اقواس

حقنة البينيسلين

عبد السلام مستاكو شفشاون

حرارة جسدي النحيل مرتفعة، ربما فاقت الأربعين درجة على سُلم كفِّ والدتي التي ما أن تضع كفها على جبهتي حتى تعلن حالة الطوارىء الصحية في البيت، أول تدَخُل عاجل يكون بمنديل مبلل بماء صاقع تضعه فوق جبهتي لتخفيض الحرارة العليا، يأتي الدور بعد ذلك على رف صغير بالمطبخ بمثابة صيدلية صغيرة تتكون من علب زجاجية من كمون بلدي و زعتر وبعض العشوب التي أجهل اسماءها، تقوم بغليِها وتقديمها لي ساخنة جدا لعل حرارة جسدي الصغير تنخفض ببعض الدرجات. ألم في الرأس وانتفاخ في اللوزتين اللعينتين اللتان تمنعاني من بلع ريقي، احمرار في الخدين وألم في الجسم كله…إنه التهاب حاد في اللوزتين ( الكراجم او الحلاقم) لا بد من تدخل طبي عاجل لطرد هذه البكتيريا الطفيلية، علمت بعدها في دروس البيولوجيا المجهرية أنها تُدعى ب : سصطافيلوكوكتنتقل للعيش في جسم البشر لتتوالد وتتناسل على حسابه دون استئذان. تصطحبني والدتي صباحا لمستوصف باب العين القريب من البيت، رائحة المستوصف تُرهبني، خطوات الممرض والممرضة في البهو الطويل تزيد من دقات قلبي وارتعاشي ليس من الحمى فقط ولكن مما ينتظرني من ألم وخز الحقنة العجيبة.يأتي دورنا للدخول عند الطبيب في مكتبه الأبيض الحديدي وبوزرته البيضاء المائلة للإصفرار، كل أثاث المكتب حديدي مع قليل من الصدء يعلو الخزانة الجانبية وسرير أبيض مائل تعلوه بعض البقع الحمراء الداكنة، لم يتأخر الطبيب كثيرا ليطلب مني أن أفتح فاهي ليُدخِل فيه شبه ملعقة حديدية طويلة الشكل ويأمرني بنطق حرف آ Aaaaa. العملية صعبة للغاية نظرا لكبر حجم اللوزتين، لم يتردد الطبيب لحظة في كشف سبب معاناتي : عندو ” الكْراجم”، معنى ذلك أني كالعادة، سأمر فورا عند الممرض من أجل الحقنة اللعينة من البينيسيلين للفتك بالبكتيريا صطافيلوكوك.الطبيب يؤكد على والدتي بأخذ 7 حقن لمدة أسبوع كامل. بمجرد سماع الحقنة أرتعش في مكاني وأَوَدُّ لو أهرب من بين يدي الممرض والطبيب. في الوقت نفسه يكون الممرض يُحضر الحقنة في إناء حديدي به ماء يغلي على مرآي ومسمعي، هذا المشهد المرعب لازال عالقا بذهني. عملية تعقيم الحقنة والمقحنة في إناء حديدي مع ماء مغلي يفي بالغرض…المقحنة المتعددة الإستعمال، ربما حُقِن بها كل أبناء بلدتي لمدة طويلة.يبتسم المُمرض في وجهي ويزُف لي الخبر السعيد، علي أن ” أضرب” حقنة كل يوم لمدة أسبوع كامل.أُفَوض أمري لله، تضمني والدتي إليها ليُفرِغ بعد ذلك في وركي الأيسر الحقنة اللعينة من البينيسيلين حتى يتجمد رجلي لا أستطيع الحركة بعدها.ألعن صطافيلوكوك والبينيسيلين والحُقنة والمِقْحنة، لكن في الحقيقة أحس بتحسن في حالتي وهبوط سريع لحرارة جسدي الصغير.لا أتذكر أني استكملت وصفة الطبيب، واحدة كانت تكفيني، اختلِقُ عذرا لعدم العودة للممرض وإناءه الحديدي ومقحنته المتعددة الإستعمال.أتذكر مرة أني هربت من بين يديه وتركته هو و مِقحنته يُزمجِر ويُهروِل في بهو المستوصف ذو رائحة الكحول الأبيض والدواء الأزرق والأحمر. لكل داء دواء، فقط الدواء الأحمر Eosine للجروح، الدواء الأزرق Iode لوقاية الفم والأسنان، والمرهم العجيب “بومادا صفرا” لأمراض العيون، وقرص صغير أبيض لعلاج آلام البطن والمعدة. معاناة ما بعدها معاناة، تنخفض درجة حراتي، وأتظاهر بأني صرت على مايرام ولا مجال لاستكمال الحقنات السبع، أعود لمصاحبة أصدقائي للعب الكرة في ملعب المخيم ” camping” الذي تحول فيما بعد للمستشفى الإقليمي ببلدتي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube