فضاء القراء

عندما يخطب الزعيم

الشخصية: الزعيم شفيق بقلم ذ. المصطفى القادري ـ لندن

قصة قصيرة، تحتوي بعض تعليقات منتمي مجموعة قراء بريس على الفايسبوك، أي تطابق في الأسماء و الوقائع هو بمحض الإرادة

كان شفيق يكبرنا ببضع سنوات، إبن حينا ذو خفة دم و شخصية فكاهية منقطعة النظير، يحفظ عن ظهر قلب مسرحيات بأكملها، ونصوص الأفلام و أغاني الجيل و الراي الجزائري وبعضا من إنتاجات المصري حميد الشاعري و أصدقائه. الزعيم شفيق كان ممثلا بارعا لم تفتح له خشبات المسرح أبوابها للأسف، يتقن فن الخطابة منذ نعومة أظفاره، يقود البقية في معارك الأحياء المستمرة حيث الغنيمة بعض من الكرات تنضم إلى ملكية دولة حيِنا وأحيانا حتى الجراء المتشردة، نضيفها إلى مزرعة الدولة و هي قطعة أرضية فارغة بجانب منزل مْقدم الحي حيث كنا نضع بها طبولنا و أسلحتنا و بعض الكرات وقارورات ماء و سكر لطهو العسلية المشهورة.
في كوخ صغير بنيناه بما جاد به نجار حينا من بقايا الأخشاب، مقابل أن نكتب له رسائل الحب إلى حبيبته التى أبى والدها و هو الموظف المرموق في عمالة المدينة، أن يزوج ابنته الفاتنة لنجار بسيط.
أتذكر الشاب المسكين عائدا من الخمارة ليلا تتقاذفه الجدران يمنة و يسرة، باكيا منتحبا حضه العاثر، تخاله قيسا في أشد نوبات جنونه، ترقبه بعض نساء الحي من شرفاتهن، يبكين لبكائه من فرط حسرتهن، فظلم الزمن بعاداته و أعرافه و عقده قد حرمهن من عاشق مثله، فصبر جميل.
هن نفس النسوة اللواتي كن يغدقن كرمهن على النجار الولهان بإرسال أكواب الشاي و البغرير إلى محل إشتغاله فالتضامن تجسد في أبهى حلله، تراهن يتغامزن ويوشوشن فرحا و حسدا كلما رأين الرجل مهرعا لا يلوي على شئ ليرقب خطوات حبيبته الفاتنة التي تمر على إستحياء، خافضة الرأس تعلو وجنتاها حمرة خجل منقطعة النظير، مرتبكة وتائهة تكاد تسقط مغشيا عليها من شده الهول، فالأنظار سهام تخترقها اختراقا و قصتها أضحت على كل لسان.
أحيانا، كان يتوقف صارخا تحت نوافذ بيت حبيبته، معلنا أن الظلم سيسقط، و أن الديموقراطية هي الحل و أن شعارنا الخالد سيبقى دائما: الله, الوطن، الملك، عاش الملك … عاش الملك… و كأنه بهتافه يحاول دغدغة عواطف الموظف المخزني، أو ربما ظن أن تلك الكلمات درع سيحميه من تبعات غضبة من غضبات الأب القاسي، و تمر الأمور بسلام.
أحيانا أخرى، كان الوضع يتخد منحى مأساويا، فالأب يخرج مهددا حاملا بندقية الصيد، لتتعالى الصرخات و يتأزم الوضع بشكل خطير، النجار المسكين كان ينهي الصراع بمقولة صارت على لسان كل سكان الحي: ليس في القنافذ أملس، لكن إعلم أيها البورجوازي أن شوك القنافذ لا يمنعها من ممارسة الحب، و إلا كيف تتكاثر القنافذ؟ أنا القنفوذ و حبيبتي القنفوذة.

الزعيم شفيق صاحب الرقم القياسي في بعث رسائل الحب و الغرام إلى كل فتيات الحي، فقد كنت أحد كتابه بجانب الصديق جلال، ملك الهندسة، إذ كنت بدوري ملك الجبر في مرحلة التعليم الإعدادي بحسب تصريحات أحد أفضل أساتذة الرياضيات الذي درسنا على يده بالمؤسسة، بالإضافة إلى بعض الساعات الإضافية المجانية التي كان يقدمها الأستاذ لثلة من المتوفقين ببيته، حيث كنا نتمرن على حل مسائل أكثر تعقيدا أو تفوق مستوانا الدراسي بمسافات. زياراتنا الأسبوعية الصباحية لمنزل الأستاذ الطيب كانت مغامرة في حد ذاتها، فلطالما وجدنا برفقته كل مرة أستاذة من أساتذة المؤسسة و هي على وشك الرحيل بعد قضاء الليلة، حيث تترك إحداهن أحيانا بعض الشرابات النسائية أو الملابس الداخلية في البهو حيث كان الأستاذ يأتي مسرعا للملمة مخلفات صراع الطبيعة مبتسما، ليتلقى بعض الملاحظات المضحكة من قبيل أن النساء يشكلن مجرد أرقام لأساتذة الرياضيات، يستبدلن كل مرة وفقا للنتائج، فتتعالى القهقهات.
جلال كان فنانا يتقن صياغة الكلم، و يتماهى في سبر أغوار وقعها على الأنفس، لذا كنا بلا أدنى شك نشكل فريق عمل الديوان الشخصي و المقرب للزعيم، فرسائلنا كانت تحقق نتائجا محترمة، وكنا مطالبين بالتحري عن ضحية الرسالة القادمة، ليكون المحتوى موافقا لشخصية الفتاة، لدرجة أنه و في إحدى المناسبات تحتم علينا كتابة رسالة حب في قالب ديني لتوجه إلى فتاة من أسرة العدل و الإحسان، فكان الحديث عن الحجاب و الأنوار مع رحلة الصيف و الشتاء ، رحلة أخرى من الدنيا إلى الآخرة، فلنحسن بناءها و غراسها. ومطالبة المعنية بتقديم التوجيه و الهداية من ضلال النفس و الهوى.
كانت الرسالة توضح أن الزعيم الراغب بالهداية يهيب أن أنشر الحب و الخير بين الناس و لك نصيب من الجنة. بعد أيام قليلة، أصبح شفيق مدعوا رسميا لحضور لقاءات التأطير الأسبوعي بأحد المنازل، فهجر أغاني الراي و إستبدل خطابه، و أصبح يتجول في أرجاء الحي منشدا بعضا من الأناشيد الدينية المشهورة خلال تلك الفترة، لكن رسائل الغرام إلى باقي الفتيات لم تتوقف،وعليه فموقعنا كان ذو أهمية قصوى، فنحن رجال الدولة و دعائم القيادة و لسان الثورة و كتاب المعاهدات و العالمين بخبايا الزعيم و تناقضاته .
كان شفيق شقيا و طيبا لكن، شعبويا عندما تقتضي الضرورة أو المرحلة، يقف مخاطبا أتباعه بأننا في دولتنا جميعا، نحن لا ندعي الكمال … فالكمال لله و حده سبحانه و تعالى، لكننا سواسية كأسنان المشط، نحن الفقراء مستعدون لحماية الوطن رغم أننا لا نملك شبرا منه.
كانت بحق شعبوية طيبة و مضحكة أحيانا، و دون معنى أحيانا أخرى، تختلف جذريا عن شعبوية الحاضر حيث للاسف اصبح اللجوء للشعبوية مسألة ضرورية لأي حزب كان لتكوين كتلته الإنتخابية.

إن الشعبوية مرض العصر و سرطان ينخر جسد الديموقراطية ويقوض اسس العمل السياسي برمته. باعتبار أن الشعبوية … هي التضاد الأقصى لمفهوم الديموقراطية، خصوصا في الدول المتخلفة عن ر كب الإنسانية، حيث غياب التعليم وتفشي الجهل الذي يمكن الخطاب الشعبوي من إختراق صفوف واسعة بشكل يفوق نظيره في البلدان المتقدمة، وإن كان هذا لا يعني أن هذه البلدان لم تتأثر بالخطاب الشعبوي ، الذي في كثير من الأحيان، يبقى معناه غامضا لا يفهم فحواه إلى أصحابه.
كانت خطابات الزعيم شفيق موسوعية في تفاصيلها، يخاطب عبرها العدو و الصديق، و يتأرجح بسلاسة بين خطاب الفلسفة و التهديد السياسي ليعود بك إلى مناقشة الجانب الإجتماعي، لتراه على حين غرة قد إرتمى في أحضان المختبرات العلمية ليناقش الأبحاث و النظريات في إستعراض مضحك للعضلات.
في نهاية هذه القصة القصيرة، نؤكد أن مغامراتنا مع زعيمنا كثيرة و سوف نقوم بسرد تفاصيلها المضحكة تارة و المحزنة تارة أخرى في مناسبات قادمة، لكننا نترككم مع أحد نماذج خطابات الزعيم التاريخية:

أيها الشعب،
ظن ذات يوم الكلب أنه له قيمة و سومة فاكتشف أن من قيمه أكلب منه. فعرض عن الفكرة. حلل وناقش.
الكل يظن انه على حق يعيش، لكنها حياة الغاب من ثعالب و ذئاب والأفاعي سيدة الطريق، أشخاص همهم الوحيد الأنا وحب المال والجاه يجري كسم في عروقهم يعيشون، وهو نفسه قاتلهم… لانهم نسو أن حبل الكذب والنفاق قصير. ومما زاذ الطين بلة، إختلاس الولاة الأموال المجباة. بالرغم من أن خبراء الطبيعة ينصحون بمعالجة أزمة التنوع البيولوجي كي يتسنى منع ظهور الأوبئة،أصبحنا نعيش في غابة و الثعالب و الثعابين في اللعبة رقم واحد و النفاق الإجتماعي أصبح يعيش في قلوب الكثيرين لأن المصلحة هي كل شئ.
في السياسة ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم هناك مصالح دائمة، لا يعرف قدرك إلا من خسرك. أما عن الشأن الديني فأعلموا أنني أتمنى أن يصل الدين ّإلى أهل السياسة و لا يصل أهل الدين إلى السياسة،و أعلم علم اليوم و الأمس قبله و لكنني عن علم بما في غد عم، و ما أعتقد أن بناء مستقبل أرقى إنسانيا للإنسان مرتهن، بهذه السطوة الجامحة، لماض نقي متوهم، فهو و حده من وعي عثرات حاضره يمكن أن يضيع الأجمل

تصفيق …….

الكتاب:

عمر شراح، فاطمة الزهراء فاراتي، أسامة سعدون، لحسن صابر، منير أبو هداية، محمد الكريم، أمين أحرشيون، داوود الساحلي، سعاد أعراب، الرحموني ربيع، فاطمة الزهراء يحي، محمد كدات، أميان أميان، محمد ولاد عيسى، عبديل السباعي.
شكرا لمساهمات قراء بريس.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube