اقواسمستجدات

معاني اليد في الثقافة الالمانية

محمد نبيل

تحضر الأَيْدِي دائما في حياتنا اليومية. نستعمل الكلمة في ممارساتنا للغة وفي علاقتنا بمحيطنا، لكننا ننسى أحيانا معناها. اليد هي رمز وإشارة في كل الثقافات. اليد تتحدث عن طبيعة علاقاتنا بأجسادنا، ولها دلالة بصرية كذلك، بل هي جزء من علاقاتنا الحميمية. فهل فعلا سقطت اليد في طي النسيان؟

الجائحة واليد المنسية

في زمن الجائحة، أصبح من المستحيل الاقتراب من الآخر أو مصافحته، وكأنها عملية بتر رمزية للأيدي. هذا واقع فعلي يكبل المشاعر والرغبات الإنسانية ويدمر عوالم العواطف، بل ويؤثر حتى على أدمغتنا. في حوار شيق وجميل أجرته معه صحيفة “الزمن” الألمانية (عدد يوم 23 مايو 2021)، حاول الكاتب الألماني يوخن هوريش أن يفسر الآثار المعرفية لحضور اليد ودلالاتها في حياة البشر. في هذا الحوار المتضمن للكثير من المعاني، نستشف أن اليد هي قوة وضعف الشخصية، وغيابها يهدد إنسانية الإنسان.

الأيدي.. عنوان كتاب

درس يوخن هوريش اللغة الألمانية والأدب والفلسفة والتاريخ في جامعات دوسلدورف وباريس وهايدلبرغ قبل أن يعمل أستاذا في جامعة هاينريش هاينه في مدينة دوسلدورف. هوريش هو صاحب كتاب “الأيدي” (Hände) الذي يحاول فيه النبش في تاريخ اليد الثقافي والأنثروبولوجي.

رحلة اليد مع عظماء الإبداع الأدبي

ترحل اليد ضمن أهم إنجازات الإبداع العالمي فترتبط بالشخصية الأكثر شهرة في الأدب الألماني: “فاوست”. مركزية اليد في إبداع الكاتب والأديب الألماني غوته تستحق الكثير من الاهتمام. حسب رأي هوريش، “هذا الأمر ليس مصادفة. الكاتب غوته له حساسية ما في علاقته بالأسماء على الإطلاق. قد يرفض هذا الأمر باعتباره تأويلا مبالغا فيه، ولكن فاوست هو اسم ناطق وليس فقط حدثا تاريخيا بأي حال من الأحوال”.

اليد في علاقتها بشخصية فاوست أساسية وجوهرية، فمعنى “فاوست” في اللغة الألمانية هو قبضة اليد (Faust). وحسب هوريش، “هي استعارة ترتبط باليد”. يريد “فاوست” أن يعرف ما الذي يستطيع القيام به، وما هو الشيء الذي لا يختاره وهو في أيدي قوى عليا. طبعا، وكما يقول هوريش: “كان اسم فاوست يرتبط تاريخيا باسم فاوستوس، ولكن غوته لم يأخذ هذا الاسم التاريخي الأول، يوهان، ولكن أطلق عليه اسم فاوست هاينريش”. إن اليد بهذا المعنى تشكل علاقة ما في ربط الإنسان بإشكالية الجبر والاختيار.

معاني اليد في اللغة الألمانية

اليد هي أيضا حاضرة وبقوة في اللغة الألمانية اليومية. الكاتب هوريش يقدم لنا العديد من الأمثلة الواضحة على هذا الحضور. “بوتين يحكم بقبضة قوية. عندما وضعت يدي على نفسي (تعبير يعني في اللغة الألمانية: وضعت حدا لحياتي)”. النبش في اللغة الألمانية يغوص بنا في معاني مغايرة. نقول على سبيل المثال: الطفل هو في رعايتها/في حضنها (das Kind ist bei ihr in guten Händen)

الأمر في يد أمينة (die Sache ist bei ihm in guten Händen)

أعطى وتبرع ووهب (mit vollen Händen geben)

لا يفارق الكتاب يده (er legt das Buch nicht aus der Hand)

إن اليد هي الكلمة التي تتوفر على أكثر من عبارة في اللغة الألمانية العامية. وبالضبط هناك أكثر من مائة عبارة. في كتاب هوريش “الأيادي”، نعثر على الكثير من البيانات والمعطيات. مثلا، في رواية توماس مان “بودنبروكس: خراب عائلة” (Buddenbrooks: Verfall einer Familie)، ترد كلمة “يد” أو “أيدي” 643 مرة في 837 صفحة.

اليد في العالم الرقمي

اليد ترتبط بالعمل التجاري. لكن التجارة لا تمارس اليوم بالمعنى الحرفي للكلمة. التجارة دخلت عالما جديدا وغريبا يثير الحيرة في ما يخص المستقبل. يقول هوريش في هذا الصدد: “إن المدير الذي تشتق من اسمه في اللغة اللاتينية manus كلمة “اليد”، يمسك كل الأشياء قدر الإمكان بيد حازمة وماهرة”.

اليوم، لا ترتبط التجارة بالأشياء المادية، فالشركات المعتمدة التي تصنف على أعلى المستويات لا تنتج الأثاث ولكن تعرض خدمات، مثل “Instagram” و”Google” و”Facebook”، وتقدم سلعا غير قابلة للاستعمال اليدوي، أي البيانات والأخبار وما إلى ذلك. وهذا بدوره له أيضا أثر رجعي على السلع: بعض الأحذية الخفيفة مكلفة للغاية، ليس بسبب صنعتها الجيدة، ولكن بسبب علامة تجارية منسوبة إليها. هنا، يتم دفع القيمة الرمزية للعلامة التجارية، وهي الآن المعتمدة من بين العديد من العلامات

هل ما يقع اليوم هو نتيجة للرقمنة؟ الرقمنة تغير ملامح العالم. لقد سبق أن طرحت التقنية أسئلة فلسفية عميقة. يرى هوريش أن الوضع الحالي في العالم “هو نتيجة لهذا العالم اللامادي”، فكلمة “الرقمنة” مشتقة من الكلمة اللاتينية “digitus” أي “إصبع”. لم نعد نتعامل مع الأشياء باليد، بل بإصبعنا. وحتى هذا الأمر أصبح متجاوزا، حيث نقوم على نحو متزايد بتشغيل الأجهزة بواسطة أصواتنا، على سبيل المثال: أليكسا، سيري، وأجهزة القيادة. نحن نطور القيادة الذاتية للسيارات ولا نوظف أيادينا. إنه تغيير حاسم في علاقتنا بالعالم والآخر. أصبحت العلاقة لا تعتمد على حاسة اللمس”.

علاقة مضطربة مع الجسد

نعم، كل هذه الأشياء لها تأثير على أنفسنا وحياتنا اليومية. لا يمكن أن تتغير التقنيات وطريقة تعاملنا مع العالم دون أن نتغير كأفراد وجماعات. ينظر هوريش إلى هذا الأمر بعين نقدية. “نحن نشكل علاقة مضطربة مع أجسادنا، وبالتالي فهي علاقة مضطربة مع الوجود. حقيقة أننا لم نعد نكتب باليد، ولكن فقط ننقر أو حتى نملي، ما له آثار معرفية لا يستهان بها”.

هذه التأثيرات يدرسها علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الأحياء الذين يقولون إن تطور اليد هو وحده الذي أدى إلى قفزة كبيرة في تطور الدماغ. شرط إمكانية تفكيرنا هو طريقة مشينا المستقيمة، ما يعطي حرية لليد ويسمح لنا بالدخول بها في علاقة مع العالم. هي علاقة وثيقة بين اليد والرأس ولها تأثير على أدائنا المعرفي. يرى هوريش إن “إنجازنا الفكري الأساسي في الفهم قائم على اليد. ولكننا ننسى في كثير من الأحيان هذه العلاقة الوثيقة”.

اليد تخلق الفن

في زمن الجائحة، فقدنا المصافحة وحتى علاقاتنا الحميمية بأجسادنا. ينقصنا الكثير من الأمور، فحياتنا حسب هوريش، “أصبحت مرتبطة أكثر فأكثر بالرأس والتفكير، وابتعدت أكثر عن المصافحة بالأيدي. ومن أجل التحدث بلغة هايدجر: “ابتعدت حياتنا أكثر عن الوجود”.

أجريت تجربة مع قردة صغيرة وضعت أمام خيارين: إما أن توضع على الذراع والإمساك بها أو إطعامها. وعلى الرغم من الجوع، قررت القردة الإمساك بأيديها بأجسام أخرى. يقول هوريش في هذا السياق: “تجربة القردة نجدها أيضا عند الإنسان. إذا فرض على الأطفال على وجه الخصوص عدم مصافحة الآخرين، فهذا يؤدي بدوره إلى اضطرابات نفسية كبيرة”. عالج غوته وبشكل مكثف لعبة التبادل بين اليد والعقل والروح. وتقول المصادر إن غوته سحرته فعلا اليد والصناعة اليدوية كثيرا.

يقول هوريش: “اليد تخلق الفن. أعرف بعض الناس-الذين يوجدون على النقيض مني-يعزفون بشكل ممتاز على الكمان أو البيانو، وقد أكدوا لي جميعا أنه بالنسبة لهم النموذج غير القابل للتصديق تماما هو أن الدماغ يعطي أوامر لليد أثناء عزف الموسيقى. أجزاء من الدماغ هي عالقة في اليد. العديد من الفنانين لديهم هذه التجربة، بما في ذلك الرسام الذي يقف أمام القماش ويضع عليه خطا معينا وليس خطوطا أخرى”.

اليد تحرر نفسها. التحرر من يد سلطة متفوقة يعني تحرير اليد من الدماغ. الفنانون ليسوا دائما كما يقول هوريش “أفضل المترجمين لأعمالهم الخاصة. إنهم صانعوها، لكنهم لم يفكروا في كل شيء بوعي تام”.

(*) كاتب ومخرج سينمائي مقيم في برلين

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube