حواراتمستجدات

حرة بريس في حوار مع الباحثة والكاتبة المغربية كريمة نور عيساوي 

النص التوراتي مقاربات نقدية

حاورها عبدالحي كريط 

باحثة وكاتبة مغربية من مواليد مدينة فاس العريقة ،أستاذة تاريخ الأديان بكلية أصول الدين جامعة عبد المالك السعدي بتطوان رئيسة مركز تنوير لتحالف الحضارات والتنمية الاجتماعية والثقافية بفاس كما أنها مسؤولة العلاقات الدولية في اتحاد نساء آرارات  بزيوريخ بسويسرا؛ لها عضويات بعدد من المراكز والجمعيات الوطنية والدولية، شاركت ونظمت العديد  المؤتمرات والملتقيات والندوات والمهرجانات الوطنية والدولية لها اصدارات عديدة في مجال مقارنة الأديان من أبرزها موسوعة: الديانات السماوية: الكلمات – المفاتيح (اليهودية) ومدخل إلى نقد التوراة رؤية من الداخل،والبحث عن عزرا كاتب التوراة صادر عن المركز الأكاديمي للأبحاث،بيروت2017–التوراة من التدوين إلى النقد دراسة في سفر التكوين لقضايا :الخلق والخطيئة والطوفان وبرج بابل صادر عن ،المركز الأكاديمي للأبحاث بتورينتو كندا، بيروت، 2020 وكتاب النص التوراتي مقاربات نقدية، صادرة عن مؤسسة الفكر العربي  المغرب 2021،والى جانب إصداراتها الأكاديمية لها اصدارات أدبية كإبداعات نسوية مغاربية ديوان شعري جماعي؛ دار المثقف الجزائر 2017 ،صهيل من فلوات الأرواح، دار ديهيا بركان المغرب 2017 

وبقايا امرأة عن منشورات مركز تنوير لتحالف الحضارات المغرب،2020 وغيرها من الإصدارات. 

ضيفتنا لهذا الحوار هي الباحثة والكاتبة المغربية الدكتورة كريمة نور عيساوي والتي ستتحدث لنا عن كتابها النص التوراتي مقاربات نقدية وهو عبارة عن  مقالات مجتمعة تشترك، وإن بشكل متفاوت، في تناولها للنص التوراتي، وتقدم للقارئ المتخصص وغير المتخصص المفاتيح الأساسية التي تساعده في التعرف، عن كثب، على بعض عوالمه الغامضة ودون هذه المعرفة المباشرة والموضوعية والتي تراها د كريمة عيساوي   شرطا أساسيا في أي بحث علمي حقيقي في مجال علم مقارنة الأديان،في هذا الحوار ستتحدث لنا الضيفة عن المناهج التي إعتمدتها في تأليف هذا الكتاب، وكيف اتخذ العلماء المسلمون وعلى رأسهم المهتدين إلى الإسلام الكتاب المقدس بعهديه منطلقا لإثبات صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومامدى إستفادة الغرب من علم نقد الكتاب المقدس الإسلامي المنشأ والذي يعتبر من العلوم الإسلامية وغيرها من المحاور 

1-النص التوراتي مقاربات نقدية من الأعمال الأكاديمية الرصينة والهامة في مجال علم مقارنة الأديان ،ماهي الأسباب التي دفعتكم إلى تأليف هذا الكتاب؟

الكتاب نشرته حلقة الفكر المغربي التي تتبنى سلسلة شهرية موسومة ب”القراءة المواطنة”، إسهاما  منها في دعم القراءة العمومية والأكاديمية بالمغرب، هدفها تفعيل وترسيخ فعل القراءة باعتباره سلوكا مدنيا واجتماعيا وحضاريا. في هذا الإطار جاءت فكرة إصدار  كتاب “النص التوراتي: مقاربات نقدية“. إن توجيه اهتمامنا نحو التوراة بشكل خاص، والكتاب المقدس بشكل، لم يكن وليد الصدفة، وإنما أملته جملة من اﻹعتبارات. فقد لاحظنا في تجربتنا المتواضعة في تدريس علم مقارنة الأديان أن الكثيرين يواجهون صعوبات جمة، وهم يتعاملون للمرة الأولى مع التوراة اليهودية بمفهومها العام( التوراة والأنبياء والمكتوبات). و لا يدركون أنها تختلف سواء من حيث عدد الأسفار أو من حيث الترتيب باختلاف الفرق المسيحية واليهودية؛ فالعهد القديم التي أقرته اليهودية يختلف عن العهد القديم كما تراه الكاثوليكية، ولا يُشبه العهد القديم الذي تؤمن به البروتستانتية. وتتسع رقعة الإختلاف كثيرا بين التوراة العبرانية والتوراة السامرية. ولاشك في أن التوراة كما رسم ملامحها الكبرى القرآن الكريم لا نجد لها أثرا في التراث الديني اليهودي القديم. ناهيك عن مجموعة العوامل التي أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

 أولا – نتيجة تطور هذا العلم في الغرب، وهو ما يُعرف ب” نقد الكتاب المقدس” حيث قطع العلماء هناك أشواطا كبيرة في البحث والدراسة؛ وجعلوه علما قائما بذاته له أصوله ومناهجه ومصادره، بل أصبح منفتحا على علوم معرفية أخرى من قبيل “اللسانيات التاريخية” “Linguistique historique” و”النحو والمقارن”  “Grammaire comparée” و” الفيلولوجيا” “Philologie” هذا فضلا عن اهتمامهم ب “علم الآثار” “Archéologie

ثانيا  – إن الاهتمام بهذا العلم اليوم لم يأت إعتباطا أو عن طريق الصدفة ، وإنما  كان استجابة للضرورة الملحة التي يمر بها العالم؛ فمع الطفرة النوعية التي شهدتها  وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي أضحى العالم عبارة عن قرية صغيرة، ونتيجة اﻹحتكاك المباشر مع أتباع الديانات السماوية أو التوحيدية سواء الذين يقيمون بين ظهرانينا أو الذين حكمت ظروف الحياة الهجرة إلى بلدانهم من أجل العمل.

ثالثا – لعل ما يعرفه العالم من حروب ونزاعا ت وإرهاب يستدعي العودة للنصوص الدينية بحثا عن أرضية مشتركة للعيش والحوار والتسامح.

رابعا –  قلة الدراسات والأبحاث في هذا التخصص في العالم العربي والإسلامي يدفعنا إلى محاولة إحيائه من جديد. 

2ماهي المناهج التي إعتمدتها في تأليف هذا الكتاب ؟

في تأليفي لكتاب النص التوراتي مقاربات نقدية اعتمدت على مجموعة من المناهج منها: 

المنهج التّاريخيّ:

   لَمّا كانت التّوراة أساس هذه الدراسة، كان من اللّازم من النّاحية العلميّة  التّوسّل بالمنهج التّاريخيّ نظراً لما يتيحه من جمع للمعطيات التّاريخيّة التي من شأنها،  إذا أُحسن استعمالها، أن تقدّم إضاءات على مادّة علميّة تنتمي هي ذاته إلى الماضي.

المنهج الوصفيّ التّحليليّ:

يتمثّل هذا المنهج في التّعامل مع  النّصوص الدّينيّة سواء تعلّق الأمر بالنّصوص التّوراتيّة،أم المدوّنات الشّرقيّة القديمة، أم الشّواهد النّقديّة التي وردت في الكتاب.  

المنهج المقارن:

  يتميّز هذا المنهج بقدرته على إبراز مواطن الاتّفاق ومواطن الاختلاف بين أطراف محدّدة أو وثائق معيّنة أو نصوص بعينها كانت الحاجة ملحّة لمقارنتها؛ وقد سلكت طريق هذا المنهج على امتداد هذه الدراسة. 

المنهج النّقديّ:

   لَمّا كان نقد النص التّوراتي على وجه العموم هو أساس هذا الكتاب لم أجد أيّ حرجٍ في إبداء الرّأي الشّخصيّ عندما يتعلّق الأمر بإصدار حكم، أو قول كلمة حقّ ،أو تفنيد رأيٍ،أو بيان بطلان فكرة مغلوطة ،أو تَقَوُّلِ. 

3-قلت في كتابك أن علماء الماسورة لهم منهجية صارمة ودقيقة في الحفاظ على التوراة من خلال التحقيق في مخطوطاتها وإعادة كتابتها وفق مجموعة من التعليمات والشروح والإرشادات للخروج في نهاية المطاف بنص توراتي موحد،ماذا يقصد بعلماء الماسورة ؟

علماء الماسورة هم علماء يهود يقوم عملهم على تحقيق الكتب الدّينيّة اليهوديّة.  وقد تعدّى ذلك حدود التّنظيم والتّنسيق، ووضْعَ أنظمة للتّنقيط والحركات، وتحديدَ قواعد للقراءة إلى التّدخّل في بعض الأحيان في صياغة النّصّ التّوراتيّ. الأمر الذي دفع الباحث عيسى بن ضيف الله حدّاد إلى القول: إنّهم بمجرد فراغهم من عمليّة تحقيق وتثبيت العهد القديم، عمدوا إلى إخفاء المخطوطات السّابقة؛ وفي رواية أخرى تمّ إتلافها! بالأحرى أن يكون عمل هؤلاء قد وصل إلى مستوى التّأليف الجديد المعتمد على التّوفيق والتّوليف بين العديد من المصادر.

  كان البحث عن نص موحد للعهد القديم هاجسا يشغل اليهود منذ القدم، وذلك نتيجة شيوع نصوص مختلفة ومتعددة، مما حدا بهم إلى وضع مجموعة من التعليمات والشروح والإرشادات التي تُسهل عملية القراءة دون الوقوع في اللحن. لعل الهدف من ورائها كان يتمثل في الخروج بنص موحد للمقرا، ويُسمى النص الذي يخضع لهذا القانون بالنص الماسوري. وقد اختلف العلماء في تحديد معنى مصطلح (ماسورة ـ massorah) وإنقسموا في ذلك إلى فرق وشيع ـ بحسب تعبير (آرون دوتان ـ Aron Dotan) ـ فقد كان الاعتقاد السّائد أنّ كلمة (massorah) أو (massore) مشتقّة من الفعل العبريّ (מסר ـ مَصَر) بمعنى نَقَلَ،  والمقصود هنا مجموع التّقاليد الشّفاهيّة التي كانت تُنقل من جيل إلى آخر. في حين ترى فئة من العلماء أنّ أصل هذه الكلمة يعود إلى الفعل (אסר ـ أَصَرَ) أي رَبَطَ، مثلما يتّضح في شرح حزقيال: (וְהַעֲבַרְתִּי אֶתְכֶם, תַּחַת הַשָּׁבֶט; וְהֵבֵאתִי אֶתְכֶם, בְּמָסֹרֶת הַבְּרִית) وما يقابله في العربيّة: (وَأُمِرُّكُمْ تَحْتَ الْعَصَا، وَأُدْخِلُكُمْ فِي رِبَاطِ الْعَهْدِ) و) رباط العهد أي كلّ ما له صلة بالنَّصّ سواء تعلّق الأمر بقواعد القراءة أم الكتابة. أمّا (داود ليزاطو ـ David Luzzatto) فيرى أنّ هاتين الكلمتين (מסורת ـ ماصوريت)  و (סימן ـ سيّمان) تحملان في التّراث التّلموديّ معنى متقارباً. وفي الوقت الحديث،  أدلى (زئيف بن حاييم ـ Z.ben Hayyim) بتفسير جديد لكلمة ماسورة مفاده أنَّ الفعل  (מסר ـ مَصَر) يدل على الإحصاء في كلّ من اللّغتين العبريّة والآراميّة على حدّ سواء. وما يؤيّد هذه الفكرة الأخيرة، أنَّ عمل الماسورة كان مسبوقاً باجتهادات (الكتبة ـ סופרים) وممّا له دلالة عميقة ها هنا أنّ  كلمة (סופרים ـ سوفريم) مشتقّة من الفعل (ספר ـ سَفَر) بمعنى أحصى. 

  أمّا أصول الماسورة فغير معروفة على وجه التّحديد! لكن يبدو أنَّها امتداد طبيعيّ لعمل الكتبة الذين جعلوا من إخراج النّصّ التّوراتيّ، وتحقيقه وظيفتهم الرّئيسة، ولسنا نعلم متى بدأ استعمال لقب )ماسوريّ) ولكن في نحو سنة (800م) أُطلق هذا الاسم بدلاً من وصف واسم (الكتبة) السّابق، ولا نعرف ـ على وجه اليقين ـ تاريخ ظهور هذه الحركة؛ كما إنَّنا نجهل كلّ شيء عن مرحلة ركودها.  وقصارى ما يمكن أن يُقال بشأنها: إنّ إعداد عملها استغرق عدّة قرون، وإنَّه كان مع حلول القرن العاشر الميلاديّ في حكم المنجز.

4-قلت في كتابك انه في إطار الدفاع عن صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ،إتخذ العلماء المسلمون وعلى رأسهم المهتدين إلى الإسلام الكتاب المقدس بعهديه منطلقا من أجل إثبات صدق نبوته عليه الصلاة والسلام ،هل لك أن تشرح لنا هذه النقطة؟ 

من المهم الإشارة إلى أن هذا العلم الذي يُطلق عليه اسم حجج أو دلائل النبوة، والذي أصبح عنوانا أثيرا للعشرات من المصنفات،يُعنى، على وجه العموم، بإبراز معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، والتمييز المبدئي له عن سائر الأنبياء والنبوات، والاهتمام بعرض أدلة أو حجج من داخل “الكتاب المقدس” تنبأت بمجيئه عليه الصلاة والسلام. وإلى جانب هذه المصنفات المتخصصة في حجج أو دلائل النبوة اشتهر العلماء المسلمون أيضا بتناولهم العرضي أو الرئيسي لهذا العلم ضمن كتب التراجم والجغرافيا وتفسير القرآن الكريم والملل والنحل وعلم الكلام. وتشترك مع كتب دلائل النبوة حسب حافا لازارو سيافيه في اقتباس وتفسير فقرات توراتية كإشارة للنبي (محمد صلى الله ليه وسلم) ولظهور الإسلام وللفتوحات الإسلامية ولمكة وللصلاة الإسلامية وللحج.  على سبيل المثال لا الحصر فقد أفرد ابن سعد في طبقاته بضع صفحات أورد فيها أخبارا متفرقة تتضمن ذكرا لصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل.  ورد في أحد هذه ا أخبار ما يلي: «أخبرنا معن بن عيسى، أخبرنا معاوية بن صالح عن أبي فروة عن ابن عباس أنه سأل كعب الأحبار: كيف تجد نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة: فقال نجده محمد بن عبد الله، مولده بمكة، ومهاجره إلى طابه، ويكون ملكه بالشأم، ليس بفحاش ولا بصخاب في الأسواق، ولا يكافئ بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر.». 

 النبي محمد صلى الله عليه وسلم في “الكتاب المقدس”

ويُعتبر الجاحظ (ت869م) وابن قتبية(ت889م) وعلي بن ربن الطبري(ولد أواخر أيام أبي جعفر المنصور 136 –هـ158 أو في أوائل خلافة المهدي بالله 158-169هـ) وهو من العلماء المسلمين الأوائل الذين كانت لهم منذ القرن التاسع الميلادي عناية بالبحث عن النبوءات بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم الواردة في “الكتاب المقدس” بعهديه القديم والحديث.  فالجاحظ ألف “حجج النبوة”، وابن قتيبة له كتاب بعنوان“دلائل النبوة” ضاع في وقت مبكر، غير أن الاقتباسات المطولة عنه احتفظ بها ابن الجوزي (ت م1201) في كتابه “الوفا بأحوال المصطفى”. أما علي بن ربن الطبري  الذي يُدرج ضمن المهتدين إلى الإسلام فقد اشتهر بكتابه “الدين والدولة”

من المعلوم أن البحث عن هذه النبوءات إقترن بالكتاب المقدس الذي لم يكن العلماء المسلمون ينظرون إليه بعين الرضا بسبب ما إعتراه من تغيير وتبديل وتحريف. فما أكثر المرات التي أشار فيها القرآن الكريم إلى ما إعترى التوراة من تحريف:  « فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ »  وقال أيضا سبحانه وتعالى: « مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ».كيف نُوفق إذن بين المفهوم القرآني لتحريف التوراة والقول في الوقت نفسه بأنها بشرت بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ 

لابد من الإقرار بأن منطلق العلماء المسلمين كان هو بعض الآيات القرآنية التي تُثبت، بما لا يدع أي مجال للشك، بوجود التبشير بالنبي في كتب اليهود والنصارى، وذلك قبل أن تمتد إليها أيادي التغيير . قال الله سبحانه وتعالى في الذكر الحكيم: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيل»، و«رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ». و«إذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ».

يرى علي بن ربن الطبري، متحدثا عن اليهود والنصارى بأنهم « كتموا اسمه وحرفوا رسمه الموجود في كتب أنبيائهم عليهم السلام، ما أنا مظهره ومبيح سره وكاشف ستره حتى يراه القارئ عيانا ويزداد بالإسلام قوة وسرورا». ونفس المسار سلكه  السموأل بن يحيى المغربي في كتابه ” غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود“؛وأبو محمد عبد الحق الإسلام في كتابه “: رسالتان في الرد على اليهود

5-علم مقارنة الأديان أو نقد الكتاب المقدس هو من العلوم العربية الإسلامية الصرفة،مامدى إستفادة الغرب من هذا العلم الإسلامي المنشأ؟

“نقد التوراة” أو “نقد الكتاب المقدس” بعهدين “العهد القديم” و”العهد الجديد” هو علم عربي إسلامي النشأة. ويُعتبر كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم الأندلسي(384-ت456)()من أهم الدراسات التي اتخذت من هذا المنهج منطلقا لها. من هنا يتضح لنا أن العلماء المسلمين كان لهم قصب السبق فما يتعلق بعلم الأديان. فقد سبقوا في ذلك العلماء الغربيين خاصة في العصور الوسطى مع ابن حزم الأندلسي(994م/1064م) الذي يُعد، في واقع الأمر، المؤسس الحقيقي لعلم نقد الكتاب المقدس، وإن كان الرجل لم يأخذ حتى الآن حقه من لدن الدارسين الغربيين الذين تنكروا له، ولم يُفصحوا بأنهم أخذوا عنه هذا العلم موجهين في المقابل أنظارهم فقط نحو أبرهام ابن عزرا (1090م/1164م) العالم اليهودي.

فباروخ سبينوزا الفيلسوف اليهودي الهولندي ليس أول من أنكر في كتابه  ( رسالة في اللاهوت والسياسة) نسبة التوراة إلى موسى  خاصة الأسفار الخمسة، بل استقى هذه الفكرة من العالم اليهودي الأندلسي أبرهام بن عزرا. ويُستخلص من سنة ميلاد أبراهام بن عزرا أنه ولد بعد ابن حزم الأندلسي بخمس وعشرين سنة، وهي على وجه التأكيد، مدة قريبة للفترة التي عاش فيها ابن حزم الذي ذاع صيته في الأندلس. وكان له إسهام ملموس في شتى المجالات ومختلف العلوم. وقد تجاوز تأثيره معاصريه ليشمل حتى الأجيال التي أتت بعده. ولا يستبعد الدكتور أحمد شحلان أن يكون أبراهام ابن عزرا في نقده للتوراة قد تأثر بابن حزم الأندلسي، لأنه سلك منهجه فانتقد «النصوص صراحة ولم يلجأ إلى تأويلها. وفي هذا كان ابن حزم أستاذا لأبراهام بن عزره ولسبينوزا، لأن نقد هذين الأخيرين لم يتخذ التأويل منهجا لحل مبهمات العهد العتيق، ولكنه أخد ينظر في تناقضاته المختلفة، ويناقش عدم توافقه مع صدق الواقع في الأحداث والتواريخ ومستوى اللغة»().

– إن النظريات الغربية في مجال نقد التوراة نجد لها أصولا واضحة في نظرية التحريف والتبديل، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: «فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»() ونظرية تعدد المصادر كما جاء في كتابه العزيز : « أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا» ()وهاتان النظريتان مصدرهما كما هو معلوم القرآن الكريم.وفي الأصل، فإن مصطلحي التحريف والتبديل ينتميان إلى مجال النقد الأدبي، وذلك قبل أن يتحولا، كما أشار إلى ذلك محمد خليفة حسن أحمد في القرآن الكريم وفي المصادر الإسلامية الناقدة للتوراة، إلى مصطلحين مفعمين بالدلالة الدينية، وهي إحداث التغيير في الدين().إن البحث في تاريخ التوراة تأليفا وترجمة ونقدا يقوي الانطباع لدى المسلمين بأن التوراة الحالية ليست وحيا منزلا، ويدفعهم للتمسك أكثر بالقرآن الكريم الذي نزل على نبينا المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، وتعهد الله سبحانه بحفظه:«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ »

6- ما هو تقييمكم للتطور الحاصل في علم الأديان بصفة عامة ومقارنة الأديان بشكل خاص في العالم العربي؟ 

لقد اهتم الغرب بهذا العلم نظرا لإحساسه بأهمية التدين، واقتناعه بأهمية الدين في حياة الشعوب، فأولاه الأهمية القصوى، وقد ساعدتهم مجموعة من العوامل في ذلك منها، تطور العلوم الإنسانية مثل: “اللسانيات التاريخية” “Linguistique historique” و”النحو والمقارن”  “Grammaire comparée” و” الفيلولوجيا” “Philologie” هذا فضلا عن اهتمامهم ب”الأساطير” “Mythologie  إلى جانب الطفرة النوعية التي عرفها “علم الآثار” “Archéologie” و”العلوم الإنسانية” “sciences humaines”  ك”علم النفس” “Psychologie و”علم الاجتماع” ” Sociologie” و”علم الإنسان” ” l’anthropologie” و”فلسفة الدين” Philosophie de la religion …؛ ” وفك طلاسم “الكتابة المسمارية” “Écriture cunéiforme” و”الكتابة الهيروغليفية المصرية”  “Hiéroglyphes égyptiens” إن علم الأديان في الغرب أسهمت في تبلوره وتطوره ثلاثة عوامل أساسية: تأسيس أو تطوير العلوم الإنسانية (علم الاجتماع، أنثروبولوجيا…) تقسيم اللغات إلى عائلات لغوية (اللغات الهندوأوروبية، اللغات السامية…) ثم فك طلاسم الكتابة المسمارية والكتابة الهيروغليفية، هذه الأخيرة كان لها الفضل في الكشف عن مجموعة من الحقائق التاريخية المغيبة، ولنا أن نساءل هل عرف العرب والمسلمون علم الأديان؟ وماهو المنهج الذي توسل به العلماء المسلمون في دراستهم لهذا العلم؟وما مدى تطور هذا العلم في الوطن العربي؟

يرى الأستاذ محمد خليفة حسن في كاتبه تاريخ الأديان دراسة وصفية مقارنة، » أنَّ علم تاريخ الأديان من العلوم الأساسية في التراث العلمي الإسلامي، بل هو علم إسلامي مهمل إذ لم يلق عناية كافية من الباحثين المعاصرين، خاصة فيما يتعلق بالجانب المنهجي الذي طوره علماء تاريخ الأديان في القرون الأولى للهجرة، .« ومن خلال استقرائنا لعدد من المصنفات التي تزخر بها المكتبة العربية الإسلامية يُمكننا الجزم بأن علم تاريخ الأديان علم  أصيلٌ في التراث العربي الإسلامي، ويكفي أن نذكر  بعض الأسماء ومن هؤلاء العلماء العرب والمسلمين:

– علي بن ربن الطبري (ت 247هـ ) صاحب كتاب “الدين والدولة في إثبات نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم”.

– أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت255ه ) صاحب كتاب”في الرد على النصارى”.

–   أبو الريحان البيروني (ت 440 هـ) صاحب كتاب “حقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة “.

– أبومحمد علي بن حزم الأندلسي(ت456هـ) صاحب كتاب “الفصل في الملل والأهواء والنحل”.

–  السموأل بن يحيى المغربي (ت570ه) صاحب كتاب “غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود”.

-شهاب الدين الصنهاجي القرافي: (ت684هـ) صاحب كتاب “الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة”.

-شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت 728هـ) صاحب كتاب “الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح”.

إن هذه المصنفات وغيرها كثير؛ هي بمثابة وثائق حية وملموسة تفصح عن السبق الزمني للعلماء المسلمين إلى هذا العلم بحثا وتصنيفا ودراسة. وقد كان لهم الفضل في الكشف عن أسسه التي أرسى القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا قواعدها العلمية. وليس غريباً أن يكون تاريخ الأديان، في صورته الغربية قد تأسس على كتابات هؤلاء العلماء المسلمين الذين  تُرجمت أعمالهم منذ وقت مبكر إلى العديد من اللغات الأوروبية، مما أتاح الفرصة أمام علماء الغرب المتخصصين الذين اهتموا بدراسة المادة الدينية والفرق والمذاهب، من الاطلاع على مناهج المسلمين في دراسة الأديان والملل الأخرى. وحسبنا هنا الاستشهاد بقول الشهرستاني أحد كبار مؤرخي الأديان «اعْلم أنَّ العربَ الجاهليَّة كانت على ثلاثةِ أنواعٍ من العلومِ: أَحدها علمُ الأنسابِ والتواريخِ والأديانِ» والفكرة نفسها نستشفها من رسائل إخوان الصفا في قولهم: «واعْلم يَا أخِي أنَّ العلمَ علمانِ: علمُ الأبدانِ وعِلمُ الأديان»ولعل ما يمكن أن سنخلصه كذلك من هذا القول هو السبق التاريخي في تسمية هذا العلم بعلم الأديان وهي التسمية التي يستعملها الألمان للدلالة على هذا العلم.وإذا كان الغرب قد حقق تراكما معرفيا يُعتد به في علم الأديان، فإن إسهام الجامعات العربية والإسلامية لا يزال محدودا، نظرا لحداثتها، فعمر بعض الجامعات لا يتعدى خمسين أو ستين سنة على أحسن تقدير. والظاهر أن مصر كانت سباقة على يد الشيخ أمين الخولي إلى تدريس مادة تاريخ الملل والنحل منذ 1935 في كلية أصول الدين بالأزهر وتوالت بعد ذلك دراسات أو ترجمات تصب كلها في علم الأديان. الأمر الذي كان من الممكن أن يؤدي إلى تقدم في دراسة الدين وفق مناهج علمية مختلفة. غير أن عوامل شتى منها، ما هو إيديولوجي سياسي، ومنها ما هو دعوي ديني أثرت سلبا في مسار هذا العلم، وأسهمت في انحساره أو تحوله إلى خطاب جاف يسعى إلى تصفية حسابه مع الديانات الأخرى، أكثر من محاولة فهمها. وحتى لا نعمم فإن هناك استثناءات كثيرة لباحثين أفذاذ سواء في مصر أو في غيرها من البلدان العربية والإسلامية، ممن شقوا طريقا فريدا يتسم بكثير من الموضوعية والحرفية والعلمية. كما أن بعض الدول مثل الجزائر وغيرها فتحت شعبا مستقلة لعلم مقارنة الأديان.

أما المغرب، وعلى الرغم من دعوته المبكرة إلى ترسيخ ثقافة حوار الأديان، والسعي، على المستوى الرسمي، إلى وضع أسسها المتينة فإنه تأخر كثيرا في الالتفات إلى علم مقارنة الأديان. ويبقى حظها من التدريس في الجامعة المغربية ضعيفا، إذ تُدرس مادة تاريخ الأديان مرة واحدة فقط في شعبة الدراسات الإسلامية، وقد نجد لها نظيرا في شعبة الفلسفة. ويتسع الاهتمام بها في كلية أصول الدين بتطوان  فالقانون المنظم لتأسيس كليتنا العتيدة ينص حرفيا في الفصل الثامن من المرسوم رقم2.75.663الصادر في 11 من شوال 1395 (17 أكتوبر 1975) يحدد بموجبه اختصاص المؤسسات الجامعية وقائمة الشهادات التي تتولى تحضيرها وتسليمها: تختص كلية أصول الدين بكل ما يتعلق بالتعليم العالي والبحث في ميدان تاريخ الديانات والعلوم المرتبطة بها.

ولها بعض الحضور في دار الحديث الحسنية ومعهد محمد السادس الدراسات والقراءات القرآنية  بالرباط وجامعة القرووين بفاس وهي مؤسسات تابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية  والتي كان لها وعي بأهمية هذا العلم، فأدرجته ضمن مواد ماستر الدراسات الإسلامية التي تُدرس باللغة الإنجليزية في قلب جامعة الأخوين بإيفران. وعلى مستوى الجامعات فإن الاهتمام بعلم مقارنة الأديان كان متفاوتا، وكان نتيجة مبادرات فردية لباحثين أمثال الدكتور أحمد شحلان عميد الدراسات الشرقية و الدكتور محمد أمين السماعيلي، والدكتور إدريس اعبيزة، في كلية الآداب، الرباط، والدكتور سعيد شبار في كلية الآداب، بني ملال، والدكتور مصطفى بوجمعة في كلية أصول الدين بتطوان. 

ولم تكن جامعة سيدي محمد بن عبد الله، وخاصة كلية الآداب، سايس بمعزل عن هذا السياق. فقد بادر الدكتور سعيد كفايتي سنة 2007 إلى تأسيس ماستر الدراسات السامية ومقارنة الأديان، واستطاع بمؤازرة الفريق البيداغوجي أن يساهم على مدى عشر سنوات في تأطير أكثر من مائتي طالب، وأن يكون له دور في الإشراف على أطاريح العشرات منهم، وأن يجعل من مختبر حوار الحضارات ومقارنة الأديان الذي أسسه مع زميلين آخرين هما الدكتور عمر جدية والدكتور سيدي محمد زهير منتدى للبحث في علم الأديان.

وتكمن أهمية هذا الماستر في أنه لا يُدرس الأديان الأخرى (اليهودية والمسيحية) بمعزل عن محيطها التاريخي، وبمعزل عن اللغات السامية التي حُرر بها الكتاب المقدس. ومن ثم كان التركيز على الحضارة الشرقية القديمة، وكان الإهتمام منصبا على اللغة العبرية بشكل خاص باعتبارها المدخل إلى قراءة التوراة في نصها الأصلي. ولهذا يعتبر إدراج اللغة العبرية في هذا الماستر سابقة غير معهودة في الجامعة المغربية.

وموازاة مع انتهاء تجربة ماستر الدراسات السامية ومقارنة الأديان سنة 2014 وأفواجه السبعة، ونهاية مختبر حوار الحضارات ومقارنة الأديان أُنشئ على يد الدكتور سعيد كفايتي فريق للبحث في علم مقارنة. ولابد من التنويه بأن فريق البحث  استطاع في وقت قياسي أن يُلفت الأنظار إليه بسبب تضافر جهود الأساتذة الباحثين والطلبة الدكاترة، وبسبب الاحترافية التي تطبع الأنشطة العلمية التي نظموها على مدار سنتين فقط. وقد تُوجت هذه الجهود بمجموعة من الإصدارات التي تراوحت ما بين التأليف والترجمة.

ولا تزال جامعة سيدي محمد بن عبد الله وفية في إحتضانها لهذا العلم، وتمسكها به، ويتجلى ذلك في إطلاقها لماستر جديد هو إمتداد لماستر الدراسات السامية ومقارنة الأديان، يحمل إسم اللغات والحضارات الشرقية ومقارنة الأديان، يتولى إدارته الدكتور سعيد كفايتي بمعية فريق بيداغوجي متخصص اتخذ على عاتقه مسؤولية تأسيس هذا العلم في الجامعة المغربية، أملا في أن يتحول الحلم بكلية متخصصة في علم الأديان بالمغرب إلى واقع أو على الأقل إلى مسلك متخصص في تاريخ الأديان وحوار الحضارات . وإن غدا لناظره لقريب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube