احمد رباصاقواس

مناوشة الذاكرة: قصة معلم أعدم نفسه شنقا

أحمد رباص

في البداية، أسارع إلى تنبيه القارئ الكريم اني سوف أخصص هذه الحلقة لموت معلم متدرب بالانتحار شنقا. لقد وقعت هذه الواقعة في خريف 1988 الذي تزامن التحاقي، لأول مرة، بالمدرسة القروية التي تم تعييني بها من قبل نيابة ورزازات بعد قضاء سنة من التكوين في مركز غاندي بالدار البيضاء.
لن أشغل نفسي بالتفكير في تقديم مزيد من التفاصيل وأنا بصدد التمهيد لهذا الحكي المرتكز على الذاكرة. سوف تاتي التفاصيل تباعا وتلقائيا إذا ما أرخيت العنان لذاكرتي البعيدة المدى مع حرص شديد على الانتقاء والتشذيب وفق منهجية كتابة المذكرات التي سبق لي أن خضت فيها تجربة ناجحة ولو على شاكلة مقال عرف طريقه إلى النشر بجريدة “الاتحاد الاشتراكي” دجنبر 1994.
بعد تسلمي دبلوم التخرج من مركز التكوين في بداية صيف 1988، قضيت عطلة الموسم على إيقاع انتظار اليوم الذي سأشد فيه الرحال إلى أحد الأقاليم الجنوبية قصد الالتحاق بمقر عملي الجديد كمدرس ينتمي للشعبة النموذجية؛ أي مكلف بتدريس جميع المواد المقررة في المدرسة الابتدائية المغربية علما أن هناك شعبة أخرى خاصة بمدرسي اللغة العربية وما يرتبط بها من مواد. مما لا شك فيه أن هذا الوصف يتضمن بشكل مضمر استعدادا عفويا بله ساذجا للنفي الطوعي. لكن ما قولك أمام هذا الواقع : مكره أخاك لا بطل؟
عندما أوشك فصل الصيف على نهايته، التحقت بإدارة مركز غاندي لتكوين المعلمات والمعلمين بالدار البيضاء لأتسلم حوالة المنحة الأخيرة التي تتجاوز قيمتها بالكاد مبلغ 500 درهم. أنا الآن مقبل على السفر إلى مدينة ورزازات وليس في حوزتي سوى هذا المبلغ الزهيد الذي انطلاقا منه يتوجب على تدبير أمورحياتي اليومية في انتظار تسوية وضعيتي المادية من قبل وزارة المالية. لكم أن تتصوروا مدى الصعوبة التي يتطلبها هذا الانتظار نظرا لطول مدته الزمنية ( أربعة أشهر) بالنسبة لمعلم متدرب يتحدر من عائلة معدمة.
قبل موعد الالتحاق بالنيابة بيومين، نزلت ضيفا على خالتي ب (كارتي كوبا ) الواقع في محيط مسجد الحسن الثاني وكانت في جيبي مجموعة من الأوراق كتبت عليها موضوعا بعنوان ” قراءة في قصيدة الكفر” وكنت أنوي إرسالها إلى جريدة عمر بنجلون لتنشرها في صفحة” على الطريق” المخصصة آنذاك للمبتدئين الذين لمسوا في أنفسهم ميولا إلى الكتابة. وما كاد اليوم ينتصف حتى كنت قد أودعت رسالتي لدى أقرب مركز بريد.
بما أني لم يسبق لي أبدا زيارة مدينة مراكش، قررت المبيت في أحد الفنادق الشعبية المجاورة لساحة جامع الفنا التي غالبا ما اشتقت لرؤيتها كما هي حتى أقارنها بما اختزنه خيالي عنها من صور ومشاهد خصوصا بعدما علمت من خلال قراءاتي أن كتابا وفنانين مشاهير قرروا المكوث قريبا من عوالم هذه الساحة الغريبة الأ طوار. وفعلا كان لي ما أردت. شيء ما يسر لي تلك الليلة الحصول على غرفة بأحد الفنادق القريبة من الساحة؛ ألا وهو انتهاء عطلة الصيف والاستعداد لدخول بكل المواصفات جديد.
وضعت أغراضي في الغرفة التي تشبه حماما لشدة سخونتها وافتقارها لجهاز من شأنه تكييف هوائها الشبيه بنفس ( بفتح الفاء ) ولهاث تنين وما لبثت أن خرجت منها قاصدا الساحة التي سكنت خيالي واحتضنت أحلامي. لم تستهوني ” الحلاقي” التي لم تكن فرجاتها ومشاهدها غريبة عني لا لشيء سوى لأني من أبناء العاليا-المحمدية الذين أتاح لهم سوق الأحد – قبل ترحيله إلى حماعة بني يخلف القروية – فرص التمتع بهذا الفن الشعبي الذي انتشر في ربوع المغرب انطلاقا من ساحة جامع الفنا. وبينما أنا اتجول في رحاب الساحة، خطرت ببالي فكرة التبضع من هذا الفضاء الذي لا يوفر الفرجة والترفيه لمرتاديه فقط بل هو في نفس الوقت سوق عامر بأصناف المأكولات والمتعلقات المغرية بالشراء. هكذا انطلت علي أحابيل هذا الفضاء السحري الخالد ووجدتني منهمكا في صرف كل ما أملك من نقود مقابل اقتناء أشياء ثانوية لكنها أساسية لمعلم مجتهد مثل مشداة الورق وأقلام وكنانيش…
في صباح اليوم الموالي، التحقت كسائر المعلمين المتدربين بالنيابة في مدينة ورزازات لأكتشف أنه قد تم تعييني بمجموعة مدارس تانسيفت بضواحي مدينة أكدز التي أصبحت الآن محسوبة على إقليم زاكورة. كان على الجميع الالتحاق بمقرات عملهم ابتداء من يوم غد. بعد سؤالي عن الوجهة التي تقع فيها مدرستي قيل لي بأن أتوجه إلى أكدز ومن هناك يمكن لي الالتحاق بفرعية الفكارة التي تبعد عن أكدز بحوالي 30 كيلومتر. في محطة الحافلات تبين لي أن المتخرجين الجدد عددهم غفير وأنهم يتحدرون من جهات مختلفة.
هكذا وجدت نفسي في الحافلة المتجهة إلى زاكورة عبر أكدز جالسا بجانب شاب يحمل مثلي تعيينا جديدا كمعلم في السلك الابتدائي. عند توديعنا للمدار الحضري لمدينة ورزازات، تبادلت أطراف الحديث مع زميلي الجالس بجانبي فعلمت أنه من مواليد مدينة آسفي وآن في حوزته ، فضلا عن دبلوم التخرج، شهادة تساوي الإجازة نالها من إحدى مؤسسات التعليم العالي بفرنسا. من خلال ملامح وجهه ونبرات صوته لمست أنه غير راض على وضعيته الجديدة ومن الصعب عليه أن يتجرع مرارة العيش بعيدا عن أهله وذويه وأنه غير مستعد لأداء المهام المنوطة به في بيئة صحراوية لا عهد له بها من قبل. حاولت أن أنصحه بأن يكون رجلا وأن يصبر على المكاره ليبرهن لأسرته بأنها يمكن أن تعتمد عليه وأنه صار يتمتع بما يكفي من الاستقلالية لتأهيله لإدارة شؤون حياته بنفسه.
عندما توقفت الحافلة بأكدز، أدرك رفيقي أني بلغت المحطة الأخيرة من رحلتي بينما تستمر رحلته إلى أبعد من هنا. أثناء اللحظة التي عزمت فيها على توديعه، بدأ يجهش بالبكاء والدموع تسيل مدرارا على خذيه. تأثرت لحاله وكدت أنخرط بدوري في نوبة بكاء حاد لولا رباطة شأجي التي ورثني إياها الفقر.
بمناسبة عطلة منتصف الدورة الأولى (من أصل ثلاث في النظام القديم) وقد تصادفت مع عيد المولد النبوي ، تواجدت بأكدز حيث وجدت أن الجريدة التي راسلتها قبل مجيئي إلى هنا قد نشرت في نفس الصفحة المذكورة سلفا مقالي المعنون ب “قراءة في قصيدة الكفر” في عددها الأخير. بالطبع، قرأت هذه القصيدة في جريدة البيان الثقافي التي كانت على موعد مع قرائها يوم الإثنين أسبوعيا. في نفس اليوم، بلغني خبر انتحار المعلم المسفيوي شنقا بدوار يقع في ضواحي زاكورة. لقد قيل لي أن الهالك وضع حدا لحياته بهذه الطريقة في غفلة من زملائه الذين لم يستطيعوا لسبب من الأسباب إمداده بشحنة من الصبر كافية لإعطائه الأمل في الحياة …

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube