مستجداتمقالات الرأي

تصورات مستقبلية لطبيعة العلاقات الدولية ما بعد كورونا

في الحاجة إلى وعي مشترك بين سكان العالم، بناء على أسس إنسانية بعيدا عن «سلوك الفردانية»

عبدالعالي الطاهري

في ظل استمرار ضغط جائحة كورونا على مختلف مناحي الحياة، الاجتماعية منها والاقتصادية وبدرجة أعمق وأكبر الصحية، على مستوى ربوع كوكب الأرض، تقفز إلى سطح النقاش أسئلة بل تساؤلات تهُمُّ مدى صلابة وثبات منظومة القيم في العلاقات الدولية ارتباطا بمواجهة الآثار والتبعات الكارثية لجائحة «كوفيد19»، فمهما بلغت الإنسانية من تطور تكنولوجي ومادي، تبقى القِيَم أحد أهم مصادر قوة مجتمعاتها في مواجهة أي تحدّيات أو نزاعات أو أزمات.

فكيف يُدبر العالم منظومة العلاقات الدولية، في سياق حالة الطوارئ التي يعيش على إيقاعها منذ أزيد من سنة، بين استراتيجية المصالح الاقتصادية والأمن في بعديه الصحي والقومي من جهة والحفاظ على الجانب القيمي، خاصة في سياقه التضامني لمواجهة أزمة عالمية أرخت بظلالها الثقيلة على أغلب مناطق العالم من جهة ثانية…؟ 

منذ توقيع معاهدة وستفاليا (*) عام 1648 في مدينة مونستر الألمانية، والتي أنهت حرب الثلاثين عاماً في أوروبا، حُكِمت العلاقات الدولية بالمنظومة الوستفالية، بعدما وضعت أسس عصر جديد في العلاقات الدولية، مبنيٍّ على مبدأ سيادة الدول التي باتت الفاعل الرئيس في العلاقات الدولية، وصبغت من ثَمَّ النظام الدولي، بقيمها التي يتقدّمها هدف الحفاظ على بقائها، وتحقيق مصالحها، وفي مقدم هذه المصالح الحفاظ على أمنها القومي الذي يُختزل، في معظم الأحيان، بالجانب العسكري وأمن الحدود. 

ولكن هذه المنظومة تعرّضت لمراجعة جذرية، مع مطلع تسعينيات القرن الماضي، ولا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتراجع الإيديولوجيا الشيوعية في مقابل انتشار واسع للديمقراطية الليبرالية، وبروز ظاهرة العولمة، حيث ساد تفاؤل كبير، ولا سيّما في الغرب، بأنَّ عهداً جديداً من الاستقرار والسلام قد حلَّ، تكفله عقلانية الدول الكبرى والاعتماد المتبادل وتشابك العلاقات في ما بينها، غير أنّ هذا التفاؤل سرعان ما أخذ يتبدّد، بعدما تكشَّف للعالم أنّ التغيرات التي حدثت لا تعدو كونها طاولَت القشرة السطحية للعلاقات الدولية. وفي العمق، ما زالت هذه العلاقات محكومةً بجدلية القوة في ظل استمرار الدول، ولا سيما الكبرى منها، بزيادة قوتها العسكرية، ودخولها بشكل متسارع سباق تسلح محموم.

ما خلفه وباء كورونا من آثار ونتائج قد يفتح المجال لمراجعة قيم ومبادئ كثيرة تحكم العلاقات الدولية على المديين المتوسط والبعيد

ومع انتشار وباء كورونا، وما خلفه من إصابات ووفيات ضخمة على مستوى العالم، في الدول الفقيرة والغنية، الصغيرة والكبيرة، المتخلّفة والمتقدّمة، على حدٍّ سواء، بدأت تساؤلات تُطرح بقوة، في ظل الأزمة المعيارية القيمية التي أحدثها انتشار الوباء، من قبيل: هل يمكن لهذه الجائحة أن تهيئ لظهور تغيير في منظومة العلاقات القيمية للعلاقات الدولية؟ وهل يمكن لها أن تفتح الباب أمام عالمٍ يسوده مزيد من التعاون والجهود المشتركة لمواجهة التحدّيات والمخاطر غير التقليدية، وبالتالي تحقيق مزيد من الاستقرار؟
للإجابة عن هذا التساؤل المتشعب، يمكن الرجوع إلى تصريحات أطلقها عديدون من قادة الفكر في العالم، وتناولت هذا الموضوع وحللته. ومن ذلك، ذكر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر في مقال له في صحيفة وول ستريت جورنال، “وباء كورونا سوف يغير النظام العالمي إلى الأبد، فقد تكون الأضرار التي ألحقها بالصحة مؤقتة، إلا أن الاضطرابات التي ألحقها قد تستمر لأجيال عديدة”. ورأى أنه لا يمكن لأي دولة، وإن كانت الولايات المتحدة، أن تتغلب على الفيروس بجهد وطني محض، وأنّ التعاطي مع الضرورات المستجدّة بعد الآن ينبغي أن يصاحبه وضع رؤية وبرنامج لتعاون دولي لمواجهة الأزمة”. واعتبر الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، في حواره مع صحيفة كورييري ديلا سيرا الإيطالية، أن تفشي فيروس كورونا مثَّل تحدّياً للإيديولوجيا الكامنة التي سيطرت على الحملات الانتخابية في السنوات الأخيرة، ورفعت شعارات أنانية من قبيل «أمريكا أولا»، «فرنسا أولا»، «الإيطاليون أولا»، و «البرازيل قبل كل شيء»، والتي قدمت صورة مشوّهة عن الإنسانية، وجعلت الأمر يبدو كما لو أن كل فرد يمثل جزيرة معزولة عن الآخرين. وقال إنه «بات من الضروري في عالم اليوم التشجيع على إيجاد نوع من الوعي المشترك بين سكان العالم، بناء على أسس إنسانية، وذلك من أجل تشجيع التعاون».

نقلا عن مقال بشار نرش في مقال منشور بالموقع العربي الجديد

الإنسانية، مهما بلغت من تطور مادي، تبقى القيم أحد أهم مصادر قوة مجتمعاتها في مواجهة أي تحدّيات أو أزمات

وتضعنا هذه التصريحات أمام حقيقة أن “عالم ما بعد كورونا” لن يكون كما كان قبله، حيث شكَّل الوباء إطاراً جديداً للتفكير في الواقع والمستقبل، بدأت معه منظومة العلاقات الدولية تتعرّض لإعادة النظر والتقييم. وقد يكون مبكّرا فهم طبيعة التغييرات، إلا أن ذلك لا يمنع من القول إنّ التفاؤل بتغيير المنظومة القيمية بشكلٍ سريعٍ، وعلى المدى القصير، سيكون في غير محله، فالرؤية التي أسس لها توماس هوبس في القرن السابع عشر، من منطلق أن « الدول كالإنسان، تتصرّف بأنانية »، وتُغَلِّب مصلحتها على مصالح غيرها، ستبقى لها الغلبة في المنظومة القيمية للعلاقات الدولية، لكن هذا لا يمنع من القول، في الوقت نفسه، إنّ ما خلفه وباء كورونا من آثار ونتائج قد يفتح المجال لمراجعة قيم ومبادئ كثيرة تحكم العلاقات الدولية على المديين المتوسط والبعيد، خصوصاً في ظل الانقسام الذي بدا واضحاً في الغرب حول طرق مواجهة الفيروس، وكذلك تغليب حسابات المصالح وتوازنات القوى على القيم في علاقات الفواعل الدولية بعضها مع بعض، الأمر الذي أثبت فشل المنظومة القيمية الغربية التي تسيَّدت النظام العالمي عقودا، فالنظام العالمي، بكليته، ليس مجرد فواعل دولية تسعى إلى تحقيق القوة بمعزل عن الآخرين، ولكنه أيضاً يضم هياكل اجتماعية واقتصادية وقيمية جاء وباء كورونا لينبّه إلى القصور الكبير فيها، وإلى ضرورة إحداث تغيير على مستوى النظام ككل، يتناول الهياكل والقيم التي كانت سائدة في “عالم ما قبل كورونا” الذي يجب أن يختلف عن عالم ما بعده. وهذا الاختلاف يجب أن يركز على تكريس بوتقة جديدة من المفاهيم التي تقوم على القيم بين وحدات النظام الدولي، بدلاً من التبعية والقوة المادية وحسابات المصالح وتوازن القوى، فالإنسانية، مهما بلغت من تطور مادي، تبقى القيم أحد أهم مصادر قوة مجتمعاتها في مواجهة أي تحدّيات أو أزمات. وقد لا تعبر هذه القيم بالضرورة عن المنظومة الأخلاقية المثالية، وإنما عن القواعد الناظمة لفلسفة السلوك الإنساني والأخلاقي الذي يحترم الفطرة البشرية ويقدّرها مقابل ما هو غير أخلاقي خارج القيم الإنسانية، كالأنانية والفردانية التي عرّاها انتشار فيروس كورونا على مستوى العالم. 

ليس من السهل الحديث عن مستقبل النظام الدولي بعد انتهاء وباء كورونا )كوفيد 19 المستجد(، فالرؤية غير واضحة بعد، والسياق الذي يعيشه العالم موسوم بالتوتر والهلع، ومفتقد إلى الوضوح الكافي لما ستؤول إليه الأحداث، ما يجعل من الصعب التنبؤ بالمسار الذي ستقطعه العلاقات الدولية بعد انتهاء جائحة كورونا، وبناء على ذلك، فإن ما يمكن القيام أو التنبؤ به لرصد مستقبل النظام الدولي لن يتعدى افتراضات نظرية، قد تكون صائبة أو خاطئة، ومهما كانت درجة صواب أو خطأ هذه الفرضيات، فإنها بكل تأكيد ستتعرض للتغيير والتطور بسبب تسارع الأحداث الدولية، لذلك فالقراءة السليمة والأكثر واقعية، هي تلك المرتبطة بالمنهجية المعتمَدة في السيناريوهات، على مرجعية الأبحاث والدراسات المستقبلية المؤسَّسة على المعطيات العلمية والميدانية الدقيقة الملامسة والمشخصة للقضايا والأسئلة التي تناقش، دراسة وتحليلا، « العلاقات الدولية لما بعد كورونا ».

(*) شهد القرن السابع عشر سلاماً هشاً في أوروبا، فاندلعت المعارك الكبرى كل عام تقريباً – باستثناء العام 1610، ومنذ عام 1669 وحتى عام 1671، ومنذ عام 1680 وحتى 1682. كانت الحروب شنيعة على غير العادة. شهدت أوروبا في أواخر القرن السابع عشر، وتحديداً من عام 1648 وحتى عام 1700، عصراً من الإنجازات الكبرى في المجالات الفكرية والعلمية والفنية والثقافية.

لكن أسوأ فترة كانت حرب الثلاثين عام، التي امتدت من سنة 1618 وحتى 1648، وخلّفت أثراً شديد السلبية على التعداد السكاني في ألمانيا والمناطق المجاورة جرّاء الفقدان الهائل للأرواح وتعطيل الاقتصاد والمجتمع. يعتبر المؤرخون والعلماء، الذين اتخذوا وجهة نظر واقعية تجاه الحروب والدبلوماسية السياسية، صلح وستفاليا (1684) حداً فاصلاً. فقد أنهى هذا الصلح حرب الثلاثين عاماً، التي لعب فيها الدين والأيديولوجيا دوراً كبيراً في تحفيز القوات على خوض الحرب. ومن وجهة نظر واقعية، بشّر صلح وستفاليا بنظام جديد من العلاقات الدولية بين الدول المستقلة ذات القوة المتماثلة تقريباً، والتي لم تكترث كثيراً بالأيديولوجيا والدين، وإنما بتعزيز مكانتها والاستيلاء على المزيد من الأراضي. فعلى سبيل المثال، لم تكرّس الكنيسة الكاثوليكية مواردها لاستعادة الأبرشيات التي خسرتها لصالح البروتستانتية، وإنما لخلق بعثات تبشيرية ضخمة في مستعمرات ما وراء البحار، والتي قد تمكّن الكنيسة من إدخال آلاف السكان الأصليين لتلك المستعمرات في الدين المسيحي الكاثوليكي، وبواسطة أفرادٍ من المجتمع كرسوا أنفسهم لنشر الكاثوليكية، مثل جماعة اليسوعيين. وفقاً لسْكوت هاميش، يفترض النموذج الواقعي توجيه السياسات الخارجية بالكامل وفقاً للسياسة الواقعية، وبناءً على الصراع الناجم حول المصادر، والوصول –في نهاية المطاف – لما عُرف لاحقاً بـ «توازن القوى».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube