شعر وأدب

قصة قصيرة: جيوفاني بوتزاتي بمستشفى بنصميم

                              مصطفى الزين

يومَ قرأتُ على أمي قصة “الطوابق السبعة” لدينو بوتزاتي، قريب والدي..قالت لي-رحمها الله- : لعل أحداث هذه القصة جرت في مستشفى يوجد في بلدها المغرب ؛ مستشفى لا يزال قائما، لكنه مغلق مهمل منذ عقود.. تعزف به الجن و ترقص الأشباح ، إسمه مستشفى بنصميم للأمراض التنفسية . وكم كانت دهشتي عظيمة عندما رأينا صُوَره، وقرأنا عنه في موقع غوغل..؛ فهو ، بالفعل ، يتكون من سبعة طوابق ، ويوجد وسط غابة من الأشجار الباسقة..وهما بنفس المواصفات، مما جعلنا نطرح سؤال إن كان الكاتب الإطالي -قريبي- زار هذا المستشفى المغربي الذي أغلق سنة 1973 ؛ أي بعد سنة واحدة من وفاته؟،أو ربما في نفس تلك السنة..؟
الأغرب هو أنني اليوم، ومنذ اثنين وعشرين يوما ، أي منذ الثالث من مارس2030 ؛ أوجد نزيل هذا المستشفى ، مستشفى بنصميم المغربي، الذي أعيد فتحه منذ ما يقارب ست سنوات..والأكثر غرابة هو كوني أحمل إسما يجمع ما بين اسم الكاتب بوتزاتي ،واسم بطل قصته جيوفاني كورتي! أنا جيوفاني بوتزاتي البالغ من العمر ستا وستين سنة، السن التي توفي عنها ذلك الكاتب القاص الكبير
(1906-1972) ! فهل يكون مقدورا لي أن أموت عن نفس ذلك العمر الذي يساوي ضعف عمر المسيح؟ أنا جيوفاني بوتزاتي الذي نجا من جائحة كوڤيد19، منذ عشر سنوات ، هناك بإيطاليا ، وماتت منها أمي المغربية ، ضمن عشرات الآلاف من الضحايا . . هل أنجو، مرة أخرى، من هذه الجائحة الجديدة..من هذا الڤيروس الأشد فتكا ، والذي يحب كثيرا الشيوخ من أمثالي، ويحب المعلولين وذوي الحاجات الخاصة..؟
ولكن، أحب أن أروي لكم كيف وصلت إلى هذا المستشفى الكبير ، أو بالأحرى الفندق الراقي من خمس نجوم؟ وكيف وصلت، أو وضعت، في الطابق الرابع؟
عندما توفيت أمي،قبل عشر سنوات(أما أبي ، فقد توفي وأنا طفل في نحو السابعة)، قررت أن أرحل وأستقر هنا ببلدي الثاني ، بلد أمي وأخوالي ، المغرب ، معتقدا أن بلدان الجنوب لا تعاني من هذه الجوائح المعولمة الجديدة ، بنفس حدة معاناة بلدان الشمال.. فنقلت تجارتي وشركتي الصغيرة المتخصصة في توريد قطع غيار المحركات والآلات الزراعية والصناعية إلى مدينة القنيطرة الواقعة على الساحل الأطلسي، قريبا من أخوالي بالرباط..وكنت أعرف جيدا المغرب لأني كنت أزوره باستمرار في العطل..بل تعلمت جيدا الدارجة المغربية .. فأنا مغربي بنفس قدر ما أنا إيطالي (بوتزاتي)..نجحت تجارتي بشكل مذهل..وفتحت فروعا بخمس مدن أو مناطق مغربية..ولكن هذه الجائحة الجديدة ،وهي الثالثة، في ظرف عشر سنوات، أصابتني بما يشبه شللا كاملا في أطرافي ، وضيق التنفس.. وجاء أحد أبناء أخوالي فنقلني إلى بيته بالرباط، ثم اقترح علي الإنتقال إلى هذا المستشفى الكبير الذي أصبح ذائع الصيت عالميا..وبما أنني لا أولاد لي، لم أطرح أبدا مسألة المقابل المادي ، بقدر ما أكدوا لي أن نسبة الشفاء من هذا الوباء القاتل، هي عندهم ،ما يقارب ستين في المائة، بينما خارج هذا المستشفى لا تتجاوز الثلاثين؛ بمعنى أن نسبة الشفاء فيه مضاعفة ، وكنت في حالة استسلام تام لإرادة ابن خالي ولإرادة وإدارة هذا المستشفى..
لا أذكر كيف وصلت إلى هنا، إلا بعدما أسعفوني ، وأبللت قليلا ، ونزعوا عني جهاز التنفس، واسترجعت إحساسي نسبيا بالزمان والمكان.. وتلقيت مكالمات من أخوالي أكدوا لي، من خلالها ، أني نقلت ، قبل خمسة أيام ، عبر طائرة هلوكبتير تابعة لبنصميم..ثم سمعت ورأيت الطائرة، بل اثنتين أو ثلاثة، لا تكف عن النزول أو الإقلاع كل ثلاث ساعات أو أربعة من ساحة المستشفى، أو من سطحه.. وأن الذين تقل أعمارهم عن أربعين يُنزلون أو يُحملون من الساحة ، بينما من هم فوق الأربعين ينزلون أو يحملون من مطار السطح..فأنا ،إذن أنزلت عبر السطح إلى الطابق السابع الأعلى،كما كان شأن جيوفاني الآخر في قصة بوتزاتي الآخر الكاتب..غير أن جيوفاني الآخر( كورتي) كان يتم إنزاله، من طابق أعلى إلى الأدنى ، بحجة تردي حالته أو حاجته إلى العلاج والعناية الأحسن ، إلى أن تردى إلى الطابق الأسفل الأرضي ،حيث الأموات أو المحتضرون والستائر الغامقة المسدلة ؛أما أنا جيوفاني بوتزاتي الذي أحكي الآن، فقد تم إنزالي من الطابق السابع إلى السادس، ثم إلى الخامس، ثم إلى الرابع، حيث أنا منذ أسبوع ؛ بدعوى أن حالي ووضعي الصحي يتحسن .. أي أني أتعافى ..ومن خلال محادثتي مع الممرضات، ومع بعض الأطباء، استنتجتُ أن الأطفال و الشباب دون الأربعين الذين يتم استقبالهم في الطابق الأرضي، وكلما ،تحسنت حالة الواحد منهم وأخذ يتعافى إلا ويتم تصعيده إلى الطابق الأعلى..وعرفت أن الطابق الرابع هو الطابق الوحيد الذي يلتقي فيه المتعافون الصاعدون أو النازلون، المحتفظ بهم تحت المراقبة الصحة..فإذا ما شفي الصاعد تماما ، كان عليه أن يصعد باقي الطوابق حتى السطح على قدميه ، فترحل به الهلكپتير..وبالمقابل،فإن من شفي تماما من النازلين من أمثالي-وأنا لم أشف بعد- كان عليه أن يكمل النزول على قدميه إلى الطابق الأرضي ..وإلى الساحة، حيث يرحل مع الراحلين عبر الهلكپتير..
فماذا عن الذين لا يشفون ، سواء من الصاعدين أو النازلين؟ ماذا عن الذين تنتكس حالتهم ووضعم الصحي؟ في هذا الطابق الرابع البرزخي؟ ماذا لو انتكست صحتي من جديد ، أنا جيوفاني بوتزاتي ، الذي هو في منتصف عقده السابع..؟
أخبرني فتى مراهق من الصاعدين ، ما فتئ يتقرب إلي ، لأنه لم يكن يعرف إلا الإطالية ؛ أخبرني بأن من ينتكس من النازلين ، يتم تصعيده مرة أخرى..وبالمقابل فإن من ينتكس من الصاعدين يتم إنزاله مرة أخرى..، وكان الفتى لا يخامره شك، بأنهم سيسمحون له ، بعد يوم أو يومين ، بالصعود على قدميه إلى السطح ، وقال لي مشجعا إنه لا يشك، أيضا، أنني سأنزل إلى ساحة المستشفى على قدمي، لأرحل عبر الطائرة الحوامة ، وكتب لي عنوانه بإيطاليا راجيا أن نلتقي هناك ،”إن شاء الله” ،كما قال بعربيته المكسرة..
وأنا أعتقد أنني سأشفى،إن شاء الله ..هاأنذا أقف وأمشي.. وألعب بيديَّ؛ ولكني أعلم أن الطائرة الحوامة تأخذ في رحلاتها من المستشفى، سواء عبر الساحة أو عبرالسطح ، كلا من الموتى أو الذين يتم شفاؤهم ..ولكن،
إلى حيث لا أدري..إلى حيث لا أدري..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube