محمد بوبكري

مع غرامشي (6)

الدولة المجتمع المدني السلطة الهيمنة
محمدالمباركي

المفاهيم هي كالأداة التي يستخدمها الصانع أو الفلاح. النتيجة رهينة بمهارة من يستعملها ونوعية الأداة المستعملة. علما أن لكل أداة تاريخانيتها الخاصة. مثلا المحراث الخشبي أو المنشار غيره في زمن غابر وحال أداة الحرث أو النجارة حاليا. هناك تطور لكل من أداة الحرث والنجارة بشكل عيني ملحوظ. نفس الشيء يحدث بالنسبة للمفاهيم العلمية والتي هي أيضا عرفت تطورا نوعيا مع تطور الحقب التاريخية. هكذا نجد المفاهيم المستعملة اليوم مثل الدول، المجتمع، السلطة، الحكم، المجتمع المدني، الهيمنة وغيرها من المفاهيم قد تطورت معانيها عبر الحقب. والمفيد عند غرامشي أنه مع تطور ادراكه الفكري والتحليلي، كان ينحت المفاهيم المعرفية التي بين يديه متماشيا مع تسلسل تطورها التاريخاني. الأمر الذي نتج عنه تأويلات متباينة لفكره ومواقفه السياسية. والسبب كما أشرنا الية، عدم إدراك منهجيته التي تتعامل مع المعرفة النظرية في حركيتها الدائمة أي في تاريخانيتها. فهو لم يخترع المفاهيم التي تنسب اليه لكنه محورها بشكل دقيق وجدلي لحد أصبحت تنسب اليه. مثلا لما تتحدث مع أحد عن المجتمع المدني أو الهينة سواء الثقافية أو السياسية، الكتلة التاريخية أو الشعبية، المثقف العضوي…غالبية المتحدثين في الموضوع ينسبونها لغرامشي. الاّ أنه من الظاهر أن كل هذه المفاهيم قد استعملت في جلها قبل ان لم نقل كلها قبل غرامشي. غير أن الأمر الجديد كون اغرامشي سقلها في تطورها الخاص، عبر تطور التداخلات المعقدة، المجتمعية منها والاقتصادية والسياسية والثقافية. فهو لم يكن يتماشي مع تطور مفهوم واحد كما يصنع مختص في مادة واحدة، بل كان يتماشى معلها جميعا في ديناميتها المتطورة. هذه المنهجية تعارض طريقة التأويل، أي الحفاظ على المفهوم الأصلي كمرجع ثابت يقاص عليه مفهوم أو تفسير آخر. عند غرامشي المفهوم كذا، كان يدل في حقبة معينة عن كذا. وفي حقبة موالية يدل عن كذا. وفي المرحلة الراهنة معناه وموضعه كذا. هكذا إذا أخدنا مسألة الزواج مثلا، فان اللفظة عند غرامشي ستظل نفسها، الا أن مدلولها بالمعني المفاهيمي سيتطور مع تطور المراحل التاريخية باتجاه المساواة والتحرر.

هكذا نجد استعمال مفهوم الدولة والشعب مستعمل منذ القدم، لكن حيزهما المعرفي ظل غير ضبوط الى حدود عصر الوسيط. حيث مهام الدولة كانت تخص القيادة الدينية والسياسية والعسكرية والإدارية عبر حكم مستبد. ليتطور مفهوم المجتمع الى مجتمع مدني، حيث بدأت تتمحور فيه تشكيلات مهنية منظمة وقائمة الذات لكل منها موقعه في نمط الإنتاج الاقتصادي. هذه الفئات الاجتماعية ستتحول الى طبقات قائمة الذات مع تطور نمط الإنتاج الرأسمالي. أصبح معه الصراع حول السلطة يأخذ بعدا طبقيا أي سياسيا وثقافيا ممحور في أيديولوجيا معينة. هكذا مع تطور الإنتاج البضاعي، ستتطور وتتعقد العلاقات الاجتماعية ومعها نوع الدولة. بشكل جد موجز أمكن وضع مراحل تقريبية لتطور الدولة والمجتمع لمعاينة المنهج الغرامشي.

1 – الدولة الاستبدادية والدولة البرجوازية

يمكن تعريف الدولة الاستبدادية بالشكل البدائي الذي ظهر مع بداية الاجتماع البشري حسب تغبير ابن خلدون، أي منذ أن استقرار البشر بعد اكتشافهم الزراعة فتربية الحيوانات، فصناعة الأدوات الضرورية ثم التبادل التجاري فيما بينهم ومع مجموعات أخرى. هكذا مع مرور الحقب، عبر مراحل تاريخية طويلة ومتفاوتة بين المناطق الجغرافية، تم تقسيم العمل داخل المجموعات التي تكاثرت. فتخصصت كل فئة في شغل أو مهنة أو مهمة معينة. عبر تقسيم العمل ظهر نوع معين من السلطة لضمان استقلالية الجماعة وتحجيم الطابع الحيواني الممثل في الحرية الطبيعية للإنسان، لجعلها حرية مقيدة عبر إرهاصات قوانين وأعراف التي هي أساسا طقوسا يغلب عليها اللاشعوري والاعتقاد الغيبي مؤطر لم يمكن نعته بدائية لأسس الدولة الممثلة في رئيس المجموعة التي حسب عدد أفرادها واتساع المنطقة التي تعمرها تتعقد وسائل وجودها. كان هناك شيخ أو رئيس القبيلة، فالأمير أو الملك فالإمبراطور لما تصبه المنطقة تضم عدة شعوب وقوميات لكل خصائصه وثقافته وحيث الحاكم العام يشكل رمز الدولة البدائية. كل من شيخ القبيلة، أو الأمير أو الملك أو الامبراطور، يستمد سلطته من القوة التي يمثلها وهو بذا حاكم مستبد. ونمط الحكم الناتج عن هذه الوضعة. هو حكم استبدادي. الى جانب تطور المجتمعات البدائية ونوع الحكم بها، حصل تطور ثقافة مرجعية أساسها السحر والميثولوجيا التي ترتكز على عقائد غيبة وطقوس جماعية. مع تطور الدولة والثقافة العامة تمحورت عقيدة دينية كمرجعية قانونية. هكذا تخصص الكهان لحماية الدين وتطبيق أحكامه التي تتماشى وتمتين ودوام السلطة الاستبدادية.

في الدولة الاستبدادية يكون الحاكم فيها مقدس. وينتج عن هذا الوضع ثقافة التقديس. يمكن تلخيص الدولة الاستبدادية بشكل عام كالتالي:

– الدولة قائمة على الاستبداد أي العنف والاضطهاد،

– المجتمع المدني كقوة ممثلة لثقافة بوسعها تحصين وعي مجموع الدفيئات، مفقودة أو جنينية لا تأثير لها في الصراع حول السلطة،

– استراتيجية التغيير للسلطة يحصل عبر العنف. حيث يأتي مستبد جديد بدعوة جديدة وعصبية جديدة. هكذا يظل المجتمع سجين القوالب التي تمليها السلطة الاستبدادية المتحكمة في دواليب الدولة عبر الردع وثقافة المقدس،

– مراحل التغيير يمكنها أن تقصر أو تدوم حسب القوة المضادة. ابن خلدون الذي ركز على حولية التناوب على السلطة داخل المجتمعات القبلية مثل العرب والبربر ومن عاصرهم من التتار ذوي الملك الأعظم، حصرها في ثلاث أجيال أي حوالي 120 سنة. وهذا لا يعني ضرورة اندحار السلالة الحاكمة بعد هذه المدة وقيام سلالة أخري. بل يعني نوعية الاستبداد الذي يتغير حسب تغير العصبيات المؤيدة له. مثلا هناك إذا أخدنا كمثال الإمبراطورية الخلافة العباسية نرى استبدادها يتغير بتغيير نوع عصبيتها. من فارسية ارمكية ثم سلجوقية الى تركية. لم تتهاون العصبية التركية/العثمانية من تبني الخلافة لنفسها كديمومة لخلافة الدولة الدينية. نفس الأمر يطبق على الخلافة الأموية بالأندلس التي كانت تتغير الفئة المستبدة بتغير عصبية الحليف الأقوى. في كل هذا، غالبا ما كان الخليفة أي الحاكم المستبد، سوى صورة لحكم العصبية المحيطة به والتي تشكل عضض دولته. لقد حصل وجود بعض ارهاصات ما يمكن نعته بالمجتمع المدني، أي وجود بعض الانفتاح الفكري والثقافي كما حصل أيام الأمين والمأمون والمعتصم، حيث بدا اشعاع الفكر التنويري على يد دعاة المنطق العقلاني عند المعتزلة واخوان الصفا والفلاسفة. وفي المغرب، في عهد المنصور الموحدي حصل تفتح تنويري. لكن كل هذه الطفرات التنويرية بقيت رهينة سياج الخاصة وبمساندة الحاكم بأمر الله. معني هذا أن التنوير كان يأتي من فوق في مرحلة وجيزة. والذي لم يجد طريقه لتنوير عقول العامة التي كانت مكبلة بالثقافة الغيبية والخرافات المثالية.

2- الدول الديمقراطية

خلال ما سمي بعصر الأنوار الذي يمتد من القرن السادس عشر ليجد أوجه في القرن الثامن عشر، تمت في أوروبا الغربية افرازات فكرية وفلسفية مرتكزة على التطور العلمي لتبدأ في تأسيس مجتمع مدني تقوى بشكل سمح له الاستقلال فكريا ونظريا عن ثقافة اللاهوت المطعم للاستبداد. ميزة المجتمع المدني الذي برز كقوة علمية مع غليلي ثم مع الفلاسفة الذين ناضلوا من أجل تحرير المعتقد كمدخل لتحرير العقل خارج سياج الحاكم المستبد. مع انتشار الأفكار التي تحرر العقل، فتح المجال لتنوير أي تثقيف، مجتمع مدني بزعامة الشريحة البرجوازية الصاعدة، والتي روجت للأفكار العقلية كوسيلة لتحررها من سيطرة الاقطاع المستبد باسم الكنيسة. حيث الملك كان مقدسا يستمد سلطته من السماء. جاءت الثورة الفرنسية عام 1789 لتفتح مرحلة جديدة تقطع مع نظام الدول المستبدة في عقد اجتماعي يضمن استقلالية المؤسسات والحقوق الفردية والجماعية. لم تحل الثورة الفرنسية مشكل الديمقراطية الدول بشكل نهائي، لكنها عبدت الطريق لآفاق واعدة وان كانت ولوجها السلطة تم عن طريق العنف أي عبر حرب متحركة حسب تعبيرغرامشي. لقد دام الصراع بين المد الديمقراطي والجزر الرجعي طيلة القرن التاسع عشر. استتب الأمر في النهاية لبناء ديمقراطية تمثيلية مستقرة يتم تداول السلطة فيها بطرق سلمية. ولقد عرفت الديمقراطية التمثيلية مراحل عدة وأشكال مختلفة، لكنها في العمق تقر باستقلالية المؤسسات وأن لا مقدس فوق الحرية والمساواة داخل وخارج القانون. يمكن تلخيص ما جاء أعلاه بإيجاز:

– الدولة الديمقراطية قائمة على العدل وربط المسؤولية بالمحاسبة الفعلية وهي في ذا تضع الدولة والمجتمع المدني في ثنائية متكاملة عبر علاقات متساوية،

– المجتمع المدني في الدولة الديمقراطية، قوي وذو استقلالية تامة،

– استراتيجية الوصول الى السلطة يتم بشكل سلمي عبر اقتراع تمثيلي حر ونزيه،

– مراحل تداول السلطة، دائم و متطور عبر التمثيلية الشعبية. الديمومة أساسها التناوب على السلطة حسب مسطرة مقبولة طواعية وبشكل واع بين كل الفرقاء في المجتمع المدني. مسألة السلطة هنا تكون كحرب المواقع حسب تعبير فرامشي. أي ولو انهزم الصف الأمامي، الممثل في انهيار الحكومة سياسيا، أو حصول أزمة اقتصادية أو مالية كبيرة، تكون هناك مواقع خلفية، سياسية واقتصادية يمثلها المجتمع المدني – بالمفهوم الغرامشي وليس كما هو متعارف عليه راهنا – كقلع محصنة تحمي نمط السلطة الديمقراطي.

يتبع

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube