التعليم العالي بالمغرب : إشكال لغوي، أم حاجة ملحة لروح وطنية؟
د. مصطفي صدوقي
يعيش التعليم العالي المغربي في أزمة وتخبط بالنظر إلى ما تفرضه الضرورة متمثلة في المصلحة الوطنية من وعي وحذر شديدين، فالذي ينبغي أن يعقد عليه العزم هو تحصين المجتمع من الداخل وتأهيل الفرد تأهيلا تربويا وعلميا ليتم تكوين المواطن الإيجابي الذي ينتمي إلى وطنه الانتماء الحق، لذا يلزم تتبيت الهوية الوطنية وجعلها الغاية المنشودة من وراء كل تخطيط استراتيجي يهم صناعة أجيال المستقبل. لقد أضحى من الضروري الإفصاح عن وجود مفارقة وهوة بين ما تقدمه الحكومات المغربية من برامج، وما تنشده من أهداف وغايات، وما تحققه من نتائج لا ترقى إلى ما ينبغي بلوغه، فالحق أن خللا كبيرا لزم التخلص منه، وبعبارة أوضح لامندوحة من أن نسمي الأشياء بمسمياتها ونرد النتائج إلى مسبباتها؛ فبعد التقرير حول مؤشر التعليم العالمي الذي أصدر من موقع “إنسايدرمانكي”الأمريكي،المتخصص في التصنيفات والتحليلات، بحيث صنف المغرب في المرتبة الـ154 عالميًا بدت الصورة قاتمة، كما لم تُدرج أي جامعة مغربية في قائمة أفضل 1000 جامعة عالميًا وفقًا لتصنيف “شنغهاي رانكينغ كونسلتنسي”، انهالت عدة انتقادات من الخبراء والأكاديميين على سياسة التعليم العالي المتبعة بالمغرب،وما أثار انتباهي هو تركيز المنتقدين على اللغة الفرنسية واتهامات الحكومة بـ”رهن التعليم للأجنبي”،وخصوصا بعد توقيع الاتفاقية مع الحكومة الفرنسية للحصول على قرض فرنسي بـ145 مليون دولار لإصلاح التعليم والتركيز على تدريس مختلف المواد التعليميىة باللغة الفرنسية في المغرب.فبغض النظر عما إذا كان المبلغ قرضا أومنحة، فمشاكل التعليم بالمغرب أوالاقتصاد أوالبطالة خاصة بين الشباب لايمكن حلها بالمبالغ البسيطة من المال الذي يعتبرمثل ذر الرماد في العيون، فالفرنسيون بالفعل يسعون للدفاع عن مصالحهم وتعزيز انتشار لغتهم وثقافتهم، خاصة في الدول التي كانت تحت إمرتهم زمن الاستعمار. فالمشكلة تكمن في كيفية تعاملنا نحن مع هذه التحديات والفرص لحماية مصالحنا الوطنية. يجب أن يكون لدينا وضوح فيما يتعلق بمصالحنا الوطنية وأولوياتنا، سواء في التعليم أوالاقتصاد، أو أي مجال آخر. يجب أن نسعى لتحديد أهدافنا بناء على احتياجاتنا الفعلية، وليس بناء على ما يمليه الآخرون. كما يتطلب الأمر تعزيز السياسات الوطنية وتوجيه الموارد بشكل فعال لتحقيق التنمية المستدامة.فالحكومة المغربية تتخبط في قراراتها بشأن لغة التعليم، وهذا ما يعكس تخبطًا في السياسات التعليمية، فتارة تتبنى التعليم بالفرنسية ظنًا منها أنه يمكن أن يسهل اندماج الطلاب في السوق العالمية، ويساعدهم في إتقان المواد العلمية والتقنية، وطورا آخر، تعلن عن الاتجاه نحو التعليم بالإنجليزية كخطوة نحو مواكبة التطورات العالمية، حيث تُعد الإنجليزية لغة العلم والتكنولوجيا الحديثة.فاعتماد التعليم المغربي على اللغات الأجنبة محكوم من هذا المنطلق، بالفشل ولايخدم المصلحة الوطنية، ومما لا جدال فيه أن له آثارا سلبية متعددة على الدولة والمجتمع. فالحاصل أن التركيزعلى تعليم الطلاب بلغة أجنبية بدلاً من اللغة الأم، يؤدي إلى إهدار الموارد الاقتصادية بشكل كبير. بل إن تكوين الطالب في بيئة تعليمية تعتمد على لغة أجنبية يتطلب استثمارات كبيرة، وذلك مما يزيد من العبء المالي على ميزانية الدولة. هذا بالإضافة الى أن استخدام اللغة الأجنبية كلغة رئيسية في التعليم يمكن أن يعقد عملية التعلم بالنسبة للطلاب؛ فبدلاً من التركيز على فهم واستيعاب المفاهيم الأكاديمية، يجد الطلاب أنفسهم مضطرين لبذل مجهود إضافي لإتقان لغة جديدة، وهو ما قد يقود إلى ضعف الأداء الأكاديمي، ويؤثرعلى جودة التعليم بشكل عام، وقد يؤدي إلى شعور الطلاب بالإحباط والتوتر وأيضا إلى الشعور بتقويض هويتهم الثقافية والوطنية. وهكذا تسري عوامل الوهن النفسي في داخل شعور الفرد الذي لا يستطيع أن يكمل مسيرته، خصوصا عندما يتقوى لديه الإحساس بالانهزامية عند غياب سريان مبدإ تكافؤ الفرص عليه، بل تنتقل العدوى إلى المجموع الذي يتحول إلى عائق أمام السلوك التنموي الذي يفترض أن يكون سلوكا معززا بقيم المواطنة. وبذلك، فإن الجيل المحبط العاجز عن الإخلاص لقيمه الوطنية لن يكون باذرا نافعا بقدر ما سيجعل مهام الإصلاح والتوجيه والتوعية مهام أشد صعوبة وتعقيدا. ونحن وإن كنا نعطي للغة الأم اعتبارا خاصا في هذا المقام، فإننا لا نريد أن ننظر إليها من الناحية الوظيفية بشكل مفصول عن باقي المكونات الاقتصادية والحضارية المشكلة للذات الوطنية، حيث ندرك في هذا الصدد أن اللغة من خلال مظاهرها اللفظية والدلالية هي وسيلة لإيصال المعلومات وأن جوهر مشكلة التعليم في المغرب يكمن في جودة التعليم نفسه، وفهم المعرفة بالتمثل الجيد لآلياتها وأنساقها ووظائفها وجعلها أداة طيعة لبناء الوطن وصون مقدراته وحفظ كرامته، ومن ثم فتغييراللغة وحده لن يحل المشكلات الاساسية التي يعيشها التعليم. كما أن تغييراللغة الفرنسية باللغة الإنجليزية ليس بالضرورة هو الحل الوحيد لتطويرالتعليم وتكوين جيل قادر على المساهمة في النهضة الاقتصادية في المغرب، لكن مع ذلك يبقى مبدأ الحرص على الهوية اللغوية الخيار الإجرائي الرفيع الذي من شأنه أن يشحذ الهمم، ويحفز على الرفع من المردودية في مجالات التحصيل المعرفي والابتكار في مجالات التعليم سواء في العلوم الدقيقة أو العلوم الإنسانية. ولا ننسى في هذا السياق أن هناك تجارب ناجحة لدول مثل الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية التي تعتمد على لغتها الأم في التعليم ولديها أنظمة تعليمية قوية تساهم في إعداد أطر مؤهلة وقادرة على المنافسة عالمياً.حقا إن اللغة تعتبر أداة حيوية للتعليم والثقافة، لذلك يجب علينا تطوير سياسة لغوية متوازنة، أولا بتعزيز اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية والوطنية، ويجب أن تحظى اللغة العربية بمكانة قوية في النظام التعليمي. مع تشجيع تعلم اللغات الأجنبية كالفرنسية والإنجليزية، لتوسيع آفاق الطلاب وتمكينهم من التواصل مع العالم الخارجي.ولكن التركيز يجب أن يكون لإعداد الطلاب بشكل أفضل لمسارات وظيفية متنوعة، ومتوافقة مع احتياجات السوق المحلية والعالمية، وذلك بتطوير وتحديث البرامج والمناهج التعليمية أولا، لضمان ملاءمتها واستجابتها للمتطلبات المتطورة لسوق العمل، ولتزويد الطلاب بالتفكير النقدي وتمكينهم من مهارات حل المشكلات والمعرفة العملية التي تتوافق مع معايير الصناعة الحالية وكذا الاتجاهات المستقبلية، ودمج التكنولوجيا والدراسات متعددة التخصصات.والحاجة ماسة كذلك إلى عمليات إعادة التكوين والتطوير المهنين المستمرين للأساتذة والأطر الإدارية للحفاظ على معايير التدريس العالية وإبقائهم على صلة وثيقة بأحدث التطورات في مجالاتهم، ثم إن هذه العمليات يكون لها الأثر الكبير على مستوى حسن سير عمل المؤسسات التعليمية فهي الاتجاه العملي التطبيقي من أجل خلق بيئة داعمة لكل من أعضاء هيئة التدريس والطلاب.كما ينبغي على الحكومات والمؤسسات التعليمية تخصيص ميزانيات كافية لإعطاء الأولوية لتطوير البنية التحتية لدعم التعلم المتقدم والابتكار وللبحث العلمي لتعزيز الابتكار والتقدم التكنولوجي.والحقيقة أن السياسة التعليمية المعتمدة بالمغرب حاليا هي مرهونة بالخارج، أي إنها مسخرة في خدمة وتكوين طلاب وإعداد كفاءات يتم تصديرها للسوق الخارجية. فالنظام التعليمي مصمم بشكل أساسي لتلبية احتياجات السوق الخارجية بدلاً من التركيز على الاحتياجات الوطنية، فهناك إهمال واضح للتخصصات التي ينتظر منها تعزيز الاقتصاد الوطني والتي تحتاجها القطاعات الحيوية بإلحاحية، داخل البلاد سواء أتعلق الأمر بمجالات الفلاحة، الصناعة، أوالتكنولوجيا المحلية، وغيرها من القطاعات الحيوية في البلاد. والنتيجة هي هجرة القوى العاملة المدربة الى الخارج، مع ارتفاع شديد في نسبة البطالة في صفوف الذين لا يهاجرون وطنهم. فبحسب آخر الإحصائيات هناك حوالي 50 ألف طالب مغربي يدرسون في الخارج،وحوالي 200 ألف خبيرمغربي في مجالات مختلفة اختاروا العمل خارج بلدهم. فالدولة تنفق أموالا طائلة على تكوين هؤلاء الطلبة دون أن تستفيد من خبراتهم وإسهاماتهم. فهذا الأمر لا يستقيم البتة من الناحية المنطقية، حيث يفضي إلى العبث والخسارات الفادحة، باعتبار أن الاستثمار في تعليم الطلاب الذين يختارون الهجرة استثمار فاشل لأنه يؤدي إلى خسارة اقتصادية كبيرة. إن المغرب يخسر من خلال هجرة الأدمغة للخارج رأسماله البشري الذي يمكن ان يساهم في النمو الاقتصادي للبلاد.صفوة القول إن التعليم عامة، والتعليم العالي خاصة، له أهمية بالغة في إحداث التطور الحضاري والاقتصادي والثقافي والاجتماعي للمجتمع، ويعد من أهم مؤشرات التنمية البشرية وأحد أهم أشكال الاستثمار في الرأسمال البشري. فهو المورد الاستراتيجي للمجتمع، إذ يزوده بكافة احتياجاته من الأطر العلمية المتخصصة التي تقوم بدور محوري في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة. فمن خلال التعليم، يتم إعداد الأفراد وتأهيلهم ليصبحوا محترفين في مختلف المجالات التي يحتاجها المجتمع، فلهذا يجب ان يكون هذا التعليم من حيث أهدافه ومناهجه ووسائطه التعلمية مرتبطا ارتباطا دقيقا بالاقتصاد الوطني لتحقيق التنمية المستدامة.