شعر وأدبمستجدات

سفينة النسيان/ الحلقة الرابعة المبدع البجوقي

هافانا ليست مجرد مدينة، إنها رواية..في الحلقة السابقة سفينة النسيان/ الحلقة الرابعة
هافانا ليست مجرد مدينة، إنها رواية..
في الحلقة السابقة واصلت رحلتي في العاصمة الكوبية مع العجوز الحكيم والخريطة التي تقود إلى كنز الثورة الكوبية المزعوم، وما رافق ذلك من أحداث وتخللها من مشاهد. في هذه الحلقة أواصل جولتي في هافانا وأزقتها أنقل مشاهدها وأحاورها ، وأنبش في عجائبها وأطلال تروي قصص التحدي والفرحة وشقوق الألم، وحكايات ألف ثورة وثورة..

هافانا ليست مجرد مدينة، إنها رواية، أبوابها المتهالكة تُفتَح على أغانٍ تنبعث من أعماق الحي، وشرفاتها تحمل ضحكات الأطفال، وأزقتها تصدح بأنغام موسيقى الجاز والسامبا. في أزقة هافانا العتيقة يتحول الألم إلى جمال، والعوز إلى إبداع. كوبا ليست فقيرة، بل غنية بما لا تستطيع النقود أن تشتريه، حياة تفيض من بين الشقوق، وكبرياء يطل من كل زاوية.
تذكرت وأنا أقف أمام اللوحات التي تؤثث فضاءات المدينة العتيقة وأزقتها أن الفن، حتى في أبسط أشكاله، هو انعكاس للإنسان. هافانا تُعلِّمنا أن الروح الحرة قادرة على صنع الجمال حتى من ركام الأشياء والمتلاشيات.

هافانا القديمة، بعراقتها وسحرها وألوانها ونجوم سمائها وأبواب منازلها المتهالكة، حملتني في اليوم الرابع من رحلتي الكوبية إلى قلب حكايات لم أكن أتوقعها. مشيتُ في أزقتها الضيقة المبلطة بالحجر، ووجدت نفسي محاطًا بجدران متداعية تكسوها ألوان باهتة تحاول مقاومة الزمن. رائحة الملح والبحر تختلط بصوت خطوات عجوز يجرُّ عربة خشبية صغيرة محملة بحلوى محلية، ينادي عليها بصوت مبحوح كأنما يعاند الزمن والحصار.
عجبتُ لهذه المدينة التي تبدو وكأنها توقفت عند حقبة زمنية لم تغادرها أبدًا. السيارات الأمريكية العتيقة تجوب الشوارع، وكأنها تتحدى الفقر والحظر بسحرها البسيط وأناقتها التي تشي بعظمة ماضٍ يرفض النسيان. رأيتُ وجوهًا قادمة من زمن بعيد، خِلْتُ بعضهامن سلالة الريكوتي الموريسكية الهاربة من رواية دونكيشوط دي لامانشا، امرأة مسنّة تجلس على شُرفة خشبية متهالكة، تعقد شعرها الأبيض بضفيرة، تضع الأحمر على شفتيها وتحمل بين يديها سيجارًا عتيقًا. عيناها تُتابعان حركة الأطفال في الساحة أسفل المنزل، وكأنها تراقب انعكاس أحلامها التي لم تتحقق في هذه الوجوه الصغيرة.
لم يكن المشهد غريبًا بقدر ما كان مؤثرًا. عازف غيتار عند زاوية الشارع، يُغني بكلمات حزينة عن وطنه. الصوت يحمل معه شجنًا خفيًا، يلتقي بعيون السياح الذين يستمعون في صمت. شعرتُ للحظة أني غريب داخل حلمه المُتعب، أني أعيش وَهْم الحرية الذي يتناقض مع نظرة طفل يركض حافي القدمين، حاملًا بين يديه كرة صنعها من خرقة قديمة.
المقاهي الصغيرة المنتشرة في الأركان تقدم القهوة الداكنة، بعبق لا تخطئه الأنف. جلستُ على كرسي خشبي صغير، وتناولت فنجان قهوة ساخن بينما كانت موسيقى الصالصا تتسلل إلى مسامعي من بعيد. كان المشهد متناقضًا حد الإدهاش: البساطة المفرطة، والكفاح المستمر، نظرات ثاقبة يملآها بريق العناد، والفرح المؤقت الذي يُغطي شقوق الألم..
المدينة العتيقة في هافانا ليست مجرد مكان، إنها شعور، صراع وسراب حلم جماعي لشعب يقاوم كل ما يُثقل كاهله من حظر وعقوبات، وأيضًا صدى شعارات قديمة كانت تطمح لتغيير العالم لكنها تحولت مع الوقت إلى أطلال تروي قصة التحدي وحكايات ألف ثورة وثورة.
الحياة هنا في هافانا تتنفس إيقاعًا خاصًا بها، رغم قسوتها. استوقفني طفل يحمل ورقة رسم عليها علم كوبا بألوان زاهية، وكأنما يريد أن يعلن أن الحلم ما زال حيًا، حتى وإن عجز عن مغادرة جدران هذه المدينة المتعبة.
هافانا، المدينة التي يتداخل فيها البهاء بالحطام، حيث تختلط العراقة بالوجع. مشهد الشارع الذي عبرتُه اليوم بدا كأنه مرآة تعكس الوجه الآخر من الحلم الكوبي، أكوام من النفايات تتناثر على جانب الطريق، وسط مبانٍ متهالكة تصارع الزمن والعزلة، الهياكل المعدنية الصدئة التي كانت يومًا ما جزءًا من مشاريع صناعية كبرى، صارت الآن أطلالًا تشهد على موت الأحلام، أحلام ثورة تخبو ببطء وتستعد لأن يبتلعها صمتُ الكون، فقط ضجيج الأطفال وفرحهم ، نظرات العجوز الحكيم وابتسامته الغامضة، المُسنة التي تعقد شعرها الأبيض بضفيرة وتضع الأحمر على شفتيها كأنها عروس في يوم زفافها ترسم ضوءًا خافتا يهمس لمن يجرؤ على الحلم مجددا ويؤمن بأن النار قد تنطفئ لكن طائر الفنيق يعود من رماده.
توقفت للحظات أتأمل المكان، أتأمل الجدران التي كانت يومًا زاهية الألوان وفقدت بريقها، تآكلت وباتت تُظهر طبقاتها القديمة كما لو أنها تحكي قصة طويلة من الصمود والخذلان. رجل منحني الظهر يبحث وسط القمامة، يمسك بيده كيسًا صغيرًا يجمع فيه ما يمكن إعادة استخدامه، من بعيد تبدو حركته آلية، كأنها جزء من يوميات لا نهاية لها.
في وسط هذا المشهد الكئيب، كان هناك صدى حياة لا يرحل، صوت طفل يضحك، يركض بين الحطام مع كرة مهترئة، يرسم ابتسامة على وجه من يراقبه. تساءلتُ: كيف يمكن للفرح أن ينمو وسط هذا الخراب؟ كيف يمكن أن تعيش الأرواح هنا وسط ثقل الحصار والجدران المتداعية؟
المكان بدا لي لوحة حزينة مرسومة بألوان متناقضة، خلفية من البؤس ولكن عليها لمسات من الحياة، زهور برية تنبت على حواف الطريق المليء بالنفايات، كأنها تُصِرُّ على إعلان استمرار الحياة رغم كل شيء.
المشهد دفعني للتفكير بعمق: هل هذا الخراب نتيجة الحصار فقط؟ أم أنه أيضًا انعكاس لحلم حمل أعباءه أكثر مما يحتمل؟ هنا، يتداخل الماضي المثقل بالشعارات مع حاضر مُتعب يشق طريقه بصعوبة وسط أكوام القمامة والأحلام المكسورة ومستقبل غامض ومجهول.
هافانا القديمة ليست فقط مبانيها المتهالكة وأزقتها الضيقة، بل هي قصة شعب يحيا على الحافة، يمزج بين الاستسلام والمقاومة، بين البؤس والفرح المؤقت. شعرتُ وأنا أغادر المدينة أن كل خطوة أخطوها تنقلني ليس فقط عبر المكان، بل عبر طبقات متراكمة من التاريخ والوجع الإنساني وأحلام أحفاد الريكوتي وصانشو بانصا تُبحر على متن سفينة النسيان. رحلتي في العاصمة الكوبية مع العجوز الحكيم والخريطة التي تقود إلى كنز الثورة الكوبية المزعوم، وما رافق ذلك من أحداث وتخللها من مشاهد. في هذه الحلقة أواصل جولتي في هافانا وأزقتها أنقل مشاهدها وأحاورها ، وأنبش في عجائبها وأطلال تروي قصص التحدي والفرحة وشقوق الألم، وحكايات ألف ثورة وثورة..هافانا ليست مجرد مدينة، إنها رواية، أبوابها المتهالكة تُفتَح على أغانٍ تنبعث من أعماق الحي، وشرفاتها تحمل ضحكات الأطفال، وأزقتها تصدح بأنغام موسيقى الجاز والسامبا. في أزقة هافانا العتيقة يتحول الألم إلى جمال، والعوز إلى إبداع. كوبا ليست فقيرة، بل غنية بما لا تستطيع النقود أن تشتريه، حياة تفيض من بين الشقوق، وكبرياء يطل من كل زاوية.تذكرت وأنا أقف أمام اللوحات التي تؤثث فضاءات المدينة العتيقة وأزقتها أن الفن، حتى في أبسط أشكاله، هو انعكاس للإنسان. هافانا تُعلِّمنا أن الروح الحرة قادرة على صنع الجمال حتى من ركام الأشياء والمتلاشيات. هافانا القديمة، بعراقتها وسحرها وألوانها ونجوم سمائها وأبواب منازلها المتهالكة، حملتني في اليوم الرابع من رحلتي الكوبية إلى قلب حكايات لم أكن أتوقعها. مشيتُ في أزقتها الضيقة المبلطة بالحجر، ووجدت نفسي محاطًا بجدران متداعية تكسوها ألوان باهتة تحاول مقاومة الزمن. رائحة الملح والبحر تختلط بصوت خطوات عجوز يجرُّ عربة خشبية صغيرة محملة بحلوى محلية، ينادي عليها بصوت مبحوح كأنما يعاند الزمن والحصار.عجبتُ لهذه المدينة التي تبدو وكأنها توقفت عند حقبة زمنية لم تغادرها أبدًا. السيارات الأمريكية العتيقة تجوب الشوارع، وكأنها تتحدى الفقر والحظر بسحرها البسيط وأناقتها التي تشي بعظمة ماضٍ يرفض النسيان. رأيتُ وجوهًا قادمة من زمن بعيد، خِلْتُ بعضهامن سلالة الريكوتي الموريسكية الهاربة من رواية دونكيشوط دي لامانشا، امرأة مسنّة تجلس على شُرفة خشبية متهالكة، تعقد شعرها الأبيض بضفيرة، تضع الأحمر على شفتيها وتحمل بين يديها سيجارًا عتيقًا. عيناها تُتابعان حركة الأطفال في الساحة أسفل المنزل، وكأنها تراقب انعكاس أحلامها التي لم تتحقق في هذه الوجوه الصغيرة.لم يكن المشهد غريبًا بقدر ما كان مؤثرًا. عازف غيتار عند زاوية الشارع، يُغني بكلمات حزينة عن وطنه. الصوت يحمل معه شجنًا خفيًا، يلتقي بعيون السياح الذين يستمعون في صمت. شعرتُ للحظة أني غريب داخل حلمه المُتعب، أني أعيش وَهْم الحرية الذي يتناقض مع نظرة طفل يركض حافي القدمين، حاملًا بين يديه كرة صنعها من خرقة قديمة.المقاهي الصغيرة المنتشرة في الأركان تقدم القهوة الداكنة، بعبق لا تخطئه الأنف. جلستُ على كرسي خشبي صغير، وتناولت فنجان قهوة ساخن بينما كانت موسيقى الصالصا تتسلل إلى مسامعي من بعيد. كان المشهد متناقضًا حد الإدهاش: البساطة المفرطة، والكفاح المستمر، نظرات ثاقبة يملآها بريق العناد، والفرح المؤقت الذي يُغطي شقوق الألم..المدينة العتيقة في هافانا ليست مجرد مكان، إنها شعور، صراع وسراب حلم جماعي لشعب يقاوم كل ما يُثقل كاهله من حظر وعقوبات، وأيضًا صدى شعارات قديمة كانت تطمح لتغيير العالم لكنها تحولت مع الوقت إلى أطلال تروي قصة التحدي وحكايات ألف ثورة وثورة.الحياة هنا في هافانا تتنفس إيقاعًا خاصًا بها، رغم قسوتها. استوقفني طفل يحمل ورقة رسم عليها علم كوبا بألوان زاهية، وكأنما يريد أن يعلن أن الحلم ما زال حيًا، حتى وإن عجز عن مغادرة جدران هذه المدينة المتعبة. هافانا، المدينة التي يتداخل فيها البهاء بالحطام، حيث تختلط العراقة بالوجع. مشهد الشارع الذي عبرتُه اليوم بدا كأنه مرآة تعكس الوجه الآخر من الحلم الكوبي، أكوام من النفايات تتناثر على جانب الطريق، وسط مبانٍ متهالكة تصارع الزمن والعزلة، الهياكل المعدنية الصدئة التي كانت يومًا ما جزءًا من مشاريع صناعية كبرى، صارت الآن أطلالًا تشهد على موت الأحلام، أحلام ثورة تخبو ببطء وتستعد لأن يبتلعها صمتُ الكون، فقط ضجيج الأطفال وفرحهم ، نظرات العجوز الحكيم وابتسامته الغامضة، المُسنة التي تعقد شعرها الأبيض بضفيرة وتضع الأحمر على شفتيها كأنها عروس في يوم زفافها ترسم ضوءًا خافتا يهمس لمن يجرؤ على الحلم مجددا ويؤمن بأن النار قد تنطفئ لكن طائر الفنيق يعود من رماده. توقفت للحظات أتأمل المكان، أتأمل الجدران التي كانت يومًا زاهية الألوان وفقدت بريقها، تآكلت وباتت تُظهر طبقاتها القديمة كما لو أنها تحكي قصة طويلة من الصمود والخذلان. رجل منحني الظهر يبحث وسط القمامة، يمسك بيده كيسًا صغيرًا يجمع فيه ما يمكن إعادة استخدامه، من بعيد تبدو حركته آلية، كأنها جزء من يوميات لا نهاية لها.في وسط هذا المشهد الكئيب، كان هناك صدى حياة لا يرحل، صوت طفل يضحك، يركض بين الحطام مع كرة مهترئة، يرسم ابتسامة على وجه من يراقبه. تساءلتُ: كيف يمكن للفرح أن ينمو وسط هذا الخراب؟ كيف يمكن أن تعيش الأرواح هنا وسط ثقل الحصار والجدران المتداعية؟المكان بدا لي لوحة حزينة مرسومة بألوان متناقضة، خلفية من البؤس ولكن عليها لمسات من الحياة، زهور برية تنبت على حواف الطريق المليء بالنفايات، كأنها تُصِرُّ على إعلان استمرار الحياة رغم كل شيء.المشهد دفعني للتفكير بعمق: هل هذا الخراب نتيجة الحصار فقط؟ أم أنه أيضًا انعكاس لحلم حمل أعباءه أكثر مما يحتمل؟ هنا، يتداخل الماضي المثقل بالشعارات مع حاضر مُتعب يشق طريقه بصعوبة وسط أكوام القمامة والأحلام المكسورة ومستقبل غامض ومجهول.هافانا القديمة ليست فقط مبانيها المتهالكة وأزقتها الضيقة، بل هي قصة شعب يحيا على الحافة، يمزج بين الاستسلام والمقاومة، بين البؤس والفرح المؤقت. شعرتُ وأنا أغادر المدينة أن كل خطوة أخطوها تنقلني ليس فقط عبر المكان، بل عبر طبقات متراكمة من التاريخ والوجع الإنساني وأحلام أحفاد الريكوتي وصانشو بانصا تُبحر على متن سفينة النسيان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube
Set Youtube Channel ID