ثقافة وفنونمستجدات

رسائل سيغموند فرويد والشاعر ريلكه

تبادل فكري في زمن الحرب

برلين : محمد نبيل

العلاقة بين سيغموند فرويد والشاعر راينر ماريا ريلكه تعد واحدة من أبرز القصص المعقدة والمثيرة في التاريخ الثقافي. تبادل كلاهما رسائل في فترة عاصفة من تاريخ أوروبا، تحديدا في ذروة الحرب العالمية الأولى. ومع نشر بعض هذه الرسائل مؤخرًا في الأرشيف الأدبي الألماني، بدأنا نكتشف أبعادًا جديدة لهذه العلاقة بين عالم النفس الشهير والشاعر العميق. فما الذي كان يدور بينهما؟ وما هي التأثيرات التي كان كل منهما يحاول أن يتركها على الآخر؟

خلفية تاريخية: فيينا بداية القرن العشرين

كانت فيينا في بداية القرن العشرين مركزًا ثقافيًا يتقاطع فيه الأدب مع الفلسفة وعلم النفس. عاشت شخصيات مثل فرويد وريلكه في نفس المدينة، وتطور كل منهم في مجاله بشكل مذهل. لم يكن هناك تفاعل مباشر قوي بين الاثنين، لكن يمكننا أن نتخيل نوعًا من التأثير غير المباشر عبر المناقشات الثقافية والفكرية التي كانت سائدة في تلك الفترة.

علاقة غير مباشرة بين فرويد وريلكه

رغم أن الأدلة على تبادل الرسائل بين فرويد وريلكه كانت محدودة في البداية، فإن فكر فرويد كان قد أثّر على ريلكه بشكل غير مباشر. من المعروف أن ريلكه بدأ يتعرف على أفكار فرويد بعد أن تم تقديمه لها من قبل صديقه فيكتور إميل فون جيبساتيل في عام 1910. كما أن صديقته لوي أندرياس سالم كانت قد بدأت في دراسة التحليل النفسي لدى فرويد في عام 1912. ومع مرور الوقت، بدأت تظهر تأثرات فرويد في أعمال ريلكه، خاصة في شعره الذي تطرق إلى قضايا الوجود والصراعات النفسية.

المعاناة والأزمة الوجودية

كلا من فرويد وريلكه كانا يستكشفان أعماق النفس البشرية، ولكن كل بطريقته الخاصة. فرويد كان يدرس النفس من خلال التحليل النفسي بشكل علمي، بينما كان ريلكه يعبر عن صراعاته الداخلية من خلال الشعر والفلسفة. وقد تجلت هذه الصراعات في أعماله، حيث كانت الخوف، العزلة، والهوية من المواضيع التي يعالجها بشكل متكرر، مما يعكس اهتمامًا مشتركًا مع أفكار فرويد عن اللاوعي والصراع النفسي.

الرسائل بين فرويد وريلكه: إشارات إلى العلاج النفسي

في فبراير 1916، بدأ التبادل بين فرويد وريلكه. فرويد، الذي كان يمر بتجربة شخصية مع الحرب وأزماتها، حاول دعوة ريلكه لمقابلة أخرى، مشيرًا إلى معاناته الخاصة مع الحرب. في رده، عبر ريلكه عن مشاعر التعب النفسي والعزلة، وأشار إلى أنه في حالة لا تسمح له بالقدرة على التفاعل. ورغم ذلك، أعرب عن حاجته للتحدث مع فرويد. لكن قرار ريلكه كان أن يواجه هذه الأزمة بمفرده، على الرغم من أن الرغبة في التحدث كانت تزداد.

لماذا لم يذهب ريلكه للعلاج؟

على الرغم من هذه الدعوات والتبادلات، لم يذهب ريلكه إلى العلاج النفسي مع فرويد. كانت الحرب العالمية الأولى تشكل خلفية مشتركه بينهما، ولكن هذه الأحداث كانت تؤثر بشكل مختلف على كل منهما. يعتقد بعض النقاد أن ريلكه كان يشكك في فعالية العلاج النفسي، وأنه كان يخشى من أن التحليل النفسي قد يزيل الشعراء من عالمهم الروحي، ويجعلهم مجرد مرضى يبحثون عن علاج.

رسالة فرويد إلى ريلكه: عاطفة وأبوة

في رسالته الأولى، حاول فرويد أن يعبر عن اهتمامه الأبوي بشاعر يعاني. كتب له قائلاً: “كنت أفضل أن أدعوك لتناول شيء معنا”، مشيرًا إلى أنه كان يود أن يساعد ريلكه في التغلب على معاناته، لكن مشاعر الحرب وأزمة الوقت قد حالت دون ذلك. كان هناك نوع من العلاقة الإنسانية بينهما، حيث كانت الرسائل تحمل طابعًا عاطفيًا يكشف عن فهم عميق من فرويد لما يمر به ريلكه.

الأزمة النفسية: الحرب وتأثيرها على كلا الرجلين

الحرب كانت بلا شك عاملًا مشتركًا في رسائلهما. بالنسبة لريلكه، كانت الحرب تزداد وحشية مع مرور الوقت، وكان هو نفسه قد أصيب بانهيار جسدي خلال خدمته العسكرية. أما بالنسبة لفرويد، فقد كان يعاني من أزماته الخاصة مع “وحشية” الحرب وأثرها على أسرته. هذه الظروف الصعبة خلفت ضغطًا نفسيًا هائلًا على كلا الرجلين.

تبادل الأفكار في زمن الأزمات

على الرغم من أن اللقاء بين فرويد وريلكه لم يحدث، إلا أن رسائلهما تكشف عن الكثير من التفاصيل حول شخصياتهما وتفكيرهما. كانت هذه الرسائل خطوة صغيرة لكنها عميقة في الكشف عن صراعات داخلية، أزمات نفسية، وتأملات في الوجود والهوية. ورغم أن فرويد كان يسعى لعلاج ريلكه نفسيًا، إلا أن الشاعر اختار العزلة كطريق للشفاء.

في النهاية، تقدم هذه المراسلات لمحات عن التقاء فكرَي اثنين من أعظم المفكرين في القرن العشرين، في وقت كان فيه العالم يواجه أكبر تحدياته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube
Set Youtube Channel ID