ديانات وعقائدمستجدات

ماذا يريد المخزن من الدراسات الإسلامية؟

مصطفى بوكرن

شاهدتُ محاضرة السيد الوزير المحترم أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، والمعنونة: “شعبة الدراسات الإسلامية إلى أين؟”، والتي نظمتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، قبل يومين.
حين يتحدث أحمد التوفيق لمدة ساعة وربع، في محاضرة مكتوبة يحضرها الديبلوماسيون والعلماء والطلبة والطالبات، فهذه ليست محاضرة عادية، لمثقف عادي. نحن نتحدث عن وزير أوقاف، يرافق الملك محمد السادس في تدبير الحقل الديني منذ 7 نونبر 2002، أي ما يقارب عشرين سنة. بمعنى، الرجل عرف خبايا الشأن الديني في تفاصيله الدقيقة، ويعرف حق المعرفة الأبعاد الحضارية والاستراتيجية لهذا الحقل. أحمد التوفيق، ليس وزيرا تقنويا، بل هو مثقف يمتلك رؤية مؤصلة في التاريخ ولها رهانات في الحاضر، وتشوفات في المستقبل. ولذلك، تكون تحليلاته تكتسي الجدة والجدية، لأنه يقارب الشأن الديني من منظور تاريخي، أي يفكر في الدين، كممارسة في الواقع، لا كتنظيرا معرفيا. ولا يعني هذا أن هذه الممارسة غير مسددة برؤى فكرية.
إن محاضرة أحمد توفيق، هي بمثابة أرضية فكرية، تحدد معالم مشروع جديد لإصلاح الدراسات الإسلامية في الجامعة المغربية. وهذه الأرضية الفكرية، نطاقها المركزي، هو مفهوم: “الإمامة العظمى”، أو بلغة أخرى، نموذج الحكم المغربي، المزدوج بين الأصالة والمعاصرة، أو بلغة كلاسيكية، النطاق المركزي للمحاضرة “مفهوم المخزن” بمعناه الإيجابي، الذي يعمل على حماية الجماعة روحيا وماديا، كما أشار إلى ذلك الوزير.
معلوم أن عالم الشريعة هو رجل غير محايد، لأنه لا يشتغل في السماء بل في التاريخ، ولذلك تتقاطع إنتاجاته مع ما نسميه اليوم بالسياسات العمومية. بمعنى، أن الفقيه أو الخطيب أو القاضي أو الإمام..، وهو ينتج مقولاته المستمدة من الوحيين، يجب عليه، أن يكون مدركا ومستوعبا لنظام الحكم السياسي الذي ينظم علاقات الأفراد داخل الجماعة الوطنية، أو بلغة أحمد التوفيق، فهؤلاء خدام الإمامة العظمي في الواقع الميداني عند احتكاكهم بالمواطنين مباشرة، ولذلك، عليهم أن يتميزوا بالفطنة والحكمة، لكي لا ينتجوا خطابا مفككا أو متطرفا ضد هذا النموذج في الحكم السياسي والاجتماع الثقافي.
وقد نبه احمد التوفيق إلى الضعف الشديد، الذي يعاني منه المتخصصون في الدراسات الإسلامية في فهمهم لعلاقة الدين بالسياسة، فاضطر إلى تنبيههم إلى أنهم في صميم السياسة، لا بما هي توجهات حزبية، ولكن بما هي ثوابت تنظم الجماعة الوطنية الكبرى، ويعملون على حمايتها، في مجال الإمامة العظمى. بمعنى لا فرق بين إمام مسجد، وهو يلقى خطبة تربوية، وبين شرطي ينظم مرور الناس، إلا من جهة اختلاف المجال، لكنهما يقومان بنفس المهمة حماية الأمن الجماعي للأمة، الأول موضوعه الروح، والثاني موضوع الجسد، وبذلك يتكاملان ولا يتصارعان.
إذن، فالدراسات الإسلامية يجب أن تستبطن هذه الرؤية الكلية في الحكم والاجتماع . بمعنى آخر، فعلوم الشريعة عبر تاريخها، وفي مختلف العصور، فهي تستطن الرؤية السالفة الذكر، بحسب الزمان والمكان. إذا كان نظام الحكم هو الخلافة على سبيل المثال، والذي كان يحكم أمصارا إسلامية كثيرة، فإن الفقيه يدرك ذلك، دون أن يحتاج إلى التصريح به، لأنه سينتج خطابا دينيا، لا يمكن أن يكون مهددا لنظام الحكم والاجتماع، لأن ذلك، مما توافقت عليه الجماعة عبر التاريخ.
ولذلك، فأحمد التوفيق، ينبه الباحثين في الدراسات الإسلامية، إلى أنهم يشتغلون في موضوعات بحثية، تستصحب معها نظام حكم واجتماع، قد انقرض منذ قرون. ونحن اليوم، نعيش تحولات كبيرة، منذ دولة ما بعد الاستقلال إلى الآن، إضافة إلى التحولات العالمية الكبرى. والمغرب ضمن هذه التحولات قبل الاستقلال وبعده، اختار تقليدا معينا في الدين والسياسية، ينسجم مع ثوابته الكبرى، التي توافقت عليها الجماعة المغربية. فلا يعيد التاريخ كما هو، ولا يذوب في التحولات، بل يبدع نموذجه واستثناءه.
اعترف أحمد التوفيق، أن الدراسات الإسلامية جاءت في سياق الصراع مع اليسار الذي اخترق الجامعات، لخلق نوع من التوازن. وهذا أحد معالم الحكم المخزني في تدبير الصراع. وقد انخرط في شعبة الدراسات الإسلامية منذ نشاتها، التيار السلفي الوطني، ثم اخترقها الإسلام السياسي، ثم اخترق السلفيون الوهابيون، فتحولت هذه الشعبة إلى ساحة صراع بين مختلف التوجهات، دون أن يدركوا التحديات التي تواجه الجماعة الوطنية في الحكم والاجتماع، بمعنى أن الفاعلين، كان الأجدر بهم، أن يخرجوا نخبا، لتمارس وظائف التلاوة والتبليغ والتزكية، في تماس مباشر مع المواطنين، تحت مظلة “الإمام العظمي”، لغرس قيم الوحدة ونبذ الفتنة، وقيم الاستقرار ونبذ الفوضى. وكأن أحمد التوفيق يقول لهؤلاء، إن الدولة تعيش تحديات كبيرة، قد تمس وجودها، فإما أن تلعبوا دورا تاريخيا في تثبيت استقرارها، وإما فأنتم شركاء في هدم هذه الدولة، علمتم بذلك أم لم تعلموا.
بحسب ما جاء في محاضرة التوفيق، فإن المخزن يريد من الدراسات الإسلامية في المرحلة المقبلة، تخريج جيل جديد، من النخب الدينية، تتواصل مع المواطنين، وتقدم نموذجا في التدين الأخلاقي العملي، ليكونوا قدوة لهم، فيقطعوا الطريق، عن الجماعات الإرهابية، التي تختطف بسطاء الناس، وعن جماعات الإسلام السياسي، التي تستغل الدين في نقد السياسات العمومية، لاستقطاب الحالمين بتطبيق الشريعة الإسلامية، وهؤلاء معا، من التهديدات التي تواجهها الدولة باستمرار.
بمعنى، أن طالب الدراسات الإسلامية، لا يظن أنه يدرس الدين بمعزل عن الحكم والاجتماع، إنه في قلب الصراع من أجل حماية ثوابت الأمة، تحت مظل الإمامة العظمى بحسب تعبير أحمد التوفيق. ولذلك، لو طلب من باحث في مغربي في الدارسات الإسلامية، أن يعلق على ما العلاقات الإسرائيلية المغربية، من منظور ديني، فعليه أن يكون واعيا بالسياق السياسي لبلده، وليس نائما في بطون الكتب التراثية، أو يستصحب معهم إيديولوجية مناوئة لنظام الحكم المغربي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube