من الاخر المستعمر الاسباني، كما هو الحال في المقال النقدي الذي دبجه محمد العربي الخطابي في حق قصيدة قالها السيد محمد الكبداني والتي كان لها تداعيات سياسية اججتها النزاعات القائمة بين التيارات السياسية المتقاسمة للفعل السياسي بتطوان، و يبدو الامر اكثر وضوحا في الفصل المخصص لتنظيمات الحركة الوطنية في تطوان التي تبدو صراعات عصية عن الفهم اذا ما تم تغييب العنصر المركزي في العملية السياسية و هو ذلك الاسباني القابع في الادارة و الذي يخطط للمستقبل و يساهم في خلق تنظيم و يعمل على تسييج اخر، ويستدعي حلفاء جدد، ويحيي طرقا قديمة، في الوقت الذي تبدو فيه حركية التنظيمات السياسية كقطع شطرنج تتقادفها الاستخطاطيات المدروسة للإدارة الاسبانية. او ليس للأمر استمرار جارح في حاضرنا.

يبدو الامر نفسه قائما بالنسبة لعلاقاتنا مع الآخر على مستوى التمثل، فالتاريخ المغربي كما يتأوله الوطنيون بالمنطقة الخليفية يجلو الوعد غير المنجز غير المشبع بالتحرير والرفاه و مستتبعاته وهو وعد انتهكته اسبانيا و ثلة من العملاء حسب منظورهم، و تقوم الرؤية الأخرى الاسبانية على كونها قوة مقرة للحق معيدة الاشياء الى نصابها حامية لنا من طيشاننا وصبيانيتنا المتاصلة في افريقيتنا او عروبيتنا او اسلامنا، وهو ما نفهمه من الحوار الذي دار بين الجنرال فرانكو و الامين الريحاني، فكلا التاويلين صمدا طويلا و لازالا يملكان قوة الحضور في تفكير الطرفين، فإذا عدنا الى الكتابات الاسبانية خلال المد الكولونيالي بين 1860 و1912 ومن خلال أعمال متعددة تميل الى صنع تمثيلات للسيطرة على الثقافات الاجنبية، لكل من الكاتب الاسباني بيدرو دي الاركون في كتابه صفحات شاهد على حرب افريقية وبيرث غالدوس والاب ما نويل كاسطيانوس، حيث لا تعيد سردياتهم فقط انتاج الاقاليم القصية البعيدة، بل انهم يكتشفون طبيعتها، او ينفحونها بالحياة مستخدمين تقنيات سردية ووجهات نظر تاريخية و استكشافية وافكارا وضعية، فهذا بيريث غالدوس يسمح لنفسه بالحديث عن تطوان حتى قبل ان يراها وتطلع اليها كمدينة تحتضن سحر الشرق وينسج هذا الاخير حوارا مع شخصيات منها لا تقول الا ما تتطلع اليه مخيلة الكاتب، كانه لا يمكن لمحلي من كسطييخوس او تطوان ان يتكلم كلاما متناسقا الا بمسوغ اسباني، فلولا سرديته المصوغة بتمعن لما كان ثمة تاريخ يستحق الاخبار عنه ، وهذا بيدرو دي الاركون يشبه تطوان كمدينة من العاجمستعملا توصيفا يتماشى وتصور افريقيا التي يقتحمها الجيش الاسباني و تصور عن ساكنتها السود كما ورد بكتاب رياح الشمالويراها كذلك مدينة ذات مظهر شديد الاغراءفتحضر تطوان بالصورة التي تبلورها هذه الكتابات منشبكة غامضة متعالقة من هذا التزاحم القائم دائما على ابواب المخيلة الامتلاكية التحكمية كاقرب نقطة يمكن بلوغها تملكيا لتطوان، والتشبث بها والتفكير فيها وهو دخول عالي التخصص الى اماكن جغرافية ستبقى دائما حلبة للصراع، وهو استحضار وجر قسري للعالم غير الغربي الى التمثيلات من اجل التمكن من رؤيته ومعرفته معرفة متقنة وفوق كل شيئ من اجل القبض عليه والاحتفاظ به.كما تبدو طنجة من خلال جريدة الصباح مكانا مستباحا مكانا للتطاحن السياسي والدبلوماسي والعسكري الدولي حيث تحضر القوة في اعلى صورها ممتلكة القدرة و الطاقة على تقديم فرجة مثيرة بل مفرطة في ذهاب الاساطيل الحربية و مجيئها في استعراض بادخ للقوة, انه تاريخ الاخر على ارض الغير

ونجد في نفس الوقت وبعد نصف قرن و نيف من الاستقلال تصدر وفي سنة 2009 بالضبط كما هو مثبوت في كتاب رياح الشمال، تصدر لكاتبة اسبانية اسمها مارية ضوينياس رواية ترجم عنوانها السيد المساري ب الزمن بين غرزة واخرى جرت احداثها بين 1936 و 1939 بين طنجة و تطوان، لم تذكر صاحبتها فيها ولو شخصية مغربية واحدة ما عدا الشغالة، تبدو الحبكة الروائية كما بسطها السيد العربي المساري جميلة وفي مستوى عال ولكن اذا قمنا بفتح هذا النص على ما اندرج فيه وعلى ما اقصته مؤلفته ايضا على اعتبار ان الرواية شكل ثقافي اشتمالي تدميجي شبه موسوعي فاننا نلاحظ ان الحضور الاسباني بتطوان يصبح هو التاريخ الحقيقي الوحيد الجدير بان يسرد و يصبح هذا الحضور يصاغ كسردية خارجية ، بل يصبح جوهرا لا يخضع للزمن او التاويل، فرواية الزمن بين غرزة و اخرىحين تلغي الاصلاني المحلي التطواني، فإنها تغطي بشكل انيق مصادرة اسبانيا للمجال التطواني حيث تتخد القوة الشكل الانشائي المتمثل في اعادة تشكيل او اعادة ترتيب المادة المعلوماتية، وهي ليست ملزمة بإرضاء او إقناع الجمهور المحلي الاصلاني هذا، بل لقد بنت رؤيتها الفنية والسردية على صمت الاصلاني و غيابه. ان ما بدا انه مؤكد بالنسبة لهذا العمل الابداعي هو رؤيا للحظة تاريخية محددة كان لزاما على الكاتبة ان تقحم رؤيتها تجاوريا مع الرؤى التنقيحية المتنوعة التي استثارتها فيما بعد كتابات اخرى من نفس النوع تلك التي ابدعها جون اوستن و كونراد وفلوبير و نرفال والتي اخدت حصتها من النقد الطاعن في شرعية تملك الفضاء و البشر المغاير المختلف.

ماذا تغير بين 2009 و 1860 في النظرة و الرؤية سؤال ؟،

تبدو كتابات محمد العربي المساري قوية بسبب التذكير باشكالات نعتقد جميعا انها محسومة، او موضوعة على جدول التاريخ، او بديهية بسبب المعايشة ، لذا كلف الكاتب نفسه تذكيرنا دائما و في كل كتاباته بان الاطمئنان الى البداهات غبن للتفكير.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube