حواراتمستجدات

حرة بريس في حوار مع الباحث الأكاديمي والكاتب المغربي سعيد بنيس

تَمَغْرِبِيتْ.. محاولة لفهم اليقينيات المحلية

حاوره عبدالحي كريط 

في ظل المتغيرات التي يعرفها المجتمع المغربي وماطرأ عليه من تحولات جذرية  وتفاعلات في العالمين الافتراضي والواقعي يعود الباحث المغربي سعيد بنيس وأستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة محمد الخامس في الرباط. بإصدار جديد وقيم تحت عنوان تمغربيت. .محاولة لفهم اليقينيات المحلية 

وتروم هذه المحاولة، وفق بنيس، فهم سردية تمغربيت والغوص في جدوى استيعاب اليقينيات المحلية، فسؤال تثبيت تَمَغْرِبِيتْ كسردية مغربية تتقاطع ضمنها اليقينيات المحلية صار رهين خيار استراتيجي وثقافي ومؤسساتي وسياسي ودستوري وإنساني وحضاري. يمكن هذا التثبيت من ضبط آليات التساكن وممكنات العيش المشترك وتعزيز عناصر الرابط الاجتماعي وبناء عقد مجتمعي، أساسه تحقيق تنمية نوعية، تزاوج بين القوى الناعمة والقوى الصلبة، وتُبَوِّئُ المملكة المغربية مكانة متميزة على الصعيد الإقليمي والعالمي.

فالكتاب هو محاولة لإعادة التأمل في بعض ملامح الشخصية والهوية المغربية كاعتراف مستحق بفضائل أمة قامت على التعدد والتنوع، مفتونة بالحضارة ومجبولة على الكرم الانساني.

في هذا الحوار  سيتحدث لنا الباحث والاكاديمي المغربي سعيد بنيس. عن أبرز لمحات مفهوم تمغربيت ودلالتها السيميائية والعناصر المؤسسة لسردية تمغربيت ثم ماهي علاقة تَمَغْرِبِيتْ بالنموذج التنموي الجديد، ولماذا اغلب النماذج التنموية التي مرت على المغرب منذ اﻹستقلال إلى يومنا الحاضر لم تلبي تطلعات الشعب بما يضمن تحقيق الثقة بين المواطن والدولة؟وغيرها من المحاور الهامة 

1-ماهي المحددات المنهجية التي إعتمدتها في تأليف هذا الكتاب؟ 

يمكن إيجاز المحددات المنهجية التي تم اعتمادها في تأليف الكتاب من خلال عناصر المنهجية الكيفية المعمول بها في العلوم الاجتماعية من داخل النظرية المتجذرة (Grounded Theory ) التي تنطلق من الغوص في الوقائع المجتمعية والحضارية والثقافية والتاريخية واللغوية في أفق التمكين لتوصيف وتأصيل إجرائي ونظري للكلمة المفتاح “تَمَغْرِبِيتْ” في علاقتها باليقينيات المحلية بموازاة استقراء الأدبيات والمفاهيم والنظريات والمعطيات وتبيئتها والتحقق منها لإنتاج معرفة موضوعية حول ركائز الشخصية المغربية وتمظهرات الهوية المغربية. تم بناء هذه المنهجية بالتركيز على أدوات بعينها من داخل حقل السوسيولوجيا والانثروبولوجيا منها لا للحصر الملاحظة بالمشاركة والقراءة المتقاطعة لبعض التقارير والإحصائيات وكذلك تحليل الخطاب. كما أن المتن المعتمد في الكتاب تتداخل في طياته عناصر تحيل على ماضي وحضارة الأمة المغربية وعناصر أخرى تعكس ظواهر ودينامية الراهن المغربي المتموج بين تداعيات العالم الواقعي والعالم الافتراضي وعناصر أخرى تستشرف تحديات ورهانات تَمَغْرِبِيتْ لما بعد زمن كورونا لا سيما في خضم عولمة أضحت في تراجع بين وخفوت ظاهر أمام توهج اليقينيات المحلية والهويات الترابية.

2-ماهي الدلالات السيميائية  لتَمَغْرِبِيتْ ؟

يبدو من المستحب لفهم الدلالات السيميائية لتَمَغْرِبِيتْ الإحالة على بناء وصياغة لفظة “تَمَغْرِبِيتْ” كتداخل لغوي بين اللغة العربية واللغة الأمازيغية، يجمع بين اللفظة العربية وهي اسم النسبة ” مَغْرِبِي”، التي ترمز للإنسان والتاريخ والحضارة التي تميز الأمة المغربية وتراب المملكة المغربية، واللاصقة المتقطعة لضمير المؤنث في الأمازيغية بالإضافة للاصقة المذكر في الأمازيغية  لذا، يمكن تقطيع اللفظة إلى ثلاثة عناصر: لاصقة التأنيث ولاصقة المذكر واسم النسبة “َمَغْرِبِي” كالتالي: “ت /أ / مَغْرِبِي /ت وتقابلها بالإنجليزية لفظة « Moroccness » . لينتج عنها في الأخير، تكوين كلمة في صيغة مصدر صريح يدل على اسم معنى أو حالة مطلقة “أناكرونية”، لا تقترن ولا ترتبط بزمن محدد تحيل في نفس الآن على الماضي والحاضر والمستقبل، وحمولتها الدلالية تقترن بالهوية المزيجة والشخصية الحضارية للمملكة المغربية البعيدتين عن كل ضرب من ضروب الهوية المنغلقة أو الشوفينية المتعصبة أو القومية المنكمشة.  

3-ماهي العناصر المؤسسة لسردية تَمَغْرِبِيتْ ؟

لفظة تَمَغْرِبِيتْ هي لفظة شائعة الاستعمال، وترمز في التفاعلات المجتمعية والمخيال المغربي إلى سردية التاريخ والحضارة والدولة والثقافة واللغة والإنسان، التي تستمد شرعيتها وجدواها وحقيقتها من مصفوفة من اليقينيات المحلية والترابية، التي مازالت ملامحها وتمظهراتها تحدد مسارات وتوجهات الجدلية المجتمعية، وتحديدا فيما يتعلق بالنظام السياسي وبإشكالات العيش المشترك والتعايش والمصير الجماعي والهوية الجمعية والشخصية المغربية. ويتم تداولها في عدة حقول، منها السياسي والمدني والإعلامي والثقافي والمجتمعي واليومي، كرابط اجتماعي وكمرجع للتآلف والانسجام، وكنقيض لسلوكات الإقصاء والتنافر والتوتر … لهذا، فتمفصلات سردية تَمَغْرِبِيتْ باليقينيات المحلية هي علاقة ترابطية سببية، لأن دلالة ومضمون مكونات السردية تعكسها وتجليها وتكشفها التمظهرات المادية والرمزية للمحتويات والعناصر المؤسسة لليقينيات المحلية والترابية، من تجارب ومعارف وعمران وعلم وثقافة وعادات وطقوس وممارسات. فهي بالأساس عناصر ترتبط ارتباطا عضويا بالإنسان المغربي (الأمازيغي والعربي والأندلسي والإفريقي والمتوسطي والعبري …) والتراب الوطني (تراب المملكة المغربية) وتاريخ الدولة المغربية (أكثر من 13 قرن) والوجود الأمازيغي (33 قرنا) وحضارة وثقافة وعقيدة الأمة المغربية ولغات المغاربة (الأمازيغية والعربية) والانتماء لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والتجذر في جغرافية المغرب الكبير.

4-في كتابك قلت انه في سياق زمن ما بعد كورونا، يمكن استشراف تغير مجتمعي في صيغة سردية تَمَغْرِبِيتْ ديجيتالية (نْيُوتَمَغْرِبِيتْ)، تكون نتيجته التحول من رابط اجتماعي واقعي إلى رباط مجتمعي افتراضي، هل لك أن تشرح لنا هذه الإشكالية باستفاضة؟

 لفهم راهن تمظهرات الأزمات الاجتماعية في علاقته بسردية تَمَغْرِبِيتْ، يمكن الانطلاق من رصد تمفصلات التفاعلات المجتمعية وإشكالات التعايش مع جائحة كورونا، في ظل اشتعال الأخبار الزائفة وظهور قيم جديدة ترتبط بثنائية الرابط الاجتماعي والرباط الافتراضي. يمكن الانطلاق من استنتاج عام يروم ضبط بعض التفاعلات المجتمعية، في علاقتها بإرهاصات الانتقال إلى مجتمع الثقة، من خلال توصيف بعض مكونات الرابط الاجتماعي وكذلك بعض تعبيرات الرباط الافتراضي.  سيتم ربط البيئة المجتمعية بالتفاعلات وآليات التعايش، التي تأرجحت بين الفعلية الواقعية والفاعلية الديجيتالية، وجذوة وتأثير الأخبار الزائفة في مقابل بروز منظومة قيمية جديدة، توازي بين سلوكيات اجتماعية فرضتها الجائحة، وإكراهات مجتمعية ترمز إلى طقوسية وخصوصية مغربية، تعدو أن تكون “نْيُوتَمَغْرِيِيتْ”. لهذا، من المحمود أن تدبر مرحلة ما بعد كورونا بطريقة عقلانية وواقعية، لأن وعي المواطن المغربي يتشكّل ويلتقط عناصره من العالم الافتراضي، كما أن تنشئته تمت عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وعلى الأحزاب أن تمسك بهذه الإشارات، فكل خرجة لأي مسؤول سياسي تتم مناقشتها بطريقة مستفيضة من طرف المواطنين الافتراضيين. هناك وعي سياسي ورقابة مواطنة وعبقرية سياسية ينضح بهما العالم الافتراضي المغربي، أرختا بظلالهما على مرتكزات سردية تَمَغْرِبِيتْ. فكل إجراء سياسي يتم التداول بشأنه “ديجيتاليا” وبطريقة مستفيضة، بالنظر إلى أن الرباط الافتراضي يغرف من جدلية جديدة يمكن توصيفها ب “نْيُوتَمَغْرِبِيتْ” نمت وانتعشت داخل الفضاء الافتراضي المغربي. فإذا كان التفكير والتخطيط للخروج من الحجر الصحي سيتم بطريقة تدريجية ومعقلنة، يصبح من الجدير الانتقال في التفاعلات الرسمية والمؤسساتية المباشرة بين المواطنين والدولة، وكذلك بين المواطنين فيما بينهم، إلى نسق جديد غير مباشر، عن بعد يكرس فاعلية الافتراضي والديجيتالي على فعلية الواقعي والحضوري.   ولكيلا يترك تخلي المغاربة عن بعض عادات تَمَغْرِبِيتْ في سبيل تدبير زمن كورونا أثرا مجتمعيا عليهم، ويقوض أساسيات العيش المشترك والرابط الاجتماعي، أصبح من الجدير الانتقال من تَمَغْرِبِيتْ التواصل الواقعي إلى تَمَغْرِبِيتْ الاتصال الافتراضي، التي تتقاطع عناصرها مع صيغة جديدة من المواطنة الديجيتالية يمكن أن تطلق عليها تسمية “نْيُوتَمَغْرِبِيتْ”. وانتقلنا تباعا من مواطنة واقعية إلى مواطنة افتراضية، التي تترصدها عدة مخاطر منها لا للحصر هوامش العولمة و سرطان الأخبار الزائفة، وتجذر ثقافة “بارطجي”. لهذا، وجبت الإشارة إلى جدة وجدوى مبادرات المجتمع المدني لخلق ثقافة مضادة لثقافة الأخبار الزائفة وبيئة الإحباط، من خلال هاشتاغات من قبيل “فضاء افتراضي نقي” و “صحافيون ضد الإشاعة “… لأن هناك ضرورة للاستفادة من مكاسب جائحة كورونا، خاصة فيما يتعلق بعلاقة المواطنين بالدولة، وبصيغة جديدة للمواطنة في شكل ” نْيُوتَمَغْرِييتْ” كمواطنة افتراضية وديجيتالية. أفضت هذه المواطنة الجديدة إلى بروز نخبة سائلة وجماعة مواطنين “مرابطين” بالعالم الافتراضي لدرجة الإدمان، الذي من أهم أعراضه التواجد المستمر واليقظة الحذرة والرقابة المواطنة والتفاعل الجماعي والفردي، من خلال جسر ما يمكن توصيفه ب “الفردية الجمعية” 

تباعا، يتوجب على الفاعل السياسي والمدني أن يفطن إلى أن أفق البقاء الجماعي والعيش المشترك، أصبح مرتهنا بالرباط الافتراضي عوض الرابط الاجتماعي، لأنه حتى في النقاشات الديجيتالية في زمن كورونا، عندما يصل الخلاف ذروته (مثلا، شخص يسب الدين أو يتهكم على الرسول …) ترد ردود فعل من قبيل ” لِّي مَا عْجَبْنَاهْشْ إِمْشِي لْشِي بْلاَدْ اخْرَى” – “لِّي بْغَا يْعِيشْ فْ لْمَغْرِبْ خَصُّو يْكُونْ هَكَّا ِو يْدِيرْ هَكَّا” …تنصاع لثنائية تصارعية بين تداعيات العيش المشترك الواقعي ورهانات العيش المشترك الافتراضي. في هذا الباب، يختزل الرباط الافتراضي مجمل العلاقات والإجراءات والروابط والآليات، التي تشد الأفراد والمجموعات ببعضها البعض عبر صيغة رقمية، تمكنهم من البقاء والعيش وسط المجتمع الافتراضي. وكمثال على هذا الضرب من الروابط، صارت ترفض دعوات الأصدقاء مجهولي الهوية، أو بدون صور واضحة أو ممن أغلقوا بروفايلاتهم : أصبح الإفصاح عن المعلومات الشخصية والبيانات الصحيحة والحقيقية ضرورية لبناء الرباط الافتراضي، الذي ينحو منحى رابط اجتماعي واقعي بتفويض تقنية رقمية، تشكل أساس تَمَغْرِبِيتْ جديدة. ومن تبعات هذا الرباط، أفضت جائحة كورونا إلى تعميق مقولة العوالم الموازية، حيث يتعايش الأفراد في عالمين ومجالين متوازيين بهويتين مختلفتين، إحداهما واقعية والأخرى ديجيتالية، تجسدان ممارسات ونسق “نْيُوتَمَغْرِبِيتْ”. كما عرف زمن كورونا عودة الروابط العائلية والمهنية والقبلية والترابية بشكل مفاجئ عبر تفاعلات ديجيتالية مفتوحة، حيث دأب الجميع على الانخراط في “مجموعات” قدماء مدرسة أو ثانوية أو جامعة أو حي أو … وهي بنيات افتراضية تتحسس الرابط الاجتماعي من خلال الرباط الافتراضي. يتماهى الرابط الاجتماعي مع الرباط الافتراضي عبر هذه التفاعلات، التي تبين وتكشف عن عودة الأنا بواسطة تقاسم ومشاركة صور الطفولة أو صور مع العائلة …، بمنطق أن العلاقات الأسرية قد تم قطعها والانسحاب منها، وأن هناك حاجة لإحيائها من خلال “أركيولوجيا ديجيتالية”.  

5-ما هي العلاقة التي تجمع بين تَمَغْرِبِيتْ كهوية جامعة للمغاربة ضمن تقاطعات اليقينيات المحلية في زمن العولمة؟

يمكن اعتبار أن تراجع قيم العولمة واسترجاع مرجعيات الخصوصية ومن بينها سردية تَمَغْرِبِيتْ ينبئ بظهور مناطق غير معولمة، ترتكز على إعادة اكتشاف قيمة الاكتفاء الذاتي، وتعميق التمثلات حول اليقينيات المحلية. كما أن التمثلات السلبية المتزايدة حول نماذج وأقطاب القوة من دول أوروبا وأمريكا، أضحت واقعا لا محيد عنه وعنوانا لنماذج غير متضامنة، مما أعاد الثقة في النماذج المحلية المتكافلة وتوهج ملامح الهوية الترابية والوطنية. وكنتيجة لهذا، يمكن أن تتغير مرجعيات التنشئة التي كانت تقوم على ما يسمى التجارب الناجحة (أو بنشماركينغ)، ليتم الانتقال من فعل المتابعة والاتباع إلى فعل الاستقلالية والمبادرة والتحدي الحضاري. فما بعد كورونا، سيفرض ضرورة ولوج المدرسة المغربية لعالم الفكر النقدي، لتكوين الناشئة على بيداغوجيا التعامل مع الأخبار الزائفة، والثقافة “المتوحشة” والمعولمة التي تغزو العالم الافتراضي. ومن تبعات هذه المآلات، سيصبح بناء المدرسة الممهنة مرتهنا أساسا بمرجعيات المدرسة القيمية والفكر النقدي واليقينيات المحلية، التي من أسسها ترسيخ المواطنة الإيجابية، والمشاركة في الشأن العمومي، واعتماد سردية تَمَغْرِبِيتْ كمادة مدرسية.  كما أن زمن الجائحة أدى إلى تغير ملحوظ في السلوكيات والممارسات المجتمعية في الفضاء العمومي، منها لا للحصر تعميق قيم اكتشفها المغاربة مع الجائحة منها: توهج الانتماء الترابي والرمزي لمغاربة الداخل ومغاربة الخارج، والذي من تمظهراته الهجرة المعكوسة: “الحريك للمغرب”. فانتقل تدريجيا الرابط الوطني في الحالة المغربية من رابط ذي شحنة مادية (من طنجة لكويرة)، إلى رابط ذي حقينة رمزية في صيغة سردية تَمَغْرِبِيتْ، يتأسس على ثلاثة عناصر أساسية وهي الاعتراف على أساس المواطنة والحماية في إطار دولة الرعاية والانخراط في مجتمع الثقة. فمن المحتمل إذن أن يعرف الزمن الانتقالي طفرة و تزايدا في المبادرات المدنية لإرساء فضاء افتراضي، يرتكز على منظومة قيمية تنبني على التضامن والمواطنة والتضحية والالتزام ومجتمع الثقة، وهي منظومة كادت أن تتلاشى مع استفحال وتجذر وتنامي فضاء افتراضي “موبوء” ، يقوم ويتأسس على ثقافة “الفايك نيوز” ، والكراهية والعنف الديجيتالي ضد بعض مكونات المجتمع ، والقصص الهامشية («روتيني اليومي” و”البوز” …) ، والظواهر الافتراضية (“إكشوان إكنوان” و “دنيا وإحساس” …)، وانغلاق المجموعات الافتراضية (“العميقين” والمجموعات النسائية…)  … لكن مع ردة فعل المجتمع الديجيتالي على مشروع قانون رقم 22.20 المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة، يمكن استشراف تراجع ظاهرة القصص الافتراضية، وتنامي ظاهرة “الهاكتيفيزم”، والحراك الديجيتالي. من المستحب في هذا الجانب الدفع بقيم الأمل والتحدي، كقيم تنهل من سردية تَمَغْرِبِيتْ لما بعد كورونا، نابعة من نظام قيمي إنسي يمجد الإنسان، ويستشرف الحفاظ على حياته ووجوده وبقائه. فالسؤال يظل كالتالي: أية قيم للمجتمع الذي نريد أن نعيش فيه في ظل المخاطر المحدقة والنابعة من العولمة ؟ ولبناء مجتمع الثقة وتعميق المواطنة الإيجابية في زمن العولمة، من اللازم التعاطي مع التحولات المجتمعية للمغاربة، بإبداع سياسات حياتية تهتم ليس فقط بالترابات والبنيات التحتية والحاجيات المادية، بل أيضا عبر تقوية الانخراط المواطناتي، وإيلاء الأهمية لحماية حياة ووجود المواطن.  فإذا لم تنجح السياسات العمومية في الاستجابة للحاجيات الفردية في زمن ما بعد كورونا، يمكن أن يتأثر الرابط الاجتماعي ويضعف لصالح سلوكيات التنافر والعنف والكراهية. لهذا، صار ملحا لاستشراف ما بعد كورونا التداول حول البدائل النسقية والفلسفية في حقل التحولات المجتمعية والقيمية، واقتراح مخرجات واقعية تستجيب لرهانات وتحديات سردية تَمَغْرِبِيتْ وممارسات “نْيُوتَمَغْرِبِيتْ”.

6-ماهي علاقة تَمَغْرِبِيتْ بالنموذج التنموي الجديد، ولماذا اغلب النماذج التنموية التي مرت على المغرب منذ الاستقلال إلى يومنا الحاضر لم تلبي تطلعات الشعب بما يضمن تحقيق الثقة بين المواطن والدولة؟

يبدو أن سؤال سردية تَمَغْرِبِيتْ في علاقته بالبعد الترابي هو سؤال حول علاقة تحسين مستوى عيش المواطن والقيم الناظمة للعلاقات الاجتماعية، وكذلك سؤال التعامل مع نوايا المواطنين وفهم تمثلاتهم حول المواطنة، والصيغ الممكنة لتقوية الشعور بالثقة بينهم وبين الدولة.  لهذا، صار ملحا التداول حول البدائل النسقية والفلسفية لضبط تمفصلات سردية تَمَغْرِبِيتْ بالنموذج التنموي، واقتراح مخرجات ترابية تستجيب لرهانات وتحديات المجتمع المحلي. من المستحب إذن، إعادة الاعتبار للمثقف الترابي والمدرسة الترابية والجامعة الترابية، لأن نجاعة النموذج التنموي ترتهن باستبطان الشعور بتَمَغْرِبِيتْ حقا وواجبا ووجودا من داخل منطق ترابي لتحقيق التنمية المحلية. يرتبط  هذا المنطق بتحديد نوعية السياسات العمومية التي تقوي قيم الانخراط والتفاعل مع النموذج التنموي المنتظر. ويظل السؤال الجوهري هو: أين وكيف يتجلى التغيير في بناء استراتيجية النموذج التنموي؟ بصفة عامة، يمكن الإقرار أن تغيير الاستراتيجية يستدعي تغيير الأهداف لأن وراء الأهداف تكمن مصفوفة القيم المؤسسة لكل نموذج تنموي، ولأن القيم هي الضابط والمحدد لنوعية الآليات والأهداف المنشودة من وراء كل نموذج تنموي. لذا، يتوجب أن ينصب التشخيص على علاقة سردية تَمَغْرِبِيتْ كبيئة قيمية بالتغير المجتمعي والديناميات البشرية، وأن يشمل عدة حقول اجتماعية منها لا للحصر: الإحباط المجالي و”لَحْرِيكْ”، والارتباك الهوياتي والبطالة عند الشباب،  وتفشي «تْشَرْمِيلْ» وأحداث العنف، وتهالك بعض النماذج الاقتصادية (جرادة – المناطق الحدودية) ، واتساع الفوارق المجالية وتنامي الحرمان الاقتصادي، وتأثير الحراك الافتراضي وتزايد الحراك الترابي، وبزوغ المواطنة الافتراضية… كما أن المقولات الإدراكية والمعرفية المؤطرة للنموذج التنموي الراهن، من قبيل التضامن والتماسك والتعاون والتكافل والعدالة والأمن والسلم الاجتماعي، أضحت عرضة للتآكل أمام تجذر عناصر تحيل على حالة من الاحتباس القيمي، ينضاف لهذا التآكل انتقال في القيم المحورية على المستوى الأفقي والعمودي، حيث أصبح جليا ملاحظة تواري سردية تَمَغْرِبِيتْ كمنظومة قيمية رمزية حاضنة للمواطنة والانتماء والوطن والدين والتسامح والعيش المشترك والرابط الاجتماعي، لصالح منظومة قيمية مادية ملحة ومستعجلة تهم الحق في الشغل والصحة والتعليم والعيش الكريم.

في هذا المضمار، يعدو النموذج التنموي والتعاقد المجتمعي المأمول رهينا بمصفوفة الفاعلين ودورهم في التأثير في بيئتهم ومحيطهم، الذي يؤثث له تصدير دستور المملكة المغربية من خلال مقولات دولة الحق والقانون، والديمقراطية والتعددية، والحكامة الجيدة ومجتمع متضامن وآمن، والحرية وتكافئ الفرص، والكرامة والعدالة الاجتماعية، وكذلك من خلال الفصل 35 الذي يضمن حرية المقاولة والمنافسة الحرة. ففي مقابل مصفوفة الفاعلين ومساراتهم وقدراتهم وقيمهم ورهانات منطق الثقة بين الدولة والمواطنين، تفاقمت بل وترسخت تمثلات التمييز السلبي والحرمان النسبي لدى شريحة الشباب والنساء والأشخاص في وضعية إعاقة. لهذا، صار ملحا التداول حول البدائل النسقية والفلسفية لضبط ترابطات سردية تَمَغْرِبِيتْ بالنموذج التنموي، واقتراح مخرجات واقعية تستجيب لرهانات وتحديات المجتمع المغربي. لتحقيق هذا المبتغى، يظهر أن تثمين الانتماء الجغرافي للمملكة المغربية (المغرب الكبير وإفريقيا والمتوسط والأطلسي)، يمر أساسا بالاغتراف والتفاعل مع الديناميات السياسية والاقتصادية والثقافية، لإغناء روافد النموذج التنموي المغربي وتقوية انفتاحه واندماجه وتفاعله مع النماذج الإقليمية والعالمية. أما على المستوى الداخلي، يبدو جليا ضرورة استبطان الانتقال من جهات ملحقة بالمركز إلى جهات ذات استقلالية، تشكل أقطابا اقتصادية، تستطيع أن تحتوي البطالة المحلية من خلال التصرف في الثروات والمؤهلات المحلية، عبر منظومة ديمقراطية يتكامل فيها المحلي بالوطني ،  لبناء قيم مواطنة جديدة ذات طبيعة ديجيتالية أنتجها الانتقال من مواطنة واقعية إلى مواطنة افتراضية من خلال الاعتماد على نسق اندماجي مؤسس على سردية تَمَغْرِبِيتْ، تروم تفعيل وتحقيق استراتيجية نموذج وطني للمملكة المغربية يحتضن نماذج ترابية جهوية. 

7-ماهي أبرز التمظهرات الهوياتية لتَمَغْرِبِيتْ؟ 

يعتبر البعض أن العودة للأصول شيء محمود ويساعد على بناء مواطنة إيجابية، لا تلغي ديناميات وثوابت الحاضر، التي ترتكز في مجملها على مقتضيات دستور 2011، المؤسسة على مقولة التعدد والتنوع والتمازج وتجليات السيادة الوطنية.  لهذا، يمكن استنتاج أن العودة للأصول تمت من خلال الاعتراف بأمة مغربية بهوية مزيجة يتداخل فيها ما هو إنساني وحضاري وجغرافي وتاريخي وثقافي وديني وديمغرافي ولغوي وترابي. مما يجيز اعتبار الزمن الدستوري لما بعد 2011 زمن العودة لمقولة الأمة المغربية. بموازاة هذه العودة،  تتأسس سردية تَمَغْرِبِيتْ على وعاء هوياتي مغربي مبني على التسامح وقبول الآخر والتنوع المتكامل، ويحوي جميع التعبيرات الثقافية المحلية والتنويعات اللغوية الجهوية، وليس بتاتا نوعا جديدا من الشوفينية المنغلقة أو القومية المتعصبة أو الهوية المنكمشة الرافضة للجيران، لا سيما منهم الأفارقة والمتوسطيين، فهي بالأساس شكل من أشكال القوى الناعمة، التي ستنضاف للمنطقة المغاربية وركيزة لدعم قوة المغرب الكبير وإشعاع لمنطقة شمال افريقيا والشرق الأوسط.  لهذا وفي أفق تبني سياسة هوياتية تؤسس لإعادة تموقع المملكة المغربية على الصعيد الإقليمي والعالمي، يمكن تبني سياسة تدبيرية وتسويقية تعتمد على إلحاق نعت «مغربي” بجميع منتجات المملكة المغربية كانتصار لتجربة انسانية وحضارية، تروم التميز وفي نفس الآن إغناء الموروث الإنساني، والمساهمة في رقيه وتثمين سردية تَمَغْرِبِيتْ التي تربط بين التاريخ والحضارة والعمران والسياسة والتنمية الاقتصادية والموروث الثقافي، وتؤكد في جميع تجلياتها على علامة “مغربي”. في المقابل أسهم الدخول للعهد الافتراضي ووتيرة التحولات المجتمعية في تغير بعض التمظهرات الهوياتية منها مثلا لا للحصر العادات الغذائية للمغاربة، حيث تم اكتشاف وصفات جديدة، أقبلت عليها كل الفئات العمرية في إطار تجريب مطابخ أخرى.  مما قرب المستهلك المغربي من ألوان مغايرة، لما ألفه من وصفات، تلائم متطلباته اليومية وقدراته المادية، وأدخلته في نوع من “الاغتراب المطبخي”. وأما فيما يتعلق بلغات المدرسة، تجدر الإشارة إلى أنّ اعتماد اللغات الرسمية لغات أولى في المدرسة، أثمر نتائج إيجابية في تجارب عالمية ناجحة، مثل التجربة الصينية واليابانية والكورية والفنلندية، فتطبيق المملكة المغربية لهذا الخيار سيمكّن اللغتين الرسميتين العربية والأمازيغية من إضافة صفة اللغات الوظيفية إلى صفتهما الاعتبارية كلغات رمزية هوياتية دستورية، والاضطلاع بدور لغات التدريس في جميع الأسلاك بالتعليم المغربي، من التعليم الأولي إلى التعليم العالي. من هذه الزاوية، ترسم سردية تَمَغْرِبِيتْ مسارا يؤكد على تداخل التجارب وتنوعها وارتباطها بتراب معين، كانتصار لتجربة انسانية وحضارية بالمعنى الانثروبولوجي. في هذا المسار، ولتثمين سردية تَمَغْرِبِيتْ، يمكن اقتراح مرصد وطني للاشتغال على التمظهرات الهوياتية كعملية وآلية تراكمية ، لرسم ملامح سياسة تنبني على مقومات التعدد والتنوع ، وتربط بين التاريخ والحضارة والعمران والسياسة والتنمية الاقتصادية والموروث الثقافي، وتؤكد على علامة مغربي في جميع تجلياتها. 

8- هل تَمَغْرِبِيتْ” مفهوم ضبابي بدون تأصيل فلسفي، تاريخي، سياسي، سوسيولوجي ،ام هو فقط فقاعة إعلامية لخدمة أجندات سياسية أخرى؟ 

يبدو أن السؤال حول التأصيل الفلسفي والتاريخي والسياسي والسوسيولوجي يرتبط مباشرة بتحديد الحقل الدلالي لسردية تَمَغْرِبِيتْ. فما هي إذن علاقة تَمَغْرِبِيتْ بحقل دلالي يدمج بين المقولة والمفهوم والمنظومة والنسق والرابط؟  في هذا الصدد، يمكن اعتبار تَمَغْرِبِيتْ سردية تدمج بين المقولة والمفهوم والمنظومة والنسق والرابط، بمعنى أنها تلك العلاقة المحكية والمُسْتَبْطَنة والمُشَارَكة، التي تضمن تمثل واقع ما من خلال الرصد والربط بين بعض الأسس الرمزية والمادية للتجربة الإنسانية والمجتمعية.  ولأن المفهوم بناء نظري وفكرة مجردة، تمثل الخصائص الأساسية للشيء ، ولأنه يستمد شرعيته من إبداع فكري أو إطار علمي أو اقتراح مصطلحي مستقى من الوقائع الميدانية، ولأن المنظومة كذلك هي نظام قائم بذاته ويتكون من عناصر تتداخل وتتكامل وظائفها لاشتغال النسق المنظم والخاضع لنظام وبنية منتظمة، ولأن الرابط هو لحمة تجمع بين المتعدد والمتنوع، فإن اعتبار تَمَغْرِبِيتْ سردية تجسد وتعكس المعرفة والتجربة المغربية، يُمَكِّنُ من فهم العلاقة التي تربط بين المفهوم كبناء والمنظومة كجدلية والنسق كنظام والرابط كعلائقية. من هذه الزاوية، يمكن الانطلاق في مقاربة تأصيل تَمَغْرِبِيتْ من استنتاج مفاده أنها مشترك متقاسم ومتداول، يجمع بين المقولة الفكرية والمفهوم النظري والحكي الواقعي والمنظومة الحضارية والنسق المجتمعي والرابط الاجتماعي وليست البتة فقاعة إعلامية تسخر لخدمة أجندات سياسية أو أجندات من نوع آخر. تباعا، يمكن تعريف تَمَغْرِبِيتْ كمحكية وكسرد مشروع ينهل من السرد المكتوب والمدون، ويوازي ويماثل السرد العلمي والموضوعي، وهو في هذا غني بالمعلومات والأخبار والمعارف حول المغاربة، ويغرف من عمق التاريخ والتمكين الحضاري والتمازج الإنساني، الذي يمنح معنى لتواجدهم ولتمثلاتهم لواقعهم وإدراكهم لمحيطهم واستشرافهم لمستقبلهم.  فالسردية في هذا الخضم، تمكن من فهم دور التراث الانساني والثقافي والحضاري والسياسي والديني والاقتصادي والعلمي في بناء الشخصية والتفرد، وتشكل أداة من أدوات التشخيص في العلوم الاجتماعية، بل وعنصرا في تأسيس النظرية السوسيولوجية. لكن، وجب الاحتياط عند محاولة تأويل وفهم السردية لعدم الانزلاق إلى اعتبارها ضربا من الخيال والذاتية المنكمشة، لكونها تعكس أساسا في العلوم الاجتماعية الطريقة التي يصيغها الأفراد للتعبير من خلال معجمهم الخاص عن تاريخهم وحضارتهم وواقعهم وبيئتهم وتطلعاتهم السياسية والاقتصادية والثقافية. في المقابل، تعتبر السردية من وجهة نظر العلوم السياسية، موجها ومحركا للدور النقدي حول السلوك المجتمعي والسياسي للأفراد. وبالارتكاز على هذه المنطلقات المنهجية، يمكن الإقرار أن الأفراد والجماعات يؤسسون للسردية ويوظفونها كمرجعية لاستشراف مصيرهم المشترك وفهم الوقائع السياسية والمجتمعية، التي تدور في محيطهم وتؤطر معيشهم اليومي من أجل تقوية تعايشهم وتعزيز تساكنهم وتمتين صلابة الوحدة والوطن والأمة.   

ولمقاربة هذا التأصيل يمكن مثلا الوقوف على مدى تجذر تاريخ الأندلس في المخيال المغربي وتأثيره على الذهنيات والسلوكيات، انطلاقا من عدة مسلمات من بينها أن تاريخ الأندلس هو بمثابة تاريخ مجد الأمة المغربية، وتميزها على عدة أصعدة سياسيا وحضاريا وعلميا وثقافيا داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا والمتوسط. كما أن مكانة هذا التاريخ في الوعي الجمعي والفردي للمغاربة يعكس نوعا من أنواع النبوغ التاريخي للأمة المغربية، الذي سينتعش حتماً وسيتم إحيائه بل الترافع من أجله وإيلائه موقعا متميزا في مصفوفة العناصر الهوياتية، بالنظر إلى طبيعة التجاذبات السياسية الأخيرة والأزمات الراهنة بين المملكة المغربية وجيرانها. ففي خضم هذه التجاذبات، طالبت بعض الأصوات الافتراضية عبر هاشتاكات تم تقاسمها، بالانتقال من مغرب “من طنجة لكويرة” إلى مغرب “من قشتالة لتمبكتو”.  ومن بين ملامح هذا النبوغ تضخم الخطابات حول الأمة والهوية والشخصية والتاريخ المغربي، من خلال بعض التوجهات الافتراضية منها لا للحصر بروز تيار قومي مغربي يميني ليبرالي، يدعى “الموريش” منذ سنة 2017، وهو تجمع افتراضي لأنصار “القومية المغربية”، هدفه تمجيد العرق “الموري” ، واختار له رمزية راية الإمبراطورية المرينية، ويتغنى بتاريخ الامبراطورية العلوية المغربية الشريفة، ويسوق لعدة شعارات منها   « Make Morocco Great Again »   . ويظل السؤال الراهن: هل يمكن أن تؤثر دعوات اليمين المتطرف في أوربا وغيرها على بعض التيارات بالمغرب وتؤسس لـ”سرديات” تحدد هوية المغربي و تُقَزِّمُ جغرافيته وتعزله عن بعده الإفريقي والمتوسطي؟

9- هل الحضارة الإسلامية تعتبر هي الوعاء الحضاري لمغربية او بعبارة اخرى أكثر خصوصية “مؤسسة امارة المؤمنين” باعتبارها هوية موحدة وجامعة بعيدا عن مفردة الاستهلاك؟ 

تندرج تباعا سردية تَمَغْرِبِيتْ في إطار التحول من انهزامية هوياتية والانتقال إلى يقظة ثقافية وانتصار ترابي، يعتمد على مرتكزات تاريخية وحضارية وبشرية ورمزية وأخرى مادية، منها مؤسسة أمير المؤمنين والتراب (تراب المملكة المغربية) والتاريخ (تاريخ الدولة والأمة المغربية) والمواطنون (جميع المواطنين المغاربة) واللغة (اللغتين الأمازيغية والعربية) والانتماء (المغرب الكبير وشمال افريقيا والشرق الأوسط والمتوسط والأطلسي). لذا، يمكن للمدرسة العمومية أن تلعب دورا أساسيا في تملكها والتمكين للأطفال والتلاميذ المغاربة منها من خلال إقحامها في المضامين التربوية، وربطها بقيم المواطنة وترصيدها عبر تقوية العيش المشترك والرابط الاجتماعي، بالاعتماد على مبدأ التنوع المتكامل. فتَمَغْرِبِيتْ هي سردية إدماجية وليست إقصائية أو تراتبية ، تتماشى مع منطوق دستور 2011 الذي ينص على أن “المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتھا الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات ھويتھا الوطنية، الموحدة بانصھار كل مكوناتھا، العربية، الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدھا الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية.”  فالجميع يتواجد بداخلها على أساس أنها بنية يحكمها محرك التكامل والتمازج، وعلى أنها دينامية بقيم قارة تمتح من وعاء حضاري تمثل الحضارة الإسلامية أهم مصادره ومرتكزاته. لهذا، يجدر التأكيد على أن كينونة تَمَغْرِبِيتْ لا ترتبط فقط بالخصوصية في طريقة اللباس والمأكولات التقليدية والتعددية اللغوية والتنوع الثقافي والطقوس الدينية … بل هي بمثابة جواب على سؤال “من نحن “، “شْكُونْ حْنَا” و”من نكون”، لتبيان وبناء سردية محلية حول سيادة وطنية وتراث فكري و فلسفي وحضاري عابر للتاريخ . يمكن كذلك اكتشاف تجليات تَمَغْرِبِيتْ، من خلال تلك الأخلاق الإنسانية التي ينفرد بها  المغاربة عن باقي الشعوب، التي تتجلى في طريقة التعامل مع الدين الاسلامي ، وكيف استطاع المغاربة فهمه بشكل روحاني تصوفي، وخلق زوايا لتعليمه. من هذا الباب، تشكل تَمَغْرِبِيتْ أساس الوحدة والفرادة والتميز المغربي، الذي يستمده المغاربة من تاريخهم وحضارتهم. فبالارتكاز على مبدأ أن الحضارة الإسلامية تشكل الوعاء الحضاري لتَمَغْرِبِيتْ من خلال «مؤسسة امارة المؤمنين” باعتبارها هوية موحدة وجامعة إضافة إلى عنصر “التراب” أي تراب المملكة المغربية، يمكن اعتبار  أن الاندماج الترابي المحلي هو أساس الاندماج الترابي الوطني، ومحركا يربط المشروع السياسي المغربي للجهوية المتقدمة بالتنمية الترابية . 

في هذا السياق تعود بوادر الشخصية المغربية إلى القرن الثامن الميلادي، وكذلك مع ظهور المغرب الأقصى في منتصف القرن الحادي عشر، واكتمال المجال المغربي مع المرابطين في النصف الأول من القرن الثاني عشر . فتكون في خضمها فضاء موحد، يدمج البعض في الكل في إطار الذهنية الجماعية والوجدان، والدفاع عن المجال في علاقته بالشعور بالانتماء والسيادة الوطنية، وتحديدا مع توحيد المذهب والعقيدة (المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية) اللذان شكلا عنصران لتكون الأمة المغربية. كما أن انبثاق اسم أول دولتين مغربيتين “المرابطون” و”الموحدون”، يؤكد على أن محدد الدين مكن من خلق انسجامية بين مختلف مكونات المجتمع، لا سيما منها الأمازيغ وتجذر هويتهم كعنصر أساسي من عناصر المجتمع الإسلامي بالمغرب.  يمكن الإشارة إلى أن من مظاهر قيام الأمة المغربية توحيد الأنظمة التشريعية من خلال تدريس مجموعة من الكتب، منها المقدمة الأجرومية، و ألفية بن مالك، و مختصر خليل، والشفا للقاضي عياض، وقصيدة البردة للبصيري … وبالموازاة، يمكن إضافة ظاهرة أخرى أسهمت في بلورة شعور الانتماء للأمة المغربية، هي تنظيم ركب الحجيج المغربي، ابتداء من القرن السابع الهجري الموافق للقرن الثالث عشر ميلادي، بعد تبنيها من طرف الدولة المرينية لاحقا، فسمي الركب المغربي. وفي باب الانسجام الانتمائي، تم تعميم الاحتفالات بالمولد النبوي يوم الثاني عشر من ربيع الأول منذ العهد المريني، مما زاد من الشعور بالانتماء إلى أمة واحدة وبلد واحد، لا سيما أن هذا الاحتفال تم تبنيه من طرف الفقهاء المتصوفة. ومن زاوية أخرى، يبدو أن مشروع بناء سرديات الأمة المغربية، ابتدأ مع شروع الإخباريين المغاربة منذ العصر المريني بكتابة تاريخ مرتبط بالمجال المغربي، أو ما سمي بالمغرب الأقصى، مشروعا يؤصل لهوية رمزية مشتركة، وحدود جغرافية مُمَيِّزَة. وتم تدشين هذا المشروع مع ابن أبي زرع الفاسي بكتابه ” الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ فاس”.  من هذا المنظور، يمكن أن تحيل سردية تَمَغْرِبِيتْ على أمة بطبيعة مغايرة فهي أمة ترابية، يتحدد تواجدها واستمراريتها بحدود جغرافية. لكن هناك عدة ترددات عرفتها هذه السردية منها تأثير الوهابية في مقولة الأمة المغربية، حيت طفت أممية دينية نوعية، مست الانتماء لجميع البنيات منها الوطن والأسرة والعائلة … ووظفت طابع الشمولية من خلال منطلقات بعينها، مثل الحاكمية والخلافة … سعى هذا المد إلى تهميش الخصوصية المغربية وتذويبها في قالب الاختيارات الكبرى لباقي الدول المسلمة. لكن التحاق بعض المكونات والحركات الدينية ببعض البنيات الحزبية، أفضى إلى مراجعة هذا المد الشمولي، وعودة مفهوم الأمة القطري والترابي من خلال الدولة الوطنية ومؤسسة إمارة المؤمنين. لذا، يمكن توصيف هذه الارتدادات من خلال حركة دائرية، تدحرجت من الأمة الترابية إلى الأمة الشمولية لتعود إلى الأمة الترابية في صيغة الدولة الوطنية، المحتضنة لحضارة إسلامية متفردة تعترف بجميع أطياف المغاربة. 

10-كلمة ختامية 

في لحظة تثبيت “تَمَغْرِبِيتْ” كسردية تتقاطع ضمنها اليقينيات المحلية، تبدو السياسة الهوياتية أمام خيار استراتيجي وثقافي ومؤسساتي ودستوري وإنساني وحضاري، يقوم على مجموعة من القيم ترمي إلى تكريس الشخصية المغربية وتعميق المضامين المحكية عن طبيعة التعايش وآليات التساكن، وممكنات العيش المشترك، وتعزيز عناصر الرابط الاجتماعي، وبناء عقد مجتمعي متجانس، يرتبط بتمظهرات سردية تَمَغْرِبِيتْ في الماضي والحاضر والمستقبل،  وأساسه تحقيق تنمية نوعية، تزاوج بين القوى الناعمة والقوى الصلبة، وتُبوئ المملكة المغربية مكانة متميزة على الصعيد الإقليمي والعالمي. ويكشف كذلك عن إمكانية استشراف تغير مجتمعي بعد زمن كورونا في صيغة سردية تَمَغْرِبِيتْ ديجيتالية (نْيُوتَمَغْرِبِيتْ)، تكون نتيجته التحول من رابط اجتماعي واقعي إلى رباط مجتمعي افتراضي، من أهم مميزاته التواجد المستمر واليقظة الديجيتالية والرقابة المواطنة والتفاعل الجماعي والفردي من خلال قنطرة ما يمكن توصيفه ب “الفردية الجمعية” و”النخب السائلة”. فمنطلق سردية تَمَغْرِبِيتْ هو منطلق يرتكز على منطق دستوري (دستور المملكة المغربية لسنة 2011)، ويدمج السياق التوطيني (تراب المملكة المغربية)، ويتقاطع مع الانتماء الاقليمي (المغرب الكبير)، ويحاكي العولمة عبر التموقع على جسر الخصوصية المغربية، التي ترتكز على اليقينيات المحلية منها لا للحصر النظام الملكي المغربي ومؤسسة إمارة المؤمنين والحضارة الإسلامية والهوية المزيجة (الأمازيغية والعربية والأندلسية والإفريقية والعبرية والمتوسطية) . لهذا، تقوم تَمَغْرِبِيتْ كسردية للعيش المشترك وكمبدأ للتعدد والتنوع على عناصر بعينها تحيل على فرادة المغاربة ووحدتهم. من هذا الباب يمكن اعتبار سردية تَمَغْرِبِيتْ بيئة قيمية يمكن أن  تجيب عن بعض الإشكالات من قبيل الإحباط المجالي والبطالة عند الشباب والفوارق المجالية والحرمان الاقتصادي والمواطنة الافتراضية وإعادة الاعتبار للمدرسة العمومية، لأن نجاعة النموذج التنموي ترتهن باستبطان الشعور بتَمَغْرِبِيتْ حقا وواجبا ووجودا من داخل منطق ترابي، لمجتمع المعرفة ومجتمع الثقة ومجتمع العدالة الاجتماعية، وقوة انخراط المثقف الترابي وحضوره إلى جانب الفاعل الترابي، كما تعد محاولة لإعادة التأمل في بعض ملامح الشخصية والهوية المغربية كاعتراف مستحق بفضائل أمة قامت على التعدد والتنوع، مفتونة بالحضارة ومجبولة على الكرم الانساني.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube