شخصياتمستجدات

إشكالية الإندماج و التعايش في المجتمع الإسباني.

الدكتور عبد الرفيع التليدي (جامعة ليريدا/كطالونيا/إسبانيا)

مما لاشك فيه أن إسبانيا تأتي ضمن قائمة الدول التي تستقبل عددا كبيراً من المهاجرين واللاجئين سنوياً من أصول مختلفة، حيث يعيش فوق أراضيها مهاجرون ينتمون إلى أكثر من 180 جنسية من مختلف دول العالم. وقد تجاوز مؤخرا عدد الأجانب المقيمين في إسبانيا 5.8 مليون شخص نظرا لعدة عوامل منها ما هو موضوعي و إقتصادي و إجتماعي ومنها ما هو مرتبط بالمناخ و بنوعية الحياة التي تعود عليها المواطنون الإسبان والتي تختلف إختلافا ملحوظا عن نوعية الحياة في باقي الدول الأوروبية الأخرى. كما أن إسبانيا تعتبر في نظر الكثيرين بلد الحريات وبلد يشكل إطارأ سياسيا و ديموقراطيا مستقرا و موحداً يضمن الحقوق الأساسية والحريات العامة للجميع. كما يعتبر المجتمع الإسباني واحدا من أكثر المجتمعات الأوروبية إنفتاحا على التغيرات الإجتماعية وإحتراما للحريات الفردية والجنسية وكذلك التعايش بين الأديان.

ورغم كل هذا، فإن إسبانيا تعتبر بلد مليء بالتناقضات على المستوى الإداري والاجتماعي والسياسي. ولفهم الموضوع جيداً وجب ربط الماضي بالحاضر و التذكير بأن إسبانيا تعتبر البلد الثالث على المستوى العالمي الذي يضم اكبر عدد من إعلانات اليونسكو للتراث العالمي والكنوز التاريخية مثل قصر الحمراء في غرناطة و هو قصرٌ أَثري وحصن شَيَّده الملك المسلم الاندلسي أبو عبد الله محمد الأول محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن نصر بن الأحمر بين 1238-1273 ميلادية في مملكة غرناطة خِلالَ النصف الثاني من القرن العاشر، و كذلك تراث المشي في “كامينو دي سانتياغو” الذي كان ولا يزال يعتبر من أقدم الطرق وأكثرها شهرة في القارة الأوروبية وهو بمثابة حج بالنسبة للذين يقومون به .إضافة إلى هذا، تعتبر إسبانيا مهد بعض العباقرة العالميين ( كل واحد حسب تخصصه) امثال سرفانتيس و غويا و فيلاسكيت و بيكاسو و سلفادور دالي وانطونيو غاودي. أما فيما يتعلق بحقوق وحريات الأجانب في إسبانيا وإستقرارهم وإندماجهم الإجتماعي في المجتمع الإسباني فهذا الموضوع أصبح يفرض نفسه خلال العقود الثلاثة الأخيرة و أصبح يثير إنتباه بعض الدارسين والمهتمين و يشكل هاجساً لبعض المسؤولين الحكوميين والمحليين و رؤساء الأحزاب السياسية ورؤساء جمعيات المهاجرين والمنظمات الغير حكومية لما له من حساسيات و خصوصيات يتم فهمها و تفسيرها و تأويلها حسب بعض المصالح و المفاهيم المتعددة والمتشابكة و حسب قدرة بعض المواطنين الإسبان على تقبل الٱخر كما هو و محاولة فهمه و التعايش معه. وكل هذه الأمور بالإضافة إلى كونها قد خلقت مجتمعا جديدا يتسم بالتنوع الديموغرافي و الثقافي والعرقي فغالبا ما تكون لها إنعكاسات سلبية في بعض الأحيان و تساهم في تعقيد العلاقة و التعايش بين أفراد هذا المجتمع نظراً لإختلاف ألسنتهم والوانهم وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم. و بالرغم من كل هذا فهي أمور تساهم بشكل كبير في غنى الحياة الإجتماعية والثقافية لهذا المجتمع.

أما إذا تعمقنا قليلاً في موضوع الإندماج والتعايش في المجتمع الإسباني فنجد أنه يعاني من مجموعة من الإختلالات والإشكاليات على عدة مستويات منها ما هو سياسي، إجتماعي، ثقافي ، عقائدي ومنها ما هو إقتصادي. فإذا أخذنا بعين الإعتبار الجانب السياسي، نلاحظ أن الدستور الإسباني لم يتم تغييره منذ أكثر من 43 سنة ويحتوي على أمور ليست في صالح المهاجرين وكذلك الشأن بالنسبة لقانون الأجانب الذي يعتبر المهاجرين في بعض الأحيان كمواطنين من الدرجة الثانية و خصوصا فيما يتعلق بحق المشاركة السياسية على خلاف أغلب الدول الأوروبية الأخرى. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه لا يحق لأي مواطن من أصل اجنبي المشاركة في الانتخابات سواء البلدية أو البرلمانية إلا إذا كان حاصلاً على الجنسية الإسبانية أو إذا كان بلده الأصلي قد وقع على إتفاقية المعاملة بالمثل مع الحكومة الإسبانية. إضافة إلى كون أغلب الأحزاب السياسية لم تستوعب بعد أهمية المواطنين من أصل أجنبي داخل الأحزاب و وجوب إعطائهم الفرصة والحق في التمثيلية السياسية و بالتالي الوصول إلى مراكز الحكم والتسيير في البلديات مثلاً أو الوصول إلى قبة البرلمان. وكل ما نلاحظ اليوم هو أن عدداً قليلاً جداً من المواطنين من أصول أجنبية منخرطين في بعض الأحزاب السياسية وعند إعداد اللوائح الإنتخابية غالباً ما يتم وضع أسمائهم في آخر هذه اللوائح. وأظن أن هذا الأمر يجب أن يتغير وان تعطى الفرصة للجميع بغض النظر عن الأصل أو العرق أو الجنس لكون أن أغلب المهاجرين الذين استقروا بإسبانيا لسنوات طويلة أصبحوا مواطنون و يجب أن تكون لهم نفس الحقوق والواجبات مثل باقي المواطنون الإسبان. و في هذا الإتجاه، ولكي نكون موضوعيين فقد بدأنا نلاحظ أن بعض الأحزاب سواء في كطالونيا أو في مناطق أخرى كالحزب الإشتراكي(PSC) والحزب اليساري الجمهوري الكطلاني (ERC) قد بدأت بالفعل، و لو بشكل محتشم، في تطبيق هذا الحق على أرض الواقع. واليوم هناك عضوين من أصل مغربي و من أصول أخرى في البرلمان الكطلاني وكذلك الشأن بالنسبة للبرلمان المركزي في العاصمة مدريد الذي يضم شخص من أصل سينيغالي.

فمن الناحية الإقتصادية فيلاحظ أنه هناك تمييز في التعامل بين باقي المهاجرين القاطنين في إسبانيا وبين المهاجرين المتقاعدين الذين يأتون من بعض الدول الإسكندنافية أو من بعض الدول الأوروبية الأخرى كألمانيا وإنجلترا مثلا مستغليين الظروف المناخية التي تشكل عامل جذب رئيسي لهم للإستقرار في المدن الجنوبية الشاطئية للمملكة الإسبانية. فهؤلاء المهاجرون يعاملون معاملة خاصة من طرف الإسبان لأنهم يشكلون مورد إقتصادي لهم و تراهم ينتظرون قدوم آخرين خلال العطلة الصيفية لتنمية مداخلهم المادية خصوصا وأن إسبانيا تعتبر بلد سياحي يعتمد كثيرا على السياحة لتحريك عجلة الإقتصاد. والشيء الإيجابي هنا هو أن هناك تطابقاً بين هؤلاء المهاجرون الأوروبيون وبين الإسبان على المستوى العقائدي و الثقافي و بعض العادات والتقاليد التي قد لا تختلف إختلافا كبيراً بين دولة أوروبية وأخرى.

أما على المستوى الإجتماعي، فيلاحظ أن بعض المواطنون الإسبان ينظرون إلى المهاجرين بصفة عامة كمنافسين حقيقيين على مستوى تلقي المساعدات الإجتماعية والتعويضات المرتبطة بالسكن و الأطفال وكذلك المطاعم المدرسية. وكل هذا يجعلهم ينظرون إليهم نظرة الحقد والكراهية إلى درجة العنصرية في بعض الأحيان. كما يلاحظ أن هناك بعض التمييز و بعض الصعوبات على مستوى كراء المنازل للمهاجرين حسب نوعيتهم وأصلهم. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض المهاجرين أنفسهم هم من يساهموا في تنامي هذه الظاهرة عبر القيام ببعض السلوكيات الغير مقبولة. إضافة إلى أن البعض منهم يتعاطى للإجرام والسرقة والمخدرات. وهذه الأمور كلها مجتمعة تساهم في إعطاء صورة سلبية عن المهاجرين وتزيد من تنامي التمييز والعنصرية ضدهم.

و من الناحية الثقافية والدينية فالإختلاف واضح وجلي لأن أي مهاجر كيفما كان أصله فهو يأتي إلى هذا البلد محملاً بثقافة بلده الأصلي وفي غالب الأحيان يسعى إلى الحفاظ عليها كما يسعى إلى تطبيق عاداته و تقاليده لأنها بكل بساطة تشكل جزءا مهما من نمط وطريقة عيشه ويصعب عليه التخلي عنها بل أكثر من هذا يحاول التعريف بها والترويج لها في كثير من المناسبات وهذا الدور غالبا ما تقوم به بعض الجمعيات. وفي بعض الحالات يكون هناك مشكل العقلية وطريقة التفكير حاضراً عند بعض المهاجرون المسلمون الذين يختلط عليهم كل شيء من الناحية الدينية و العادات و التقاليد والقوانين المحلية خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالجانب الطبي و الولادة عند النساء فيقومون ببعض التصرفات التي قد يؤدي بهم إلى المسائلة القانونية وربما إلى الإعتقال كما وقع مؤخراً لذلك المهاجر المسلم في مدينة مورسيا. و كذلك عندما يتعلق الأمر بفتح بعض أماكن العبادة من طرف الجالية المسلمة و خصوصا المساجد، ففي أغلب الأحيان يتم التصدي له من قبل بعض سكان الحي الذين يرفضون تواجد مثل هذه المساجد بالقرب من سكناهم بدعوى الإكتضاض أو الصداع مثلاً و التي غالبا ما تكون عبارة عن مآرب يتم تحويلها إلى أماكن للعبادة والصلاة.

و تجدر الإشارة هنا إلى أن إسبانيا تعتبر بلد التعايش منذ قرون وخصوصا عندما كان تحت حكم ملوك الأندلس المغاربة بعد الفتح الذي قام به طارق بن زياد في 27 أبريل من سنة 711م بعد أن عبر البحر المتوسط، حيث استمرت شبه الجزيرة الأيبرية نحو 800 سنة تحت حكم المسلمين. ولا يجب إنكار و إغفال ما تعرض له الموريسكيون من تنكيل وإضطهاد و طرد بعد هزيمة المسلمين يوم 2 يناير/كانون الثاني 1492 (897 هجرية) و إنتهاء وجودهم و سقوط مدينة غرناطة (التي كانت أخر معاقل المسلمين) بعد حوالي أربعة قرون من حروب شنتها ممالك الشمال المسيحية على الثغور الأندلسية فيما سُمي آنذاك بحروب الإسترداد. وعموما ما يلاحظ أن إشكالية الإندماج والتعايش تصبح إشكالية بالفعل عندما يتعلق الأمر بالمهاجرين من شمال إفريقيا كالمغاربة والجزائريين والتونسيون، والمصريون وآخرون الذين يسعون للحفاظ على ثقافتهم و هويتهم و يتجنبون الإنصهار والذوبان في المجتمع الإسباني، أما باقي الجنسيات سواء كانوا من دول أمريكا اللاتينية و بعض دول إفريقيا جنوب الصحراء ودول أوروبا الشرقية فليس هناك مشاكل معقدة وهم مقبولون إلى حد ما من طرف المجتمع المدني الإسباني نظراً لوجود بعض أوجه التشابه على المستوى الديني واللغوي. و على العموم فإن المهاجرون يشعرون بنوع من الإحترام و القبول و يسعون قدر المستطاع إلى التأقلم و الإندماج خصوصا الأطفال المزدادون هنا حيت تصل نسبة إندماجهم إلى 80% وهي واحدة من أعلى معدلات الإندماج في العالم.

وخلاصة القول أن قضية الإندماج والتعايش هي قضية مرتبطة بشكل كبير بالزمان والمكان والأشخاص والمحيط. و حسب أحد التقارير الخاصة بإسبانيا و الصادرة عن المنظمة الدولية للهجرة فإن: “التعايش معا لم يتم بناؤه بعد” ويجب العمل على بناء مساحات و فضاءات و وسائل مشتركة للوصول إلى الهدف المنشود في الإندماج والتعايش الحقيقيين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube