احمد رباصمستجدات

الفلسفة والتاريخ: جدلية العام والخاص (8/5)

أحمد رباص – حرة بريس

لاجل قول كلمة أخرى حول ادعاء تعليم كيف يجب أن يكون العالم، تأتي الفلسفة، على أي حال، دائمًا بعد فوات الأوان. باعتبارها فكرة عن العالم، لا تظهر إلا في الوقت الذي يكمل فيه الواقع عملية تكوينه. ما يعلمنا إياه المفهوم، يظهره التاريخ بنفس الضرورة، إذ لا يد من الانتظار حتى يصل الواقع إلى نضجه ليظهر المثال أمام واقعه، ويحفظ العالم في جوهره ويعيد بناءه في ظل إمبراطورية فكرية.
عندما تسبغ الفلسفة الرمادي على الرمادي، يكون شكل من أشكال الحياة قد هرم ولا يمكن تجديد شبابه بطلاء الرمادي على الرمادي، ولكن بالمعرفة فقط. بومة مينيرفا لا تطير إلا عند حلول الظلام.
وبخصوص الخصوبة التاريخية للفلسفة، ما قاله ماركس وإنجلز عن الأفكار، حتى الأفكار الفلسفية، صحيح. ف”بمجرد أن يكشف الواقع عن نفسه، إلا وتتوقف الفلسفة عن إيجاد وسط تكون فيه مستقلة”. بعبارة أخرى، على الرغم من أنها تحمل رسالة كونية، إلا أن الأفكار الفلسفية يتم إنتاجها في سياق معين.
لماذا لا يُحكم علي الأفكار بالضرورة بفقدان قيمتها بمرور الوقت؟ كيف تأتى لأفكار الفلاسفة اليونانيين القدماء، مثل أفكار أفلاطون أو أرسطو، أن تظل مثيرة للاهتمام حتى بالنسبة لأفريقي يعيش في القرن الواحد والعشرين بعد مرور 25 قرنا على وفاة اصحابها؟ كما نتساءل: هل يمكن اعتبار الفلسفة دائنة للتاريخ؟
الفيلسوف الذي يفكر، مهما كان مستوى تجريد فكره، كما قلنا سابقا، لا يفعل ذلك من العدم انطلاقا من وسط كوني، بل من وسط محدد، من ثقافة معينة تزوده بحدوسه. إذا كان من الممكن التفكير انطلاقا من مكان كوني، مثل شخص لا يكون في مكان ولا في أي زمان، فإننا سننتج أفكارا ليس لها أي صلاحية في الزمان والمكان، والتي لن تكون قابلة للتطبيق في كل الأمكنة والأزمنة؛ لن تثير اهتمام أحد، ولا تتوجه إلى أحد، ولا تستلهم أي موقف يتعرف فيه من يقرأها على نفسه.
قد يتساءل المرء عما يتكلم عنه، ومع من يتكلم، ولماذا يتكلم عن هذا الشيء؛ سيكون الأمر شبيها بتحصيل معرفة عن الهذيان.
إن كتابا تم تأليفه عن الفساد كما يتم الانخراط في لعبة من أجل المتعة، بطريقة تجعل القارئ لا يعرف لماذا يتعلق الامر بالفساد وليس بشيء آخر، سيكون مملا، إلى الحد الذي يصير معه غير مقروء. سيكون من غير المعقول أن تكتب عن فكرة الفساد على طريقة البرناسيين الزنوج الجدد (*) الذين كتبوا الروايات بقصد عدم جعل القارئ يخمن العرق والحالة الاجتماعية لأصل المؤلف، كما لو أن العقل الذي نمتلكه لم يطبع، في مكان ما وفي لحظة معينة، بظاهرة الفساد الاجتماعية، وكأن فكرة تأليف مثل هذا الكتاب قد اختمرت في العقل كظاهرة فكرية شبيهة بالبذر الذاتي، عن طريق نوع من التوالد العذري للعقل.
من لا يذهب إدراكه إلى أبعد من الخاص، لا يمكن أن نقول عنه إنه يفكر ، إنه “يتفلسف”، كل ما هناك أنه يخضع للخاص بدلا من أن يفكر فيه. يقتضي التفكير في الخاص الانفصال عنه واعتباره موضوع التفكير. من خلال التفكير، يضع المفكر العام نصب عينه متجاوزا الخاص، يتصور نموذجا وظيفته تفسير مجريات الأمور، وهذه الفكرة التنظيمية، يقترحها كنموذج يجب أن يستلهم منه الخاص من أجل أن يكون مشابها له قدر الإمكان.
هذا هو معنى استعارة الكهف عند أفلاطون: الفكر نشاط نظري ذو ميول عملية. بصفته ملكة، يمكن، مع كانط، تقسيمه إلى ثلاث “قوى” تمثل العديد من المهام الفكرية التي يجب على المفكر إنجازها.
عندما يتعلق الأمر بتقسيم قوتنا (الأعلى) على معرفة قبلية بالمفاهيم، يتخذ التمثيل المنهجي للقوة على التفكير شكل تقسيم ثلاثي: هناك، أولا، القدرة على معرفة العام، (القواعد)، المقصود بها الفهم. ثم هناك، ثانيا، القدرة على تصنيف الخاص تحت العام، وهي القدرة على الحكم. واخيرا، هناك القدرة على تحديد الخاص بالعام، أي العقل.
يكون فعل التفكير مشوها إذا تجنب الشخص الذي ينخرط فيه أو أهمل أحد المتطلبات الثلاثة، إذا لم يستخدم كل هذه القوى الثلاث. فبدون معرفة العام، يمكن أن يندرج الخاص تحت العام، ولا يمكن تحديد الخاص إلا من خلال العام بشرط أن يكون قد سبق أن أدرج الخاص ضمن العام ؛ الفهم، ملكة الحكم والعقل تلك إذن ثلاث حالات ، ثلاث “غرف” من نفس “القوة”، التي هي ملكة التفكير.
الفرق بين المفكر والإنسان البسيط هو أن الأخير لا يترك عقله يبتعد عن السياق الخاص الذي يتطور فيه؛ إنه سعيد بالتواجد فيه وهو على دراية به لدرجة أنه يميل إلى اعتباره مطلقا. ما أشبهه بسجين الكهف، الذي ولد مقيدا بالسلاسل في الكهف الذي لم يخرج منه أبدا ولو بالتفكير، لا يعرف إن كان في الكهف، سجينا، مقيدا بالسلاسل، ولا إن كان كل هذا منذ ولادته، “في مكان آخر” وأفضل من هنا، أي أنه لا يزال غير قادر على تمثل العام؛ لذلك لم يستطع تحديد الخاص بالعام، ولم يجتهد قط من أجل معرفة العام، أو حتى أكثر من ذلك من أجل تصنيف الخاص تحت العام.
أفكار أفلاطون أو أرسطو ليست من المواضيع التي عفا عليها الزمن، فهما يتحداننا حتى اليوم لأنهم فكرا بالمعنى الدقيق للكلمة؛ لقد لجآ إلى موارد كل من “القدرات” الثلاث، وهي الفهم، ملكة الحكم والعقل. كرسا حياتهما، ليس لوصف الاوضاع السياسية أو الأخلاقية المعينة التي خاضا تجربتها، ولكن لإنجاز عمل فكري بالمعنى الذي أشار فيه هيجل إلى أن الفلسفة تكمن أساسا في عنصر الكونية الذي يتضمن في ذاته الخاص.
لماذا نجد حقا أنفسنا، مثلا، في أفكار أفلاطون؟ لأن الميول والرغبات التي درسها بدقة ومهارة منقوشة في النفس البشرية؛ تختلف في الأشكال والتعبيرات اعتمادا على السياقات الخاصة التي يتطور فيها اللذين تحركهم. السؤال الذي نظر فيه أفلاطون هو معرفة كيفية السيطرة عليها، لتوجيهها. ما كان يدافع عنه أفلاطون هو بالضبط ما سيطلق عليه كانط معرفة العام، أي التمثيل العقلاني للغاية المنشودة والوسائل التي تفرض ذاتها: الغاية هي نوع الإنسان الذي يجب تطويره، والوسائل تشير إلى تصور الإصلاحات السياسية والتربوية التي من الضروري المرور عبرها.
الهدف هو تحديد الخاص من قبل العام، ولا يتحقق إلا إذا تم استيعاب الخاص بشكل صحيح في إطار العام. وهكذا، كما يقول أفلاطون، يزدهر اتجاه ما إذا توافرت الشروط السياسية أو الدستوريةالمناسبة لتطوره. هذا يعني أنه إذا أرادنا تشجيع تطوير اتجاهات معينة، محاربة أو الحد من أخرى، خلق نمط مثالي، فيجب تنفيذ الإصلاحات الدستورية المناسبة.
يتم إصلاح العقليات وفقا للطريقة التي يتم بها تطبيق القوانين، ما يفترض أيضا أنه من الممكن أن نتصور على نحو كامل سيناريو سياسة متحررة من شذوذ العقليات. ومن الاتجاهات السائدة في العقليات في بلد ما، يمكن أن نستنتج طبيعة القوانين السارية، والطريقة التي يتم بها تطبيقها هناك.
(يتبع)
.


(*) البرناسية أوالممضى البرناسي يدعو إلى اعتبار الأدب غاية في حد ذاته وإلى الامتناع عن استعماله وسيلة لعلاج القضايا الاجتماعية والسياسية. تطور هذا الممضى في اتجاه آخر وأُطلق عليه اسم ممضى “الفن لأجل الفن” ويرى أن الأدب نفسه ينبغي ان يُنتًج بعيدا عن الاعتبارات الوطنية والاجتماعية والسياسية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube