رجل القطط العجيب.
رجل القطط العجيب.
بالقرب من للاعويش و أمام درب الجديد الذي يؤدي إلى درب الحمام يمينا و عرصة البردعي يسارا، توجد دكان في التربيعة التي يوجد بها فران للاعويش، و بجانب الفران تجلس مجموعة من بائعات الخبز بلباسهن التقليدي و المحتشم ،يشكلن دائرة خماسية الأركان. و لغريب الصدف ففي هذه التربيعة أيضا تقام ليلة الدقة المراكشية لحي اسول العريق. فمن باب التقويسة يبدأ حي اسول، الحي المرابطي بامتياز.
كان صاحب الدكان رجلا في الخمسينيات قوي الشكيمة، مبتسما لكنه صارم كالسيف، محبوبا خاصة من كبار الناس و حتى الأطفال، كانت دكانه عبارة عن محل للبقالة لذلك فهو مرتب برفوف من خشب بدقة عالية، لكن الغريب أن تلك الرفوف لا تحتوي على سلع غذائية أو غير ذلك من السلع التموينية، فقد كانت تلك الرفوف خاصة لشيء آخر غير المواد الغذائية. رفوف تحمل قططا داخلها، ربما بعدد الرفوف توجد قطط في ذلك الدكان .
رفوف خاصة بالذكور و أخرى بالاناث، فيما كانت صغار القطط تلعب بين جنبات و داخل الدكان و تارة بين الرفوف.
كان السيد أحمد صاحب الدكان رجلا يحب القطط و يعيش لها و من أجلها، يعتبرها ك الأبناء أو أكثر فهي حبه الكبير و شغفه المنقطع النظير ،يهتم بها و بصغارها، لا تتحرك إلا بإذنه مطيعة، لا تأكل الا من يديه، تحوم حوله و تقوم بطوافها المعهود، تزيده جمالا و بهاء و يتبادلون معه نفس الأحاسيس و الشعور، تحس كأن تلك القطط توأم روحه و هو توأم روحها.
كنا نمر بجانب دكانه المفتوحة يوميا من الصباح الباكر و حتى المساء و نحن ذاهبون أو عائدون من مدرستنا بالقرب من مستوصف الشيخ الانطاكي أو مستشفى الخميس كما درجنا على تسميته، مستشفى بمواصفات عالمية، جناح خاص للأمراض بصفة عامة و جناح خاص لأمراض العيون و الأنف و الأذن . كانت مدرستنا (مدرسة الخميس ) الكبيرة و المختلطة و التي توجد قرب إعدادية عبد المومن ، من أعرق المدارس و أحسنها من حيث المردودية ، فهي نموذج للمدارس العمومية الناجحة لكفاءة مدرسيها و نباهة تلاميذها النجباء.
بين جيئة و ذهاب كنا ك أطفال صغار، معجبين بذلك الرجل الطيب، الذي يجمع هذا العدد الكبير من القطط حوله و العجيب انه كان يطلق أسماء غاية في الجمال على كل قط من تلك القطط، اسماء فريدة و دقيقة و الاعجب هو امتثال تلك القطط عندما تسمع اسماءها من صاحبها السيد أحمد.
كانت للسيد أحمد لغة خاصة بينه و بين تلك المجموعة الكبيرة من قططه، لا يفهمها كثير منا، لغة كلها حب و تفاهم و مشاعر فياضة .تعلمنا منه الكثير من فلسفات الحياة، ك الصبر و الإحسان و الرفق بالحيوان و المعاملة الطيبة و الخلق الرفيع و احترام الناس كافة صغارا و كبارا و اهم درس هو ذلك الحب الكبير و القناعة، لأن القناعة كنز ثمين.
على مدى خمس سنوات، سنوات الحصول على الشهادة الابتدائية أو شهادة التعليم الأساسي أو كما نسميه نحن في بلادنا (بيت الشهادة ). كنت لا أمل من الوقوف لرؤية ذلك المشهد الغريب و الفريد من نوعه، مشهد تلك القطط الجالسة على الرفوف تشكل لوحة فنية غاية في الجمال، لوحة تشكيلية لا يقدر على تخليها و رسم تفاصيلها و خطوطها إلا رسام ماهر جدا، رسام ذي فلسفة و نظرة عميقة للحياة. و قد كان السيد أحمد يلاحظ هذا الاهتمام المشترك، و بالرغم من انه كان لا يتحدث كثيرا مع الناس، إلا أنني حظيت ببعض من كلامه المتميز و العميق و الهادئ. كنت دائما ما ابادله التحية و السلام، كانت ابتسامته العريضة تعني رد التحية و السلام.
لم نكن نعلم شيئا عن قصة هذا الرجل الغريب الأطوار و العجيب في آن، فهو وحيد، يعيش في نفس الدكان الذي به ذلك العدد الكبير من القطط، له مكان خاص به داخل ذلك الدكان، يفصله ستار من الثوب و جدار من خشب. يحكى أن هذا الرجل، كان تاجرا كبيرا في زمن ما، و قد كان متزوجا من امرأة جميلة، غاية في الجمال و الأنوثة و الرقة، و قد عاشا معا حياة مليئة بالحب و الصدق و الصفاء ،لكنهما لم يرزقا بأطفال ،و ظل بينهما الوفاء إلى آخر أيام زوجته الطيبة. كانت رمزا للوفاء و العطاء و الخير، فقد نذرت نفسها أن تبقى في خدمة زوجها و عمل الخير و الإحسان للفقراء والمساكين حتى الموت.
حزن السيد أحمد على زوجته كثيرا بعد وفاتها، و قرر الزهد في هذه الحياة و التفرغ إلى عمل الخير و كرس كل حياته و أمواله لذلك. و قد جاءته فكرة الاعتناء و خدمة تلك الحيوانات الأليفة اي القطط بعدما رأى في منامه رؤية تبشره بالخير الكثير إن هو اعتنى بتلك النوعية من الحيوانات. كانت القطط و الصلاة في وقتها و الذكر تشغل كل حياته ،كما كان يداوم على زيارة قبر زوجته في كل يوم جمعة ،و يقوم بتوزيع الصدقات على الفقراء و المحتاجين في سرية تامة.
هذا الرجل الغريب الأطوار و المبارك، السيد أحمد صاحب القطط و مربيها، كانت له دعوات مستجابة، و يذكرني بالمقولة المشهورة التي تتناقلها الأجيال :كل قدم بصالح. أي أن هنالك أولياء اخفياء بيننا لا يعلم بأمرهم إلا الله وحده. فطوبى للغرباء .
أحمد الونزاني.
