حيمري البشير

التزام المغرب بالوحدة الإفريقية :الماضي والحاضر

تاريخيًا، كانت المملكة المغربية دائما مدافعًا قويًا عن الوحدة الإفريقية منذ المراحل الأولى لتأسيس منظمة الوحدة الإفريقية. وقد تبنّت رؤيةً مشتركةً لإفريقيا موحدة تُسهم سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا في تقدم القارة. وكان هذا متوافقًا مع المُثل الإفريقية الأوسع التي روّج لها القادة الأفارقة وحركات التحرير في ذلك الوقت.

كان المغرب بالفعل أحد الأعضاء المؤسسين للمنظمة، التي أُنشئت عام 1963 في أديس أبابا. وكان الدافع وراء إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية هو رغبة الدول الإفريقية في العمل لتعزيز الاستقلال والوحدة وحل المشاكل المتعلقة بالاستعمار. ومن هذا المنطلق، أكدت مشاركة المغرب في تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية التزام المملكة بفكرة التضامن القاري والقومية الإفريقية.

كان هذا الانخراط والنشاط أمرًا لا يُصدق فيما بعد، أي قبل عودة المغرب إلى الاتحاد الأفريقي عام 2017، وهو حدث يعكس رغبة المملكة في استعادة مكانتها المفضلة داخل أسرتها الإفريقية. والهدف منه أيضًا إحياء نفوذها وتعزيز روابط الصداقة والتعاون مع الدول الإفريقية الأخرى، مع الاستمرار في عرض قضيتها الوطنية بشأن وضع أقاليم الصحراء المغربية كجزء من سياستها تجاه وحدة أراضيها.

وفي نفس الوقت، كانت التحديات هائلة بالنسبة للمنظمة، حيث يتوجب عليها التعامل مع نقص الأدوات الفعالة والوسائل المالية والسياسات الاقتصادية الجريئة. والأهم من ذلك كله، افتقرت إلى آليات فعالة لحل النزاعات وتنفيذ قراراتها. وكانت التوترات جليةً بين الدول الأعضاء بشأن القضايا السياسية والاقتصادية.

تعقدت علاقات المغرب مع منظمة الوحدة الأفريقية آنذاك بسبب قضية الصحراء، وهي منطقة في شمال أفريقيا استعادها المغرب عام 1975، بعد انسحاب إسبانيا، القوة المحتلة، وفقًا لاتفاقية مدريد. أدى هذا الوضع إلى صراع كامن مع دول ذات التبعية والأيديولوجيا الاشتراكية وأنظمة الحزب الواحد في خضمّ فترة الحرب الباردة. عارضت هذه الدول مصالح المغرب، وقدمت الدعم المالي والدبلوماسي، وخاصةً العسكري، للحركة الانفصالية التي تدعمها وتحتضنها الجزائر. فانسحب المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية بعد قرارها الغير قانوني قبول عضوية جبهة البوليساريو مع وجود “دولة وهمية” مستوطنة في صحراء منطقة تندوف، جنوب غرب الجزائر، عام 1984. وجادل المغرب، ولا يزال، بأن هذه العضوية تنتهك مبدأ السلامة الإقليمية والسيادة الوطنية، ناهيك عن عدم احترام منظمة الوحدة الإفريقية لمعايير القانون الدولي الخاصة ب مسطرة قبول الدول الجديدة.

فيما بعد، تأسست كمنظمة الاتحاد الأفريقي عام 2001 لتحل محل منظمة الوحدة الأفريقية. ورغم إدراكه أن قضية الصحراء لم تُحل، عاد المغرب بعد غياب دام 35 عامًا، حين اعتبر المغرب أن ديناميكيات السياسة الإفريقية قد بدأت تتغير. علاوة على ذلك، أصبح النزاع الإقليمي حول الصحراء الآن حصريا من اختصاص مجلس الأمن الدولي.

عودة المغرب إلى الاتحاد الأفريقي

فعل المغرب ما كان من المفترض أن يفعله في الوقت المناسب. ولما عاد إلى أسرة الاتحاد الأفريقي عام 2017، ألقى ملك المغرب، محمد السادس، خطابًا لا يُنسى، أكد فيه على أن “الانسحاب من منظمة الوحدة الأفريقية كان ضروريًا: فقد سمح للمغرب بإعادة تركيز جهوده على القارة، وأبرز أيضًا أهمية أفريقيا بالنسبة للمغرب، وضرورة المغرب لأفريقيا”.

فعلى مدى سنوات الغياب الخمس والثلاثين، نجح المغرب في إقامة شراكات تعاون وتضامن متينة مع غالبية دول القارة في مجالات مختلفة، بما في ذلك التنمية الاقتصادية والأمن والتجارة. ورسّخ مكانته كقوة إقليمية وقارية من خلال تبني سياسات جريئة واستباقية للمساهمة في حل النزاعات وحفظ السلام والتنمية المشتركة والدفاع عن مصالح إفريقيا على الساحة الدولية.

التحديات الإفريقية

ويبقى أمام الاتحاد الإفريقي طريق طويل قبل أن يحقق أهدافه في مجال السلام والأمن، وبالتالي فهو بحاجة إلى تطوير آليات أقوى لحل النزاعات وحفظ السلام على وجه الخصوص. فعلى سبيل المثال، عادت العديد من الدول، التي تحكمها حاليًا أنظمة عسكرية، إلى الظهور في أفريقيا في السنوات الأخيرة. ولا يمكن استبعاد أن الاتحاد الإفريقي لا يزال غير قادر على التأثير على مجرى الأحداث في العديد من القضايا، حيث يتصدر مثلا الصراع بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا قائمة النزاعات الدامية والمستعصية.

كما لا تزال القارة الإفريقية تواجه تحديات اقتصادية جسيمة، بما في ذلك التخلف والفقر ونقص البنية التحتية. وللعلم، فقد أطلق القادة الأفارقة مبادرة الشراكة الجديدة من أجل تنمية أفريقيا (نيباد) عام 2001، وهي مبادرة تهدف إلى تسريع النمو الاقتصادي والتنمية في القارة. وسعت تلك المبادرة إلى معالجة الأسباب الجذرية للفقر، وتعزيز الحكم الرشيد، وضمان السلام والأمن.

فالاتحاد الإفريقي صُمم أصلا ليكون مؤسسة أكثر حداثة وديناميكية وفعالة للتنمية والحوكمة في إفريقيا. إلا أن التقدم في هذا المجال لا يزال بطيئًا حتى الآن. وفي الواقع، ينتظر الأفارقة رؤية إنجازات على أرض الواقع تؤثر في حياتهم اليومية، بعيدًا عن اجتماعات الدبلوماسيين والخبراء.

أما على الصعيد الجيوسياسي، فقد أصبحت ضغوط العولمة أكثر وضوحًا منذ أواخر التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين. وتواجه العديد من الدول الأفريقية تحديات مثل اختلالات التجارة العالمية، والديون الخارجية، والاعتماد على المساعدات الدولية، في حين اعتُبر إنشاء الاتحاد الإفريقي وسيلةً لدول القارة لتأكيد استقلاليتها في الشؤون العالمية من خلال تعزيز قدرة المنظمة على التفاوض مع القوى والمؤسسات الدولية، والسعي إلى طرح سياسات إنمائية أكثر ملاءمة.

ومن ثم، يمكن لمستقبل الاتحاد الأفريقي أن يتخذ أشكالًا ومساراتٍ مختلفة، تبعًا لعوامل داخلية وخارجية. وتتراوح هذه العوامل بين الديناميكيات السياسية في القارة، والنمو الاقتصادي، والأمن الإقليمي، وحل النزاعات، والإصلاحات الديمقراطية الداخلية، والقيادة والحوكمة، والشراكات العالمية. ومن الواضح أن كل ذلك يعتمد على السياق الجيوسياسي الحالي.

منظور مغربي: نهج رابح للجميع

في جميع الأحوال، لا يزال الاتحاد الإفريقي يواجه تحدياتٍ حقيقية ومحتملة متعددة، تتشكل بفعل الديناميكيات الداخلية (نقص الموارد وعدم القدرة على فرض قراراته والإصلاحات الهيكلية والحوكمة) وبتأثير القوى الخارجية (الشراكات العالمية، والتنافس الجيوسياسي). ومع ذلك، لتحقيق الهدف البعيد المتمثل في رؤية إفريقيا أكثر وحدةً وازدهارًا، يجب على الاتحاد الإفريقي معالجة تحديات التنسيق السياسي، والتكامل الاقتصادي، والتعاون الأمني.

وفي هذا السياق، يبرز دور المملكة المغربية كقوة فاعلة وحاسمة في ميادين عدة. فقد أطلق المغرب العديد من المبادرات داخل القارة، على الصعيدين الثنائي والإقليمي وكذلك القاري. وتُبرز رؤية جلالة الملك محمد السادس هذا الالتزام الصادق والدائم بالوحدة الإفريقية والاندماج. فعلى مدار الخمسة والعشرين عامًا الماضية، قام جلالته بنحو عشرين زيارة إلى العديد من دول القارة لإطلاق الكثير من الشراكات الاستراتيجية والمشاريع الهيكلية. وهذا يُؤكد سعي المغرب إلى منح إفريقيا قيادة جديدة من خلال إجراءات ملموسة والتزام حقيقي تجاه القارة وشعوبها، بعيدًا عن أيديولوجيات ما بعد الاستقلال وحقبة الحرب الباردة.

ويُولي المغرب أهمية بالغة لإفريقيا كفاعل أكثر ديناميةً وذي موقع استراتيجي هام. ولطالما لعبت المملكة دورًا محوريًا في الاستقرار الإقليمي وحل النزاعات، مع دور قيادي في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في القارة. ومنذ عام 2000، انخرط المغرب في سياسة جريئة وداعمة للشراكات جنوب-جنوب، وهي سياسة تحظى بتقدير كبير وانخرطت فيها غالبية الدول الإفريقية. ويُعد مشروع خط أنابيب الغاز الأطلسي-الأفريقي، الذي يجمع ثلاث عشرة دولة على سواحل غرب وشمال أفريقيا، مثالاً رائعاً على مشروع اندماجي يقوده المغرب ونيجيريا. ويمكن للاتحاد الأفريقي أن يستلهم منه ويقترح مشاريع استراتيجية مماثلة من شأنها أن تُسهم في التنمية الإفريقية وتعزيز ريادة القارة.

وبشكل عام، يُعد المغرب لاعباً رئيسياً في الشؤون السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية في إفريقيا، وذلك بفضل بعض الجوانب الرئيسية لسياساته ونشاطاته، على سبيل المثال في مجالات الدبلوماسية الإقليمية والنفوذ السياسي، والتعاون الأمني، والرؤية الاقتصادية، والاستثمار وتطوير البنية التحتية، والثقافة والتعليم، والمساعدات الإنسانية والإنمائية.

الأمل والتطلع للأفضل

هل يعني هذا أن التكامل الإفريقي سيبقى صعب المنال في المستقبل المنظور؟ الإجابة للأسف هي نعم. ومع ذلك، مع بذل الجهود المناسبة وحسن النية من جانب بعض الدول الإفريقية، بما فيها المغرب، يُمكن للمرء أن يتمنى الأفضل ويشعر بالتفاؤل.

بقلم محفوظ البحبوحي دبلوماسي سابق

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube
Set Youtube Channel ID