احمد رباصمستجدات

موقف ديكارت وأوغسطين من مسألة خلق الحقائق الأبدية (7/3)

أحمد رباص – حرة بريس

وفقا للتأمل الثالث من تأملات ديكارت، فكرة الله فكرة فطرية بالنسبة لي مثل فكرتي عن نفسي. فكرة الله مغلفة بالفكرة التي أكونها عن نفسي ككائن مفكر محدود. لأني لست كائنًا محدودا فحسب، بل أنا أيضا كائن محدود يرى نفسه على هذا النحو، ولا يتصور نفسه كذلك إلا بفكرة الكائن المفكر المحدود الذي لا يكونه.
فكرة الله هي فكرة الكائن غير المحدود والكامل. هذه الفكرة لا أصوغها من خلال تضخيم اكتمالاتي، بل أجسدها بالأحرى بقدر ما أنا الكائن المحدود الذي يتصور نفسه على أنه محدود، ويطمح إلى اكتمالات الكائن اللامتناهي الذي يكتمل إلى ما لانهاية له.
فكرة الله هي فكرة عن كائن بدون أدنى قيد، محايثة للفكرة التي أكونها عن ماهيتي. هذا هو السبب في أن هذه الفكرة مغلفة ليس فقط في فكرتي، ولكن أيضا في الفكرة عن كل ما أتصوره بجلاء ووضوح. لا أستطيع أن أتصور أي شيء بشكل جلي وواضح ما لم يجب أن أتصور الله بشكل أجلى وأوضح ، بحيث تكون فكرة الله هي الأجلى والأوضح من بين كل أفكاري الجلية والواضحة، على الرغم من أنني لا أفهم ( وأنا أعلم أنني لا يجب أن أفهم)، أنا المحدود وغير الكامل، طبيعة اللامتناهي والكامل. هذا الله، الذي أحمل بصمته، بل أنا بصمته، بعيدا عن صياغة الفكرة، هو سبب الحقيقة الموضوعية للفكرة التي تمثّله لي.
وهذا الله، الذي هو سبب الحقيقة الموضوعية للفكرة التي تمثله لي، هو السبب الأبرز لكل ما هو موجود (صوريا أو موضوعيا). إنه السبب البارز لكل حقيقة كيفما كانت وهو في نفس الوقت سبب تصوري لذاته، هو وحده موجود لذاته. إلله اللامتناهي والكامل هو بالتالي الله الكلي القدرة الذي يجعل كل ما هو موجود، دون أن يكون في ذلك محددا بأي شيء، من ماهيات (ياتي في مرتبتها الأولى جوهره الخاص) مثل الوجودات (ياتي في مرتبتها الأولى وجوده الخاص).
يحدد ديكارت في رسالته إلى ميرسين المؤرخة بسادس ماي 1630: “وجود الله هو الحقيقة الأولى والأكثر أبدية من جميع الحقائق التي يمكن أن توجد، والحقيقة الوحيدة التي تنطلق منها كل الحقائق الأخرى.”
لذلك تمثل فكرة الله بالنسبة لي جوهرا أو طبيعة حقيقية وثابتة، تسمح لي معرفتها باستنتاج صفات الله ووجود الله، حالما أكون متيقنا، وهذا هو الحال أخيرا في التأمل الخامس، من كون ما أتصوره بجلاء ووضوح منتميا إلى طبيعة شيء ما ينتمي بالفعل إلى ذلك الشيء.
أن يكون الله هو هذا الكائن الخلاق بشكل متكامل والذي لا يحدده شيء، ولا حتى جوهره الخاص، فهذا يعني أن قراراته لا يمكن فصلها فعليا، إن لم يكن عقليا، عن جوهره: ليس الله في حقيقته إلا في الفعل الوحيد والأبدي الذي به فقط يجعل كل ما هو موجود موجودا، من الماهيات وكذلك الوجودات، هذا الفعل الذي يجمع بين اللامبالاة والضرورة وفقا للحوار مع بورمان (في الفصل 23 من الجزء الأول من “المبادئ”). لا يوجد سوى فعل أبدي في الله حيث الرؤية والإرادة والفعل شيء واحد.
ذلك ما أكده ديكارت منذ عام 1630، على ما يبدو دون التفكير في القديس أوغسطين، ولم يتوقف عن تكراره لاحقا، لا سيما في الفصل 23 من الجزء الأول من “المبادئ”. تستبعد لا نهائية وكمالية الله أمكان أن تحدث فيه عمليات متعاقبة فقط بل متباينة، اسبقية منطقية، إن لم تكن زمنية، لغعل فهمه بالنسبة لفعل إرادته.
ومع ذلك، تطرح عدة أسئلة. لماذا يلجأ ديكارت إلى القديس أوغسطين؟ ولماذا لجأ إلى القديس أوغسطين سنة 1644؟ هل يمكننا أن ننسب إلى القديس أوغسطينوس مذهب المصادفة ، في الله ، في الرؤية والإرادة والفعل ، إذا لم نتمكن من أن ننسب إليه مذهب خلق الحقائق الأبدية الذي لا ينفصل عنه ديكارت؟ لا يمكننا الإجابة على السؤال الأخير دون تحليل مقطع من “الاعترافات” التي اقتبسها ديكارت في الرسالة إلى ميسلاند بتاريخ ثاني ماي 1644.
لا يمكننا الإجابة على الأسئلة السابقة دون مقاربة هذا المقطع من النصوص الديكارتية التي تحتوي على أسباب لجوء ديكارت إلى القديس أوغسطين، خاصة في ستة 1644. ما هي هذه النصوص؟ أولاً، النقطة السادسة من الإجابات السادسة. ثانيا، الفصل 23 من الجزء الأول من “المبادئ”، المتزامن مع الرسالة الموجهة إلى ميسلاند في ثاني ماي 1644.
في الفصل الثامن والثلاثين من الكتاب الثالث عشر من “الاعترافات”، يعارض القديس أوغسطين طريقتين للنظر إلى الأشياء الموجودة: طريقة الإنسان وطريقة الله.
يقول ديكارت: “أما بالنسبة لنا، فنحن نرى هذه الأشياء التي اوجدتها، لأنها موجودة. لكنك، لأنك تراها، فهي موجودة. أما نحن فنراها خارجنا لأنها موجودة وفينا لأنها حسنة. لكنك رأيتها مخلوقة حيث ارتأيت خلقها.”
(يتبع)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube