ثقافة وفنونمستجدات

ســرد ونقـد (3) تصحيح النموذج: [مصححون على هذه الأرائك.. متقابلين

مصطفى الزِّيـــن

وضعت بمحفظتي ، هذا الصباح ، بطاقتي الوطنية واستدعاء التكليف بمهمة في تصحيح الامتحان الجهوي الموحد ..لشهادة البكالوريا .. ، وتوجهت ، عبر طاكسي أجرة صغير ، إلى مركز التصحيح ، الذي ما هو إلا مدرسة ابتدائية عطلت بها الدراسة ،و سرح تلاميذها ظلما ، وكلف أساتذتهم مدرسوهم “حراسا”مراقبين تعسفا ، لأجل هذه المهمة التي تنوء بثقلها الجبال والرجال .. وفي تمام التاسعة،كنت في الموعد تماما..كما تعودت منذ ست وثلاثين سنة، ما أخلفت فيها موعدا للمراقبة ، أو للتصحيح ، أو للقاءات التربوية..أبدا. لعلها المرة الأخيرة لي في مثل هذه المهمة ؛ إذ ، أخيرا ، سأحال على التقاعد ،بعد أن زاد فوق ظهري المصلح الكبير الديبشخي المعظم “علاوة” سنة ونصف سنةٍ بعد الستين، ونصف سنة أخرى تمديدا تعسفيا ،بدون مقابل، طبعا ؛ و” العِلاوة “-شرف الله قدركم- لا تعني السَّقَطَ من المصارين والأعضاء الداخلية للشاة المذبوحة المسلوخة المجزورة .. كما في عامية بعض جهاتنا ؛ وإنما تعني ، في العربية، ذلك الحِمل الإضافي الذي يوضع على ظهر الدابة من الحمير أو من البغال ، فوق الخُرْج (الشواري) بجانبيه العدلين المعتدلين ، ولو بحجر يقيم ويضمن التوازن و”تكافؤ الفرص والقرص “.. بعد أن طلبوا منا أن ننتظر قليلا، بدأنا نتسلم أظرفة الأوراق ونَعُد ونُعدِّد أوراقها قبل توقيع محضر التسلم، وجهوا كل طائفة منا ، حسب تخصصات المواد، إلى حجرة دراسية مخصوصة ..ولكني عندما ولجت الحجرة/الزنزانة رقم 09 ، شعرت بمنتهى إهانة المدرس المصحح الذي يطلبون منه التحلي بروح المسؤولية في تقييم الأجوبة ومسك النقط في البرنام المخص لذلك..والحرص..والالتزام بالمقتضيات..والتأكد..والتقيد بالتوجيهات .. نعم، كان فضاء “مدرسة جنان المودن”،كما كانت تسمى “جنانا” ،فعلا جنانا ، قبل أن يسموها “الانبعاث” ،(ربما لانعاث روائح غير طيبة في عهد الوزير الاستعجالي) ؛ فضاءً واسعا ممتدا مشجرا ، وكانت الحيطان والهيئة الخارجية للأجنحة والحجرات تبدو مقبولة معقولة محترمة ..ولكن على الأساتذة المصححين أن يجلسوا في طاولات صغيرة ضيقة مهترئة ؛ يحشرون فيها أجسامهم وأطرافهم ،كما لو كانوا تلامذة أطفالا بين السادسة والعاشرة من أعمارهم ، طبعا، ليس لساعة أو ساعتين اثنتين ، ولكن لجلسات اعتكافية تطول لأكثر من أربع ساعات ، وأخرى مثلها مساءً، لثلاثة أيام بما فيها السبت والأحد، على أساس أن جلهم سيكونون على موعد استئناف مهام المراقبة في الامتحان الوطني يوم الثلاثاء الموالي.. وجدت ثلاثة أو أربعة أساتذة سبقوني إلى القاعة، أخذ أحدهم مكتب الأستاذ على الأسترادا ،واقتعد الآخرون تلك الطاولات منحشرين ،وانطلقوا يصحصحون ويبحصصون مصححين ..قلت: أيها الإخوان، كيف تقبلون هذه الإهانة وهذا التعسف والإذلال؟ كيف يريدوننا أن نقتعد هذه الطاولات التي ربما لو عرضت على فورناتشيات الحمامات لرفضت التهامها؟ ولكنهم ظلوا صامتين..نزلت محتدما ،أنا الذي صيروني أعاني من ارتفاعات ضغط الدم القياسية وأمراض أخرى مزمنة، جراء تعسفاتهم وعلاواتهم التي قصمت ظهري وقصمت ظهور أمثالٍ غيري ؛ نزلتُ إلى الإدارة حيث لا يزال مدير المركز، يوزع الأظرفة ،كان الله في عونه؛ قلت له: سيدي ،كيف تريدون منا أن نصحح على طاولات التلاميذ،تعود إلى القرن التاسع عشر، صغيرة ضيقة..فاحتد هو الآخر، في وجهي مبررا بأن مثل هذه العملية مرت هنا ، وهكذا ،منذ عامين أو ثلاثة، وإذا لم يعجبني الحال، فلأمتنع عن التصحيح، و أن عليَّ أدعه يباشر عمله، وألا أحدث الفوضى.. فقلت له أنتم من تحدثون الفوضى فيما تسمونه نظاما ، كيف تقبلون أن يهان السادة الأساتذة .. عدت إلى حجرة التصحيح، كان السيد مفتش المادة ،انحشر ، بدوره، بإحدى الطاولات التي تنافست طويلا جدا في البؤس والمحن ومدافعة مصائب الزمن؛ كان ينظر في ملفاته يريد أن ينسق ما يسمونه تصحيحا تجريبيا جماعيا، لتوحيد المعايير..وهي نفس العملية التي عليه، وعلى زملائه المفتشين أن يسافروا لعشرات الكلومترات شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، في أقطار المديرية، لينجزوها هناك أيضا، ربما في نفس التوقيت، بالتزامن ،مما يعد من معجزات الاستثناء المغربي.. خاطبته بما خاطبت به الآخرين من قبل، ولكنه كان يحتاج فقط لمن يثير هذا المشكل، فقال لي: أنا معك تماما،وهذا الوضع غير معقول ،ليس مقبولا، وإنه فعلا إهانة، أخذ هاتفه واتصل برئيس قسم الامتحانات ،وطلب منه توفير مقاعد ومكاتب للأساتذة المصححين؛ بل إنه ساءله لمَ جعلوا مدارس الابتدائي مراكز تصحيح ؟، بينما كثير من الثانويات التأهيلية والإعدادية موجودة لمثل هذه المهام..؟ كنت أسمع رئيس قسم الامتحانات يقول له ، إنه لا يمكنه أن يفعل شيئا.. أخذت أصور تلك المقاعد : طاولات التلاميذ التي لا تصلح حتى لجلوس القردة ..ورأيت السيد المفتش يشفق من حالي ومن ارتفاع ضغط دمي وارتعاشي ،وأنا على بعد خطوات من خط الوصول إلى التقاعد، بعدما أضافوا علاوة مسافة السنتين والثلاث سنوات ، هكذا، “إصلاحا”وسكوتا على فساد المفسدين الذين نهبوا وخربوا..فقال لهم الديبشخي : عفا الله عما سلف؛ أي عمن تلف واخلف ؛ بكل خسة ووقاحة .. تفضل السيد المفتش فأعفاني مشكورا من التصحيح ،وتكفلت بحصتي منه إحدى الزميلات مشكورة.. نعم، لم تكن ظروف التصحيح ،أبدا، تراعي كرامة الأساتذة، ولا كانت منظومة التعليم وإدارته تهتم بشيء من ذلك، بل كل المؤشرات تؤكد نية إذلاله وبهدلته ، وبهدلة المدرسة العمومية وإفقارها ،لتعلن إفلاسها المستعجل.. نعم، كنا نصحح على طاولات تلاميذنا في الثانوي، وعلى موائد مطاعم الأقسام الداخلية،ومقاعدها، وهي أرحم من هذه الفخاخ ،أو “النشبات” التي ترونها في الصور.. نعم صححنا في عز الحرارة فوق الأربعين درجة، وهم في مكاتبهم المكيفة، وعلى كراسيهم الفخمة الوثيرة الدوارة، يتقاضون التعويضات المجزية، والعلاوات الكبيرة.. ولا زالوا يفعلون.. وصححنا ،نعم، في عز القر و البرد والثلج والزمهرير ، في الهوامش المنسية أو شبه المنسية ؛ ففي التسعينات، وحتى أوائل هذا القرن – الذي انغرز في خاصرتنا- تصوروا، أو تذكروا أن امتحانات البكالوريا كانت في ثلاث دورات، ثم في دورتين، ولمستويات الثانوي التأهيلي الثلاثة، لا لشيء ولا لأي مسوغ، إلا لأن مفتشين مركزين كبارا ،كانوا يأخذون التعويضات/العلاوات الكبيرة الجزلة مقابل كل دورة..ولم يكونوا مستعدين أن يتنازلوا عن تلك الامتيازات والريوع التربوية..وكنا ، نحن الأساتذة المصححين ، في عز فبراير، مثلا بأهرمومو، نخرج بتلك الطاولات نتصيد أشعة الشمس الشحيحة فيها نصحح حتى لا تتجمد أصابعنا وتتشنج مؤخراتنا المدبورة المدبوغة، وكنا نتلقى تعويضات كأنهم يستقطرونها من أطباء كلبة جرباء عجوز عاقر عقور ، ومنها يختصمون ويخصمون ضريبة الأرباح TVA ، ويخصمون مقابل أوراق الغياب الصفراء، يضعه من يضعه في حسابه.. وما زالوا على الأساتذة المدرسين يقترون تقتيرا ، يضعونهم في فم المدفع، وبهم يطوحون إلى أي جحيم يريدون، مراقبين حراسا واقفين دون دعم أو حماية أو تعويض ، حتى عن تنقلاتهم..أو مصححين [على هذه الأرائك متقابلين..] ملزمين بحضور المداولات..وأذكر ،بالمناسبة، أننا سنة 1987 ، ذهبنا نحن ثلة ممن صححنا ب”ثانوية رباط الخير “أنذاك ،بأهرمومو ؛ ذهبنا حتى مدينة وجدة البعيدة لأكثر من 400 كيلومترا لحضور المداولات ، ونحن على بعد سبعين كيلومترا ،ليس إلا، من فاس.. فانظروا ، متعكم الله بدوام أبصاركم – إلى هذه “الكراسي العلمية” التي يُحشر فيها الأساتذة المصححون ، و منهم الدكاترة والمبرزون ، ومنهم خريجو المدارس العليا الشيوخ المرهقون، ومنهم الذين فرض عليهم التعاقد المهين ، وكل تحت أخراجهم وما فوقها من علاوات ينوؤون..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube