ترددتُ في نشر هذه الحلقة التي لم تكن مُبرمجة، لكنني توقفت أثناء مراجعة انطباعاتي الأخيرة عن رحلتي الكوبية عند صدفة اكتشافي لمسجد الشيخ عبدالله في العاصمة هافانا ، وجاءت صياغة هذا النص مختلفة عن سابقيه، اختلطت فيه الأحداث والوقائع بالخيال وحواري مع الشيخ ومع الذات حول قضايا وجودية، وأخرى ربما تجد لها انعكاسا على واقعنا اليوم في دول ماسُمي بالربيع العربي.. أو قد يكون إقحاما لا ضرورة له، والحكم للقارئ على كل حال.”الله يعيش في عقول الناس”في قلب هافانا ، وبينما كنت أتجول في أزقة المدينة العتيقة متأملاً ذلك المزيج الساحر بين العمارة الاستعمارية الإسبانية وروح وصخب حياة الكوبيين العفوية والمرحة، جذب انتباهي مبنى بسيط بواجهته البيضاء ولوحة تحمل كتابة عربية: “مسجد عبد الله”. تعتلي البناية صومعة صغيرة مُزينة بفسيفساء أندلسي تتوسطها كرة نحاسية يعلوها مجسم هلال صغير مُضيء لم أصدق عيني في البداية؛ مسجد في قلب هافانا؟ انتابني حينها شعور غريب بالغبطة والاندهاش، لعل دهشتي باكتشاف مسجد في قلب هافانا تُجسِّد انكسار الصور النمطية التي نحملها عن الأماكن، كما عن الانسان، تلك الصور التي تتشكل بفعل سرديات كبرى وأحيانًا مغلوطة عن الآخر. غبطتي ليست أساسا لما يرمز له المسجد من علامة دينية في بلد كان إلى وقت قريب يمنع كل المعابد الدينية بما فيها الكنائس، بل كانت كذلك لما تعني من علامة تعدد مصادر الهوية الكوبية الغنية بثقافاتها المتنوعة، يبدو المسجد هنا علامة على تسرُّب الروحانية إلى فجوات خرائط، وأمكنة لا نتوقعها.هافانا، بملامحها الكاريبية المُفعمة بصخب الموسيقى ورائحة السِّيجار، تكتنز في أعماقها سرديات متشابكة عن الهجرة، والتلاقح الثقافي، والبحث عن الذات. ربما هذا المسجد ليس مجرد بناء، بل شهادة على قدرة الإنسان على حمل هويته عبر الحدود، مهما بدت المسافات الزمانية والمكانية عصيّة.مثلما كتب غارسيا ماركيز عن السحر الكامن في الحياة اليومية، يمكننا أن نتأمل المسجد في هافانا كعنصر من “الواقعية السحرية” للحياة الإنسانية: مزيج من الروحانية والغرائبية والاعتياد الذي يخلق مشهدًا فلسفيًا يتحدى تصوراتنا المسبقة عن الممكن والمستحيل.وقفت أمام الباب الخشبي الداكن متردداً، قبل أن أقرر الدخول، كان الصمت يخيم في الداخل، يلفه إحساس بالسكينة، رجل كوبي أسود يرتدي جلباباً أبيض وعمامة بسيطة يُرحب مبتسما بقدومي، يمسح بين الفينة والأخرى لحيته وتعلو وجهه ابتسامة عذبة كالتي تعلو وجوه كل الكوبيين. قدم لي نفسه بلكنته الكوبية وبصوت دافئ قائلا: “أنا الشيخ عبد الله”، صوته يحمل في نبراته زخما من الحكايات الطويلة في رحلته الروحية نحو الإسلام.وقفنا سوياً خارج المسجد لالتقاط صورة، وعلى الرغم من اختلافاتنا الثقافية واللغوية، انتابني شعور كأننا نعرف بعضنا منذ زمن بعيد. أخبرني الشيخ عبد الله عن رحلته إلى الإسلام، وكيف كان بحثه عن السلام الداخلي دافعاً لاكتشاف هذا الدين. قال لي: “الإسلام ليس فقط ديناً بالنسبة لي، بل هو حياة جديدة، نور في قلب هذه المدينة القديمة، وإضافة ثمينة لتعدد منابع ثقافاتنا”بينما كنا نتحدث، كان يشير بيده إلى السماء قائلاً: “الله واحد، ونحن جميعاً إخوة”. شعرت حينها بمزيج من الإعجاب والتواضع أمام قوته الروحية وابتسامته التي لا تفارق وجهه، كانت علامات البهجة والحماس والفرحة بادية عليه وهو يحاورني ويسألني عن المغرب والمغاربة والمسلمين، تغيرت ملامح وجهه وهو يسألني عن غزة ولبنان وجرائم الدولة/العصابة دون أن يذكر إسمها، دعاني للدخول إلى المسجد حيث جلسنا القرفصاء على سجاد بسيط يُغطي أرضية قاعة الصلاة وهو ينطق بصعوبة وفرح طفولي ” الحمدلله، الحمدلله..” بدت لي الفرصة سانحة لأسأله عن إسلامه، وبادرته حينها بنفحة من الاستفزاز:”الحمدلله على نعمة الإسلام، لكن كيف اهتديت إلى الله في بلد شيوعي؟”ابتسم الرجل، وكانت ابتسامته هذه المرة غامضة ذكّرتني بابتسامة العجوز الحكيم، نظر إلي مَلِيّا وأجابني بهدوء:”الله يعيش في عقلك Dios vive en tu cabeza” فاجأني الشيخ عبدالله بالجواب، لم أكن أتوقع جوابا بهذا العمق الفلسفي من مسلم وفي رحاب مسجد، نجح الرجل في إرباكي، يبدو أنه قرأ ما يدور بخلدي واستبقني، وبابتسامته الغامضة واصل:”أخي العزيز، أنا قادم للإسلام من ديانة تسمى الأوريشا، هي في الأصل امتداد للروحانية الافريقية التي عبرت المحيط مع أجدادي من العبيد واستقرت في كوبا وأمريكا الجنوبية، إنها ليست ديانة بمعنى الديانات السماوية، ليست طقوسا ولا شعائر، هي تجربة إنسانية تمزج بين الحكمة الإفريقية وحتمية التكيف مع ظروف العبودية والغربة والقهر، هي رؤية شاملة للوجود والحياة، وكانت طريقي إلى اعتناق الإسلام”لم أكن أنتظر جوابا بهذا العمق، لمستُ نفحة صوفية في قناعاته، قناعات لم يكن مصدرها الحلاج أو ابن عربي أو جلال الدين الرومي، بل مصدرُها إفريقيا، من عمق إفريقيا قبل أن يستعبد الرجل الأبيض رجالها ونساءها وأطفالها برفقة مبشرين من الديانات السماوية، أربكني جواب الرجل وهدوءه وهو يحدثني عن الإله أوريشا من داخل مسجد في هافانا. أخبرني أنه يؤمُّ مسلمين في الصلاة من السنة والشيعة، أنه يؤم الصلاة بكل من يقطن الله في عقله.غادرت المسجد بعد عناق حار ألحَّ عليه الشيخ عبدالله، أفرغتُ ما في جيبي في صندوق دعم المسجد وواصلت جولتي الأخيرة في مدينة هافانا متوجها إلى بناية الكابيتوليو التي تتوسط المدينة، نسخة طبق الأصل تقريبا لبناية الكابيتولو أو مجلس النواب الأمريكي، مفارقة أخرى من مفارقات هذه المدينة، توقفت في الساحة المقابلة للبناية أمام طابور السيارات القديمة بألوانها الافريقية الفاقعة، أصوات الدعابة والمرح تملأ المكان، شابة كوبية كاملة الأوصاف، ربما اعتقدت أنني مكسيكي وبادرتني بمرح “عاش المكسيك Viva Mexico ” لكن حديث الشيخ عبدالله الكوبي استمر يرافقني، تفسيراته للدين والايمان وتعبير “الله يعيش في عقلك” ليس مجرد حكمة دينية، بل هي مفتاح لرؤية إنسانية عميقة، التعبير يعكس قناعة أساسية في ديانة الأوريشا بأن الإله أو القوة العليا ليست منفصلة عن الانسان أو الطبيعة ، بل هي جزء لا يتجزأ من ذاته ووعيه. هذا التعبير أو القول يكسر الحاجز بين المُقدس والعادي، بين الإلهي والإنساني ليجعل من العقل البشري مكانا يتفاعل فيه الوجود الروحي والمادي. حضرتني أسئلة كثيرة وربما ساذجة عن علاقة الأوريشا بتفسيرات ابن رشد عن العقل والنص، بدا لي حينها أن هناك خيط رابط بين هذه العبارة وفكرة الذات العارفة لدى ديكارت (أنا أفكر، أنا موجود)، إذا كان التفكير هو أساس وجودنا، فإن وجود الإله في العقل يعني أن الادراك والوعي هما الطريق إلى الله، وهنا الله ليس كيانا بعيدا يحتاج إلى وسطاء، بل هو فكرة حيّة تتجسد في عقولنا من خلال التأمل، الإبداع والمحبة، وانتقل بي التفكير كذلك لفكرة الجوهر الإلهي المشترك التي تحدث عنها سبينوزا، حيث يرى أن الإله هو الكل، وأن العقل البشري هو إحدى تجليات هذا الكل. بدا لي حينها أن رسالة الشيخ عبدالله أننا عندما نعي وجود الله في عقولنا، فإننا نشارك في وعي أوسع وأعمق للكون.كانت هذه آخر المفارقات التي واجهتني في رحلتي الكوبية، أو المفارقة ما قبل الأخيرة على حد تعبير القشتلانيين، لم أتخيل قبل انطلاق رحلتي الكوبية أنني سأنغمس في حوار فلسفي وجودي مع كوبي أسلم وأصبح إماما لمسجد في العاصمة الكوبية، وأن أعرف من خلاله عن ديانة الأوريشا في إفريقيا، وأن الفكرة المحورية في الايمان بالله تقوم أساسا على أن الله ليس فقط كائنا يُعبد، بل هو فكرة تُفهم وحقيقة تُعاش. لم أتخيل أن رحلة كهذه ستنتهي بي إلى رحلة عميقة لاستكشاف العلاقة بين الإنسان ووعيه، وكيف لإمام مسجد يُفسر اكتشاف الله في عقولنا على أنه في النهاية اكتشاف للقدرة البشرية على الخلق والتواصل والحب، وأن يقطن الله في العقل ليس نهاية الطريق، بل بدايته حيث تبدأ الأسئلة الحقيقية المؤدية إلى تشكيل مفهوم يجعل من الإله فكرة ديناميكية متغيرة وقابلة للتأقلم مع كل عصر يبحث عن جوهره.استكملتُ جولتي الأخيرة في هافانا بزيارة الكابيتوليو، كانت مُرشدتنا سمراء كوبية جميلة في أواسط عقدها الثالث، قدمت نفسها باسم “نياما Niama”، استغربتُ للإسم وبحثت عنه في برنامج البحث غوغل، ومن جديد مفارقة أنه إسم سائد لذى أتباع ديانة أوريشا..
أقرأ التالي
منذ يوم واحد
المغرب يطالب سانشيز باستخدام المجال الجوي فوق الصحراء لفتح الجمارك في سبتة ومليلية (تقرير إسباني)
منذ يوم واحد
حصري من غزة.. حوار مع الكاتبة والصحافية الفلسطينية نسرين موسى عن نصف إمرأة ولكن
منذ 3 أيام
#بلاغ_رصد : ليا شطريط.. بين ازولاي .. و وزير الحرب الصهيوني “اسرائيل كاتس”..؟؟!!
منذ 3 أيام
أحمد ويحمان ط” كلمات ” اليوم هي عن ضرورة فصل المقال فيما يقال بشأننا وحراك الريف ومعتقليه . *” أحِّي ” !*
منذ 4 أيام
بلاغ صحفي
منذ 5 أيام
*كلمات* في ذكرى رحيل زعيم الاتحاد *هل مات الاتحاد؟*
منذ 5 أيام
المحطة الأخيرة للراحل محمد السكتاوي آخر قصيده له
منذ 5 أيام
*كلمات* .. في أن الخراب وصل *هل دخل المغرب في ” الميطاسطاز ” ؟!*
منذ 5 أيام
سوريا ونظرية التحالف: ما هي الأبعاد المستقبلية؟
منذ 5 أيام
جنيف.. تأسيس “منظمة الرسالة” ذات البعد الإسلامي الإجتماعي الإنساني
شاهد أيضاً
إغلاق