احمد رباصمستجدات

علاقة الفلسفة بالعلم عند ابن رشد كما حددها الدكتور عزيز الحدادي

أحمد رباص – حرة بريس

في زمن الجائحة، بادر الفيلسوف المغربي عزيز الحدادي إلى إطلاق مجموعة من الحلقات التي شارك فيها ثلة من عشاق الفلسفة والتي حاولت رد الاعتيار لفيلسوف قرطبة.
سوف أختار من هذه الحلقات المنسوبة للرشديين الجدد الحلقة الثانية التي ساركز فيها على مساهمة عزيز الحدادي في مناقشة موضوع الفلسفة والعلم.
بدأ الأستاذ الحدادي مداخلته بطرح هذا السؤال: لماذا اختيار هذا الموضوع؟ مهد للجواب بطرح أسئلة فرعية، مثل: هل الفلسفة علم؟ وهل العلم فلسفة؟ ما العلم؟ وما الفلسفة؟ وما العلاقة بينهما؟
بعد ذلك، قال المتحدث إن ابن رشد لا يحدد هذه المسافة انطلاقا من الزمان، ولكنه يحددها انطلاقا من المعرفة. هنا، تبادر إلى ذهن مؤلف “ابن رشد بين الحكمة والزندقة” هذا السؤال: ما هي هذه المسافة المعرفية عند ابن رشد؟
يفترض الكاتب ان العلم معني بالرغبة في معرفة كل شيء، وبأي ثمن. والفلسفة، في نظره، تهتم بالأشياء الجديرة بالمعرفة والتي تكتسي أهمية كبرى. والفلسفة تبدأ بوضع قوانين الروح، ولذلك فالفلسفة هي البداية والعلم يأتي في ما بعد. ذلك أن الفلسفة، كما يقول ابن رشد، هي علم الوجود بما هو موجود.
مما سبق يستنتج عزيز الحدادي أن المسافة بين الفلسفة والعلم هي مسافة محبة تبدأ من صياغة معنى اومفهوم، لأن هناك حوارا بين العقل والذات، بين العقل والفيلسوف، بين العقل والعلم.
ويؤكد مؤلف “في ضيافة الغدمية” على أنه لأجل تناول كيف يتم الانتقال من الفلسفة إلى الغلم، يجب الاعتماد على ابن رشد؛ لأن الأخير له متن كبير يبدأ من الطبيعيات وفيها الكون والفساد والآثار العلوية والسماء والعالم. وهناك المحال الآخر، وهو مجال التعاليم أو الرياضيات الذي يضم فضلا عن التعاليم علم الموسيقى.
هناك متن آخر يتمثل في الميتافيزيقا التي منحها ابن رشد قسطا كبيرا من وقته، لأن علم ما بعد الطبيعة علم صعب.
لقد فسر ابن رشد أهم كتاب في تاريخ الإنسانية وهو كتاب “النفس” لأرسطو الذي سماه العرب “ما بعد الطبيعة”. هنا يحدد تلميذ محمد عابد الجابري ثلاثة أصناف من الشروح والتفاسير: 1) الجوامع، 2) التلخيص، 3) الشرح الكبير. ثم هناك – يواصل المتحدث – ما يسمى بالعلم العملي ويتجلى في كتابي “الأخلاق” والسياسة.
مرة اخرى، يؤكد الباحث عزيز الحدادي، الحاصل مؤخرا على جائزة سقراط، أننا لا نستطيع أن نطرق بابا من أبواب المعرفة دون أن نلتقي بابن رشد، راغبين كنا أو كارهين.
دشن ابن رشد عتبة النهضة الأوربية- وليس العربية، للأسف- لأنه جعل من وحدة العقل أداة فكر ومن النهضة هدفا.
كان ابن رشد يعتمد على الرياضيات، شأنه في ذلك شأن كانط. وكل من يقرأ متن ابن رشد سيعرف أن كل الاستشهادات الواردة في كتاب “ما بعد الطبيعة” مأخوذة من الرياضيات. لأن علوم التعاليم هي علوم الدقة. هذا يعني الاعتماد على المسلمات الرياضية لبناء الفلسفة الحديثة والفلسفة بمعناها العميق، حيث إن الفلسفة لا تاريخ لها، كما يقال، فهي قراءة لهذا التاريخ..
وبكلمة واحدة، اعتمد ابن رشد على أفلاطون وأرسطو لبناء مشروع فلسفي كبير.
والحقيقة أنه يستحيل ألا يعجب بابن رشد أي كان، فهو عالم وقيلسوف ورجل سياسة أيضا، لأنه شغل منصب قاضي القضاء؛ أي ما يعادل حاليا وزير العدل.
يورد مؤلف “ابن رشد وإشكالية الفلسفة السياسية في الإسلام” نصا رشديا سبق له أن وظفه في مقال له منشور بموقع “القدس الغربي”.
يقول ابن رشد: “وأما الصنائع (العلوم) فقد يعرض فيها الخطأ من قبل صورة القياس ومن قبل مادته، خاصة من قبل اشتراك الاسم الواقع في الحد الأوسط، لكن التعاليم قل ما يعرض فيها الغلط (…) والسبب في ذلك أن الأمور التي فيها التعاليم هي عند الذهن كحال الأشياء المشار إليها عند الحدس، ذلك أن المهندس إذا بين أن كل دائرة شكل، وقد كان قد تقدم فرسم الدائرة ما هي، فإنه لا يمكن أن يغلط.”
إن العلم علم، والسفسطة سفسطة، والخطابة خطابة، والذين يمزجون بين العلم والفلسفة والخطابة يمارسون ما يسميه ابن رشد بالجهل بالقياس والجهل بغير قياس.
إننا -يقول الحدادي- أمام رجل استطاع أن يجعل العلم الطبيعي في خدمة الفلسفة. وتعريف العلم الطبيعي هو أن يعتقد في الشيء الموجود أنه لا يمكن أن يوجد في خلاف ما هو عليه، كما يقول أبو الوليد بن رشد. كل ذلك من أجل بناء العقل؛ القوة المدركة للمادة الأولى الضرورية.
فما هو العقل في نظر ابن رشد؟ هناك تعريف للعقل صاغه ابن رشد كما يلي: “وليس العقل شيئا أكثر من إدراك الموجودات بأسبابها، وبه يفترق عن سائر القوى المدركة. فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل، وصناعة المنطق تضع وضعا أن ما هنا أسبابا ومسببات، وأن المعرفة بتلك المسببات لا تكون على التمام إلا بمعرفة أسبابها ورفع هذه المسببات مبطل للعلم ورافع له.”
لكن، كيف يمكن الانتقال من العلم إلى الفلسفة؟ في هذا المقام، هناك مشكلة كبيرة. لكنها مشكلة لا يعرفها إلا من درس المتن الرشيد بعمق، من كان متخصصا في هذا المتن.
هي في الحقيقة مشكلة لم تعترض ابن رشد فقط، بل اعترضت الكندي والفارابي وابن سينا. لماذا؟ لأننا حينما نريد أن ننتقل من العلم إلى الفلسفة بعد إيجاد جسر للتواصل بينهما، نكون أمام صعوبة، ولذلك وجد الفلاسفة العرب، خاصة ابن رشد، أن هذه الصعوبة تكمن في كتاب “النفس”.
ثمة في كتاب “النفس” فقرة تتحدث عن العقل بالقوة، هذا العقل بالقوة كيف يمكن أن يتصل بالعقل الفعال؟ كيف يمكن للنفس أن تتصل بالمعقولات؟ النفس العاقلة هي التي تجعل هذا الانتقال ممكنا.
لننتقل الآن من كتاب “النفس إلى كتاب ‘ما بعد الطبيعة”. في هذا السياق، يعتبر الباحث عزيز الحدادي الكتاب الأخير لوحده متنا، بمعنى أننا حينما نفتح كتاب “ما بعد الطبيعة” نجد أن المقالة الأولى هي في تعريف نظرية العلم. وهكذا تحدث أرسطو عن العلماء والفلاسفة الذين سبقوه. ولكن، أين تكمن المشكلة العويصة في هذا الكتاب؟
إنها تكمن في مقالة اللام التي حظيت بأكثر من ترجمة. ولماذا هذه المقالة؟ لأنها تثير مسألة العقل الفعال، الجوهر الأول، أو المحرك الذي لا يتحرك. كان ابن رشد رائعا لأنه استطاع أن يجعل من هذه المقالة علم ما بعد الطبيعة.
في الجزء الثاني من مداخلته ضمن الحلقة الثانية من حلقات الرشديين الجدد المنشورة في صفحة جمعية محبي الفلسفة على الفيسبوك، أشاد الحدادي بالتعدد والتنوع اللذين طبعا تدخلات المشاركين الآخرين، معتبرا إياها متضمنة لمتعة الروح، لأن الروح تسكن في المتعة، وهذه الأخيرة مرتبطة بالعلم النظري، أي بالفلسفة، لأن ما هو عظيم هو أن تكون روحك حرة، هاربة من الاستعباد الذي تؤدي إليه السياسة بينما تفضي الفلسفة إلى التحرر.
فحينما ندخل إلى كهف أفلاطون ونأخذ واحدا من المسجونين فيه غصبا ونخرجه لكي يرى الشمس، سوف يقول لنا إنه كان قابعا في السجن وأصبح الآن حرا، وما يراه هو الحقيقة بعينها. ولكن المشكلة هي أنه حين يعود ويحاور السجناء الآخرين، سوف يجهزون عليه ويفتكون به.
إن تناول ابن رشد للعلم، هو، كما قال الأستاذ المصباحي، تناول من أجل الإنسان، لأن الإنسان بدون علم يظل في مرتبة الحيوانية، والإنسان لا يستحق أن يكون حيوانا عاقلا إلا بالعلم، خاصة العلم بجميع مجاليه، بجميع مراتبه، التي يتم الانتقال صعودا عبر كل واحدة منها.
وهكذا، يستحيل أن نتعلم الميتافيزيقا بدون أن نتعلم المبادئ الأولى للعلم الطبيعي أيضا، ودون أن نعرف ما معنى المقدمة الضرورية والمقدمة الممكنة والمقدمة البرهانية والمقدمة السفسطائية. هذا التمييز أساسي لأننا عندما نخلط بين هذه المقدمات نكون في مجال السفسطة الذي هو مجال اللاهوت.
إذن، الدين، كما يقول الألمان بشجاعة، يدرس في الكنيسة، ولكن الفلسفة تدرس في الجامعة. لكن العكس هو الذي حصل عندنا في المغرب حيث أصبح الدين يدرس في الجامعة والفلسفة لا تدرس، وإن تم تدريسها في الجامعة فبصعوبة واحتشام لأنها ابتليت بقوم يناصبونها العداء، وما عسانا إلا انتظار ما ذا سيقع في المستقبل (القريب).
وفي ختام مداخلته، نوه الأستاذ عزيز الحدادي بفكرة عبر عنها الأستاذ محمد المصباحي مفادها أن الإبستيمي الرشدي ليس هو الإبستيمي كما نعيشه الآن، حيث تحول العلم إلى تقنية ونسي أنه علم. وباختصار، العلم حاليا تاه عن العلم بعدما كان في زمن ابن رشد علما ذا هدف وغاية..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube