تربية وعلوممستجدات

أسطورة انفتاح المدرسة على محيطها

أحمد رباص

انسجاما مع المنهجية التي اعتدمتُ عليها منذ انطلاق المسار الذي اتّخذه هذا النوع من السرد النابع من الذات الذاكرة لذكرياتها الناجية من حريق النسيان، أجدني الآن متحمسا لاستدراك ما لم أقله بعد عن أيامي الأولى التي أمضيْتُها في قِواءِ الفكارة المنذور للإهمال.
قبل انتقالي للإقامة في الكوخ المهتوك والواقع في مهب الريح بجوار المدرسة وقد أريد به في بادئ الأمر القيام مقام مستوصف، عشتُ ما يناهز مائة يوم في “الكصر” الحاضن للمسجد والمُشيّدِ بالطينِ المسنودِ بالأحجارِ وأعمدةِ الخشب..يبدو المسجد مستثنىْ من هشاشة الطين وفي منأى عن عوامل التعرية واليباب..المنزل الذي يقيم فيه الإمام بداخل المسجد أحيط بسرية تامة غير قابلة للاختراق..حتى المعلومات التي تخص وضعيته الاجتماعية والمنطقة التى جاء منها إلى هنا لم يصلنا منها شيء ذو بال.
أذكر جيدا تلك الليالي المعدودة (على رؤوس أصابع يد واحدة) التي تسنى لي فيها الالتقاء بهذا الإمام الورع والتحدث إليه، حتى وإن كنتُ تاركا للصلاة على غرار المعلم الامازيغي الأزيلالي الأصل والمنشأ، في حين يبدو المعلمان الآخران (المسفيوي والمكوني) مُواظِبيْن على أداء الصلاة في المسجد خلف الإمام كلما سمحت لهما الظروف بذلك.
هذه المناسبات القلائل التي كنا – نحن معلمي مجمع الفكارة – نجتمع فيها بالإمام هيأها لنا أب كفيف لأحد تلاميذي من خلال دعوتنا جميعا لتناول طعام العشاء في بيته. في كل مرة، كان لنا موعد مع طبق كسكس دسم تتوسطه قطع اللحم والشحم المغطاة بخضر مطهية وهارية. من عادة الأهالي في الجنوب تناول الكسكس مع اللبن الطري المهدوم (الحامض قليلا) حيث يسمح للآكل بسكب القليل منه في موضعه من الإناء، فتقِلُّ بالتالي الحاجة إلى شرب الماء أثناء الأكل..
في مناسبات أخرى، كنا نَحُلُّ ضيوفاْ لدى عائلة من عائلات المجمع لأجل تناول طعام الغذاء..اللافت للانتباه في مثل هذه المناسبات هو العدد الكبير من المدعويين ما يعني أن الداعي لتنظيم هذه المأدبة احتقال بميلاد أو زفاف أو إعذار أو ما شابه. قبل تقديم الطبق الرئيس المكون أساسا من لحم الماعز، تحضر “الصواني” وتوزع على من يُتنسَّمُ فيه إعداد الشاي بإتقان على طريقة سكان الصحراء الأصليين الذين لا يحفلون بالنعناع أصلا، ويوثرون مذاق الشاي الحلو،الخالص والمُركَّزِ. بعد توزيع كؤوس الشاي، تعطى لكل ضيف كسرة صغيرة من الخبز مع أسياخ من الشواء الساخن.
بعيدا عن منطق الملاد بملاذ الأكل والشرب، تعالوا معي لأحكي لكم عن أمرين إثنين لم يُتحْ لي ذكرهما سابقا. الأمر الأول هو أن شباب المجمع الذي حلَلْنا به كمعلمين أجمعوا على مراقبة حركاتنا وسكناتنا آناء الليل وأطراف النهار. لم يكتفوا بذلك فزادوا عليه بأن منعونا من التنقل خارج محيط “الكصر” الذي أُجْبِرْنا على الإقامة فيه منذ مجيئنا، بداعي محاصرتنا بين أركانه وتجاويفه المتربة، خوفا من أن ننسج في الظلام علاقات مع بنات ونساء الدوار..كلهم، بدون اشتثناء، غيورون على شرفهن..عيونهم التي لا تنام لا تخطئ واحدا منا خرج خفيةْ في الظلام يريد قضاء حاجته البيولوجية بين حطام وأطلال منازل شاهدة على حياة غابرة..
زميلي المسفيوي قَبِلَ عن خوف أو خبث أن ينقل إلي، ذات يوم، رسالتهم الشفوية التي اقتصر مضمونها على تحذيرنا من قضاء حاجتنا في المنزل المهدوم المجاور ل”الكصر” بدعوى تفادي معاكسة النساء ومصادفتهن بعين المكان وقد تسلّلْنَ إليه مختفيات في الظلام لنفس الغرض. مرة أخرى حمّلوه رسالة أخرى مفادها أنه يُمْنعُ علينا الذهاب شخصيا إلى أحد الحانوتين، وإذا احتجنا إلى شيء منهما فأطفال الدوار على استعداد ليجلبوا لنا ما نريد وما علينا إلا أن نلتزم جحورنا “ولا غادي يخْليوْ دارْ بونا”.
الأمر الثاني أكثر مدعاة للاستغراب وهو يرتبط بمقاول يسكن في أقصى المجمع..من بين سكان الفكارة هناك رجلان فقط يسوقان سيارة: المقاول وعون سلطة كنتُ قد بتًّ ليلتي الأولى في منزله. كلاهما يملك سيارة من نوع “بيكاب”، غير أن سيارة الأول تبدو جديدة مقارنة مع سيارة الثاني التي لا تخطئ العين اهتراءها. كيف لا وقد كنت ذات يوم شاهدا على توقف محركها عن الحركة عندما بلغت بنا مشارف أكدز وخذلتنا في الخلاء؟! تركني في ذلك اليوم مع امرأة عجوز غزت وجهَها التجاعيد وطلب مني البقاء إلى حين عودته مصحوبا بحرفي ميكانيكي لإصلاح العطب. انصرف لما أبديت له استعدادي للبقاء في انتظاره حتى يعود. لكن عندما اختفى المْقدّمْ عن ناظري، قررت بدون تردد الانصراف إلى حالي تاركا المرأة العجزوز وحيدة في أرض خلاء، فريسة لمخاوف شتى.
الشيء الغريب الذي لمستُه في المقاول، ابن الدوار، هو نفوره الظاهر من التواصل معنا من بعيد أو قريب. كان ذا شخصية منغلقة، محاطة بهالة من الأسرار التي تضاعف من غرابته في نظرنا. كنت أصادفه دائما في أكدز وهو يجول بسيارته عبر المدارات والأزقة والشارع الرئيس. أحيانا، عندما تتقطع بي السبل في أكدز تطاوعني نفسي على التقدم إليه طالبا منه أن يأخذني معه على متن سيارته إلى الدوار.لكنه يشيح بوجهه عني ويتظاهر بعدم رؤيتي. بالله عليكم، كيف السبيل إلى تفعيل انفتاح المدرسة على محيطها إلا كانوا فيه شي وحدين بحال هاد الساط، وما أكثرهم؟!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube