شخصيات

وأنا أستعد لإحياء الذكرى الخمسين لاغتيال سيد المقاومة والكبرياء الشهيد عمر بنجلون

د عبد الرحمان غندور

وأنا أستعد لإحياء الذكرى الخمسين لاغتيال سيد المقاومة والكبرياء الشهيد عمر بنجلون، وقفت الذاكرة محملة بثقل التاريخ تسائلني، فكتبت هذا المقال:اغتيال الذاكرة ومحو التاريخ منهجية لصناعة “القطيع” في مختبرات الاستبداد والفساد في صميم الزحمة والزحام السياسي، حيث تتقاطع الأصوات وتتشابك الخطابات، ثمّة صمت آخر، عميق ومريب، يتسلل كالضباب. إنه صمت يُفرض على الذاكرة، وإهمالٌ متعمّد للتاريخ، ليس كنسيانٍ عارض، بل كاستراتيجية ممنهجة تهدف إلى تشكيل كائن بلا جذور. إنها عملية جراحية دقيقة تزيل من الوعي الجمعي طبقاتٍ من الماضي، لتترك فراغًا هشًّا يسهل ملؤه بأي صدى يأتي من الأعلى. وهكذا يُخلق الجيل المنفصل، الذي لا يحمل في عقله الباطن لا ألم الانتصارات ولا مرارة الهزائم، لا زخم المقاومة ولا ثقل المسؤولية. يصبح كالصفحة البيضاء، أو كالطين الطيّع، جاهزًا لاستقبال أي نقش، وأي شكل.هذا القطع بين الإنسان وتاريخه ليس بريئًا أبدًا. إنه التمهيد الخفي لصناعة اللقمة السائغة، تلك الكتلة البشرية التي تفتقر إلى المناعة الفكرية، فتنقاد إلى ثقافة الرداءة بسهولة، وتتقبّل التضبيب كحقيقة مطلقة. فعندما يغيب الوعي بالماضي، يغيب معه الإطار النقدي الذي يمكّن الفرد من تمييز الخطأ من الصواب، والاستبداد من العدل، والوهم من الحقيقة. حيث يصبح مستهلكًا سلبيًا للحاضر الدائم، منفصلاً عن السياق الذي صنع هذا الحاضر، وبالتالي عاجزًا عن تصور مستقبل مختلف. إنه الخضوع الذي لا يحتاج إلى قيود، لأنه خضوع داخلي، نابع من فراغ الهوية.فالهوية ليست شيئًا فطريًا نولد به، بل هي حكاية نرويها عن أنفسنا، مبنية على ذاكرة مشتركة، على ركام من اللحظات والأسماء والأماكن والرموز. وعندما تُسلب هذه الذاكرة، أو تُشوّه، أو تُهمش، تبدأ معالم الذات في التلاشي. وكائن بلا هوية واضحة هو كائن قابل للانصهار في أي بوتقة، قابل لتبني أي خطاب، حتى لو كان ضدّ مصلحته. إنه يفقد البوصلة التي ترشده في خضم العواصف السياسية والاجتماعية.والأخطر من فقدان الهوية، هو الاستعداد لإعادة إنتاج المآسي نفسها. فالتاريخ، في جوهره، ليس مجرد أحداث وقعت، بل هو مخزن الحكمة البشرية، وسجلّ أخطائها وانتصاراتها. ومن لا يعرف كيف سقط أسلافه في فخ الاستبداد، أو كيف انتصرت عليهم المكائد، يكون مصيره – على الأرجح – الوقوع في الشبكة ذاتها، ولكن بأسماء جديدة وأقنعة حديثة. فالجهل بالتاريخ هو تكبيل للإنسان في سجن الحاضر الأبدي، حيث تتكرر نفس الدورات بلا توقف، لأنه لا يوجد وعي بالمسببات والنتائج، ولا توجد دروس نستفيد منها.وهكذا، فإن الذي يُجرد من ذاكرته، يُجرد من سلاحه الأقوى: سلاح الوعي. ويُجرد من حقه في المشاركة الفاعلة في صنع مصيره. فلا يمكن لمن لا يملك رواية عن ماضيه أن يشارك بثقة في كتابة فصله الخاص من قصة وطنه، إذ تتحول مساهمته إلى ردود أفعال عابرة، أو انسياب مع التيار، لا إلى فعل إرادي واعٍ يصوغ التاريخ. فيصبح رقمًا في معادلة يكتبها الآخرون، بدلاً من أن يكون حرفًا فاعلاً في النص. مقاومة هذا النسيان المُتعمد ليست ترفًا فكريًا، بل هي فعل بقاء. إنها محاولة عنيدة لاستعادة الخيط الذي يربط الأجيال، لإنقاذ جزء من الروح الجماعية من الضياع. إنها الإصرار على تذكر ما يُراد نسيانه، ليس من أجل اجترار الماضي، بل من أجل كسر الحلقة المفرغة، ومن أجل أن يكون للوجود معنى، وللمستقبل أساس. ربما تكمن قوة الإنسان ليس فقط في قدرته على النسيان كي يعيش، بل في إصراره على التذكر كي يستمر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube
Set Youtube Channel ID