مقالات الرأي

حرب أمريكية بالوكالة في بورما على طريق الحرير


بقلم : مراد العمراني الزكاري.

بحلول أبريل من عام 2017؛ اكتمل مشروع مد خط أنابي النفط والغاز البورمي بطول (2806 كم)، يربط المياه العميقة لميناء ميانمار بولاية راخين (أراكان سابقًا) في جزيرة ماداي على خليج البنغال، مع أكبر مركز صناعي بمدينة كونمينغ بمقاطعة يونان في الجنوب الأوسط للصين بالقرب من ميانمار.

يسمح هذا الممر لواردات الصين من النفط الخام القادم من الشرق الأوسط، العبور إلى الصين بحوالي (400 ألف برميل) نفط يوميًّا، بعيدًا عن الطريق البحري المار عبر مضيق ملقا الواقع تحت سيطرة البحرية الأمريكية، والذي يمر عبره أكثر من (80%) من واردات الصين من النفط والغاز. ويقلل الوقت بمقدار (30%)، مما يعود بفائدة اقتصادية هائلة على الصين.

ميناء الاستقبال “كيوك بيو”، الواقع في المياه العميقة بالمنطقة الاقتصادية بولاية راخين، بلغت قدرة النقل المصممة لخط أنابيب النفط الخام (22 مليون طن) سنويا، في حين تبلغ قدرة النقل لخط أنابيب الغاز الطبيعي (12 مليار متر مكعب) سنويا؛ أي ما يمثل (28%) من واردات الصين من الغاز.

ووفقا للاتفاقات المبرمة بين الجانبين، ستحصل ميانمار على (مليوني طن) من النفط الخام و(20%) من الغاز الطبيعي. ويساعد ميانمار على تطوير الصناعة البتروكيميائية في البلد، ويسد حاجات ميانمار لكمية كبيرة من المازوت والبنزين وغيرهما من مشتقات الطاقة. كما ستضخ الصين ما قيمته (25 مليون دولار) استثمارات في البنية الاجتماعية والتعليمية في بورما.

تسير خطوط النفط والغاز الطبيعي بالتوازي من ميناء “كيوك بيو” عبر مدن (ماندالاي – لاشيو – موس) في ميانمار، قبل أن تدخل الأراضي الصينية عند مقاطعة يو‌نان.

ويصل طول خط أنابيب النفط الذي يبدأ من ميناء “كيوك بيو” وينتهي في “كونمينغ” عاصمة مقاطعة يونان بالصين (771كم) بتكلفة (1.4 مليار دولار)

بينما يمتد خط أنابيب الغاز من الحقول البحرية لميانمار لما بعد کونمينغ في الصين وصولاً إلى قوانغشي بتكلفة (1.01 مليار دولار). ليصل إجمال طول الخط إلى (2806 كم)، بقدرة سنوية متوقعة تصل لأكثر من (12 مليون) برميل مكعب غاز سنوياً.

وستشمل المرحلة التالية من ممر البنية التحتية الجديد من خلال ميانمار، بناء ميناء للشحنات الجافة والبضائع، كنقطة عبور للسلع الموجهة إلى يانغون (ميانمار) – كولكاتا (الهند) – شيتاغونغ (بنجلاديش).

وكذا خط سكة حديد عالية السرعة يربط ميناء “كيوك بيو” في ميانمار، بمدينة كونمينغ بمقاطعة يونان وسط الصين، مسافة (1215كم).

هذه المقاطعة الصينية (يونان) ستصبح محطة لما يسمى “شبكة آسيا عالية السرعة” بقطارات عالية السرعة لربط الصين وكمبوديا ولاوس وميانمار وتايلاند وماليزيا وسنغافورة

يُعد الممر الاقتصادي (الصين – بورما)، مثالًا آخر على التعاون الاقتصادي السلمي المبني على مبدأ المنفعة المشتركة، بين الصين والدول المشاركة على مسارات طريق الحرير، ويمثل مع الممر الاقتصادي (الصين – باكستان) والممر الاقتصادي (الصين – روسيا) والممر الصيني في اتجاه وسط آسيا؛ العنوان الرئيسي لمشروع القرن الآوراسي الجديد على أطلال القرن الأمريكي.

الفوائد الاقتصادية للصين ليست هي الثمرة الوحيدة بين جنبات هذا الممر الاقتصادي (الصين – بورما)، بل هناك أهداف استراتيجية هامة؛ منحت الصين الوجود الاستراتيجي في المياة العميقة للمحيط الهندي، بعد أن كانت دولة حبيسة على المحيط الهادئ؛ إذ وجدت بكين شاطئًا جديدًا عبر هذا الممر، يوفر للمقاطعات النائية في الجنوب الأوسط للصين منفذًا بحريًّا لها على المحيط الهندي.

ويقدم هذا الممر، بجوار الممر (الصيني – باكستان)، حلًّا جذريًّا لأحد المشاكل الاستراتيجية للصين التي تعتمد على توسع العمق الاستراتيجي والأمن القومي للصين ليشمل مساحات برية شاسعة بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية على البحار.

وبفلسفة هذه الممرات الاقتصادية البرية الجديدة وربطها بلآلئ بحرية (الموانئ)، تسير الصين قُدمًا وبخطواتٍ ثابتة لتغيير الخريطة الجيوسياسية على رقعة الآوراسيا؛ التي رسم إحداثياتها الجغرافي البريطاني (السير هالفورد ماكيندر) في كلمة ألقاها أمام جمعية لندن الملكية الجغرافية في العام 1904 بعنوان “المحور الجغرافي للتاريخ”. وقد شكل هذا المقال كل من الاستراتيجية العالمية البريطانية والأمريكية من الهيمنة والسيطرة على الدول عبر القوة البحرية. حينما أشار (ماكيندر) إلى أن الدول ذات الهيمنة على البحار، يمكن لها أن تسيطر على العالم. الأن ستُدفن كل نظريات (ماكيندر) تحت الممرات الاقتصادية البرية للتنين الأصفر؛ بعد نجاح الصين في تحويل الأمن القومي المائي إلى الأمن القومي البري بمساحات شاسعة من خطوط أنابيب الطاقة التي تحمل نعش ماكيندر عبر الممر الاقتصادي (الصين – بورما)، والممر الاقتصادي (الصين – باكستان) ؛ بعيدًا عن مضيق ملقا واساطيل البحرية الأمريكية.

لذلك تسعي الاستخبارات الأنجلوأمريكية إلى استغلال عمليات التهجير العرقي خارج البلاد، ضد مسلمي ولاية راخين (أراكان سابقًا)، ذى العرق البنغالي (الروهينجا)، وقد تجددت أحداثها في أغسطس عام 2017، للتغطية على الدعم المقدم من قبل هذه الاستخبارات إلى جماعات إرهابية تنتشر على الأرض للسيطرة على خطوط أنابيب الطاقة بولاية راخين، ومن ثم قطع أواصر الممر الاقتصادي (الصين – بورما)؛ عبر حرب الصور التي يبثها التنظيم الدولي للإخوان المسلمين على القنوات الفضائية التركية، وقناة الجزيرة القطرية، وينشرها على شبكات التواصل الاجتماعي، لتهيئة الرأى العام داخل العالم الإسلامي وتأجيج مشاعر الشعوب الإسلامية خاصة في دول الآسيان؛ بما أطلقوا عليه عمليات إبادة وتعذيب وحرق جماعي للأقلية المسلمة من الروهينجا على يد البوذيين.

هذه الصور الزائفة التي بُثت علي شاشات الفضائيات، ونُشرت على شبكات التواصل الاجتماعي، والمواقع الإلكترونية، لا تَمُتُّ للأحداث الحقيقية بأي صلة، بل تعود أصولها لحوادث أعاصير وزلازل في الصين وبورما ومظاهرات في الهند وطقوس حرق الجثث من قبل البوذيين في بورما.

بالتأكيد هناك اضطهاد من قبل البوذيين والجيش في بورما تجاه بعض الأقليات من مسلمي بورما في ولاية راخين تحديدًا؛ لكنه صراع عرقي وليس طائفي، بدليل أن باقي مسلمي بورما البالغ عددهم مليون مواطن بورمي يعيشون في العديد من الولايات والبلديات والمراكز آمنين سالمين.

كما أن حكومة ميانمار لم تمنحهم الجنسية ولا تريد الاعتراف بهم كمواطنين، بل كمهاجرين جاءوا من بنجلاديش والهند بعد استقلال البلاد عن بريطانيا عام 1948، وقد شكل البعض منهم ميليشيا مسلحة تتطالب بانفصال ولاية راخين عن البلاد، ورغم نجاح الحكومة العسكرية في بورما وأد هذه الحركة عام 1962، إلا أنهم عادوا في العام 2012 بالهجوم على عشرات من مقرات الشرطة وقتلوا العديد من المدنيين.

وفي العام 2016 شكلت هذه الفرق ما أُطلق عليه “جيش إنقاذ الروهينجا في أراكان” وأعلنوا المواجهات المسلحة مع الجيش البورمي.

عمليات التدليس والتضخيم التي تمارس على الشعوب الإسلامية عبر حرب الصور التي يديرها تنظيم الإخوان؛ يخفي وراءه ما صرحت به رئيسة وزراء بورما “أونج سان سو كي”، الحائزة على جائزة نوبل للسلام في 6 سبتمبر 2017 بشأن نزوح (87 ألف) من مسلمي الروهينجا خارج البلاد منذ أغسطس 2017، إذ قالت (سوكي) ” أن هناك إرهابيون مسلحون وسط مسلمي بورما ينفذون عمليات إرهابية ويقتلون المدنيين”.

وأشارت (سوكي) إلى تغريدات لصور أعمال قتل نشرها نائب رئيس الوزراء التركي، وحذفها فيما بعد لأنها لم تكن حتى من ميانمار. قائلة: “إن هذا النوع من المعلومات الزائفة الذي ابتلي به نائب رئيس الوزراء كان مجرد طرف جبل جليدي ضخم من التضليل”

إذن هي نفس تكتيكات الاستخبارات الأنجلوأمريكية نفسها، التي استخدموها ضد الشعوب العربية أثناء فاعليات ثورات ربيع براغ العربي، بذات أدواتهم الخبيثة من تنظيم الإخوان المسلمين والجماعات الإرهابية المنبثقة عنه، وباستخدام الميديا الحديثة والقنوات الفضائية التركية والقطرية، التي مارست على شعوب الدول العربية في مصر وليبيا وسوريا واليمن عمليات الخداع الزائف باستخدام حرب الصور التي تظهر زيفًا قتل الثوار الأطهار برصاص قوات الأمن، ودهسهم تحت جنازير دبابات الجنرالات العسكرية. فنجحوا في تمرير مصطلحات جديدة على المجتمع الدولي كتلك التي تصف الإرهابيين بـ “المعارضة المسلحة المعتدلة” التي تقاتل ضد استبداد الحاكم، وطغيان أجهزتة الأمنية والعسكرية، من أجل البقاء.

أي “محاربون من أجل الحرية والديمقراطية” كما وصفهم جون ماكين المتحدث الرسمي باسم الدولة الأمريكية العميقة. وقد نجحوا في خلق غطاء سياسي تلحفت به كافة الجماعات الإرهابية داخل عواصم هذه البلدان العربية.

السيناريو يعبر منطقة الشرق الأوسط إلى جنوب شرق آسيا، وفق الاستراتيجية الأمريكية الجديدة “إعادة الإتزان لآسيا”،

حرب صور تبرر وجود جماعات إرهابية في ولاية راخين، تعمل لحساب الغرف المظلمة في الاستخبارات الأنجلوأمريكية، تحت غضاء جماعات معارضة مسلحة معتدلة تنتشر على مسارات الممر الاقتصادي (الصين – بورما) بذريعة مقاومة عمليات التطهير والإبادة الجماعية لمسلمي بورما على يد الأغلبية البورمية من البوذيين.

وبذلك تنجح الولايات المتحدة الأمريكية في منح الصين
النسخة الخاصة بها من الحروب بالوكالة مثلما فعلت بمنطقة الشرق الأوسط.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube