ثقافة وفنونغير مصنفمستجدات

ليالٍ باردة

عزيز ايت لبصير

إلى كل أحبائي:
والدتي الراحلة قبل الأوان…
والدي الذي لا يزال يقاوم عثرات الزمن…
إخواني وأحبائي وأصدقائي اللذين غدرهم الزمن…
أخوتي اللواتي غطاهن النسيان…
صديقي الغائب، بعد ان كان حاضرا أيام زمان…
حبيبتي التي هجرتني دون ان أدري السبب…
حبيبتي التي هجرتها دون ان تدري السبب…
ابني الذي عجزت في حقه عن الكلام…
حفيدي الذي عجزت عن التعبير عن وضعه تجاه عثرات الزمن…


إليكم جميعا أقدم ” ليالٍ باردة”.

I – طفولة مغتصبة.
1
لكل منا قراءته الخاصة لطفولته… فيها العلاقة بين الابن وأسرته، بين الأستاذ وتلامذته، علاقة الجار بجاره، علاقة الصديق بأصدقائه… يمكن لكل إنسان أن يبني لنفسه أحلاما طفولية يعيش من أجل تحقيقها وهي قد تتحقق أو لا تتحقق… يحاول أن يعيش الواقع ويبتعد عن الأوهام، يجري الزمن، يتوقف التفكير لحظة ليتطور… يدور في دوامة لا تنتهي…
أكره الجمود ودليلي أن الكون في حركة دائمة…
بأية بداية يمكن أن يبدأ الواحد منا الحديث عن حياته؟
عندما تكون أحد عناصر الموضوع وتحاول باستعمال المنطق في الحكم على الأحداث، متفاديا في نفس الوقت التسرع في إصدار أحكام مسبقة، قد يكون للعاطفة فيها نصيب… يطرح السؤال التالي نفسه: هل، لابد من وجود عنصر خارجي لا يمت للأحداث بصلة، كي يتمكن من صياغتها، مستعينا بالبرهان الرياضي؟ …
يجب اتخاذ الحذر من نوعية العنصر الخارجي، لأن العقل البشري عاطفي مع ذاته… ذلك أن عدم استخدام العاطفة في التعاطي مع الواقع قد يؤسس لعاطفة أخرى تحمل علامة الرفض للعاطفة المتعارف عليها بين البشر…
تدور الأحداث، تتكرر أجزاء من أحداث وفي بعض الأحيان بشكل كاريكاتوري بالتحديد… تدور الساعات ويدور الزمن… لا شيء يتوقف غير الموتى، وقد يعتقد البعض أن الحياة مرتبطة بحركة الجسم أو سكونه، قد ينطبق الموت بسكون الجسد وكفه عن الحركة، ولا ينطبق في حالة حركة الجسم وجمود العزيمة…
تتوالد الأشياء عن بعضها البعض وتتولد عن الأحياء أحياء أخرى أو موت دون سابق إنذار، لكن الأكيد أن الموت لن يولد غير السكون… والجمود لن يعطي الحياة أبدا… قد يقول قائل ما قاله القائلون تلو القائلين، يا ليتني كنت بخارا…
يا أيتها النفس ارجعي إلى أحزانك راضية مرضية، ومع آلام جراح أجزائك فاندثري… يا أيتها النفس…
يا أيتها النفس ارجعي إلى واقعك متأملة وغير باكية، يا أيها الشارد في فضاء الأوهام قم فتذكر أن الأيام ماضية لا ريب وقل إني للحق مناصر وللباطل مناهض… يا أيتها النفس كنت ولا تزالين تنتظرين…
يؤجل ألم وسط حزمة آلام أشدّ… يظهر أحيانا عند الوحدة القاتلة وهي تجتر وتجر وراءها ماض أليم… ليس الفتى من يقول: كنت، كان، كانوا… بل، الفتى من يقول: أنا كائن أحيى بين كائنات شتى، أحلم مع الحالمين من كادحين ومكافحين، ضدا على الاستغلال، القهر، الاضطهاد والإحباط…
2
كانت البداية في حي أمازيغي التسمية “إغير” وتنوع الوافدين… كانت الحبيبة يوما والمحيط أياما وكانت البداية… بداية نحو سماء لن تفتح ولن ترى فيها الأمل… لن تنجو من عقاب الأيام إذ ستتوالى عليك الأحزان… تتذكر أحداثا وتظهر أحداث أخرى كالسراب… تجري الأحداث وتدور الساعات، وتمضي الأيام ويكبر الطفل… كان يبكي عندما كان صغيرا كلما اختلى بنفسه ويسمع شجون الظلام… كان الأطفال في الحي يلهون ويمتعون الطبيعة لتمتعهم الطبيعة ويتمتعون جميعا وسط الطبيعة وكانت ممارسات تلو ممارسات… هجر الحي أصحابه وكان لا بد لأصحابه أن يهجروه في ريعان الشباب…
يُقبل الطفل يدا، يفوز بعدها بقبلة رحيقها لم يدب بعد، يقرأ لها الفنجان وشرب هو من فنجانه… فنجانك غارق يا ويل من كنت لها حبيبا… يغادر حيه، يغادر مدينته، يحط الرحال بالمدينة… ساحة “جامع الفنا” ترحب بزوارها الجدد والقدامى. وقلب تجمد لفراق الحبيبة. لكن القلم يلخص المسافات، والمسافات بدورها تقلص من حجم مداد القلم، ينقص المداد، يجف… تلتهم المدينة الطفل ويترك قدميه حرتين طيلة يومي السبت والأحد مع إضافة أنصاف أيام في بعض الأحيان… يحمل دفاتره ويغرق وسط أوراقه وكتبه، فهو طفل مهذب… مراكش مدينة الأصالة والإغراء… تلتهمه الدروب القديمة ويضمحل وسط جنان الحارثي وما يشبهه كثير… نمط آخر من الدراسة… يتذكر ما فعله به معلمه الجليل بالمستوى الخامس الابتدائي “قسم الشهادة الابتدائية” بالمدرسة المركزية بدمنات… يتذكر وما التذكر إلا استرجاع لماض أليم… يسأله معلمه في الصباح: لماذا تلعب القمار؟ أجاب الطفل أنه لا يلعب القمار. هدّده معلمه المحترم باختيار الخمسين “أي، خمسون ضربة وهو ممدد على بطنه فوق الطاولة” أم يبصق عليه كل من في المدرسة؟ غرغر الدمع في عيني الصبي وترك جزاء لعبه بين يدي سيده: “للي بغيتي نعماس” وهو في قرارة نفسه يطلب العفو من معلمه المحترم… أخذ المعلم قلمه وخط فضيحته وقدم ورقته لأحد التلاميذ “لحبيب خموش”، آمرا إياه بالقيام بالطواف بالطفل في جميع الأقسام وليبصق الكل على هذا الحمار، مشيرا بيده للطفل الصغير.
مشى الطفل أمام زميله لحبيب يتبعهما معلمهما المحترم… فكر الطفل في الهروب من بين يدي زميله، لكنه تذكر قسوة أب حنون، الشتم لسانه والضرب والتكتيف سلوكه… هو نائم أو شبه نائم، يَسمع أو يَسأل في بعض الأحيان… يأتيه جواب وقد يقهر… إن لم يطلق عليه الأب وابلا من رصاص اللسان وبعدها يرسله بين الأبواب الأربعة عريان… يتم ضربه، تكتيفه، تجويعه، يصفه بما ليس هو فاعله، يشبعه دعوات سود كالجمر في حلكة ليل قارس…
عدل الطفل عن الهروب وسيق كما تساق الدواب… يقرأ، زميلي الحبيب، الورقة على مسامع معلمٍ وتلامذته في الفصل الأول ابتداء من الباب الخارجي للمدرسة المركزية بدمنات: “هذا تلميذ كسول، لا يحفظ دروسه ولا يحترم أستاذه ويلعب القمار ويدخن السجائر ويشرب الخمر. إنه زنديق لا يستحق غير البصق والركل والرفس جزاء”…
مر بين الصفوف ويديه في جيبي جلابيته الصوفية البيضاء ورأسه مطأطأ… سمع مالم يكن في خيال جن من نار، سمع ما تلاه زميله بأمر راع أمين على مصير أطفال أبرياء… بصق الكل، تنخّم البعض وبصق، ومنهم من لم يكفه ذلك فركل… “إخ… اتّْفُو… اتّْفُو…” … يا لها من كلمات نظيفة، كلمات يتعلمها الأطفال الصغار ويطبقونها في الحال على طفل بريء لم يسأله أحد فيما إذا كان الخطاب معقولا أم ملفقا…
كان الطفل يلعب مثل كل الأطفال. كان الليل في بدياته الأولى، وكان ضوء متجر الأب يقهر الظلام. كان الطفل وأخوه حكيم، يلعبان بكرات زجاجية صغيرة… كانا يلهوان مثل جميع صغار الحي… ظهر للطفل أستاذه الجليل قادما من باب داره متجها صوب المتجر. جرى الطفلان إلى داخل الدار محترمين للقادم كالعادة. عيب أن يلعب الصغار أمام أعين الكبار، خاصة أمام أكبر الكبار. يذهب الطفل إلى المدرسة وقد حفظ ما يجب حفظه وكتب ما تجب كتابته، لأن المعلم حديدي. لم يخطر على بال الطفل أنه اليوم سيقهر، بأمر من معلم للعلم إلى آمر بالبصق دون اعتبار…
لم ولن ينس الطفل جميل معلم استفسر وطلب العفو قبل أن يقبل بإجراء عملية قهر للإنسان… وقف أخوه حكيم، وخاطب الجمع… من تجرأ سيصلى نارا من يدي… تجرأ البعض، وتجرعوا السم من يده… كان سلوكا منحوتا أبد الآبدين في صدر الطفل، حكيم يصغره بسنتين. كان جميلا لن ينسى أبدا. حكيم كان حكيما وشاعرا خانه الزمن…
3
كنت طفلا صغيرا أتابع دراستي الابتدائية بمدرسة حي الصناع، كان يطلق عليها آنذاك اسم “مدرسة ليهود”، وهي رسميا تسمى “مدرسة الإسرائيليين”… [الشكر موصول لصديقي أحمد قنبر الذي نورني بالاسم الرسمي الأول للمؤسسة، قبل أن تحمل اسم “مدرسة حي الصناع”.] حي الصناع وأي صناع وأية صناعة بهذا الحي؟ في اعتقادي كان الهدف من التسمية إزالة اسم الملاح، لكن ذاكرة الناس لا تزال تستعمل للحي اسمه الأصلي وهو حي الملاّح…
سجلني أبي بالمدرسة وصاحبني في اليوم الأول حتى أوصلني باب المؤسسة. ولجنا باحة المدرسة كأطفال صغار وإذا بتلاميذ بلباس مدرسي أنيق يصطفون أمام أقسامهم بالجناح الموجود على يسار باب المؤسسة. تساءلنا من هم هؤلاء… هم أبناء اليهود القاطنين بحي الملاح… بعد فترة لم أميز طولها ينسحب زملاؤنا إلى وجهة لا نعلمها نحن الصغار آنذاك… تمر السنة الأولى “قسم التحضيري” في حفظ الحروف ومحاولة كتابتها… ننتقل بعدها لمستوى السنة الثانية “قسم الأولى ابتدائي”. داخل القسم تسمع صراخ الأطفال يئنون من شدة الضرب على الأيادي وبعضهم يُحمل على ظهر زميل والبعض يأكل حصة دسمة تحت قدميه الحافيتين ب “الفلقة”:(يتم تكتيف رجلي التلميذ بحبل مشدود بقضيب يوضع على حافتي طاولتين أماميتين لصفين متقاربين من الكراسي وظهر الطفل ورأسه على الأرض.) ننتقل إلى السنة الثالثة “قسم الابتدائي الثاني” تمر السنة الدراسية بسلام. نتعلم من خلال الأنشطة المدرسية المبرمجة مساء كل جمعة، اللعب بالطين والورق، نتعلم كيف نصنع حيوانا بدون روح أو طائرة نقذفها في الهواء لتحلق لبضعة أمتار وتسقط على الأرض ونعيد الكرة مرات عديدة… كانت الأنشطة المدرسية هي المتنفس الوحيد لنا طيلة السنوات الدراسية التي كانت أشبه بسجن منه إلى مؤسسة تربوية.
نجحنا، أنا وزملائي، من المستوى الرابع “المتوسط الأول” إلى “المتوسط الثاني”. وفي اليوم الأول من الدخول المدرسي المقبل، نتفاجأ بضرورة اجتيازنا لامتحان شفوي في مادة اللغة الفرنسية على يد الأستاذ الجميل/”الزين”… إنه جميل حقا… جميل بعصاه التي يفزع بها أطفالا صغارا لا ذنب لهم، إلا أنهم راغبون في التعلم بالمدارس العصرية بدل المساجد التقليدية… قيل لنا أن أستاذنا للسنة الفارطة ترك المدينة ورحل إلى مراكش، نظرا للمشاكل التي كانت بينه وبين مدير المدرسة. ما ذنبنا نحن… وقد تبين لنا فيما بعد أننا سنكون خرفانا في المدرسة المركزية… سوف يتم اختيار كل تلميذ منا من طرف أستاذين للغة العربية… وسيختار المعلم الحديدي كل أبناء حينا ليصبح أستاذنا للغة الفرنسية “قاسم” أخ الأستاذ الذي اجتزنا على يديه الامتحان الشفوي…
لم أكن أعرف أين كان يسكن الأستاذ الجميل قبل امتحاننا. كل ما أعرفه أنه اشترى قطعة أرضية بالحي الذي أقطنه وهو حي إغير-ترسال، بنى بها منزلا وحماما. ترشح فيما بعد لانتخابات المجلس البلدي. أتذكر أن أحد منافسيه جليل “عبد الجليل أبو الزهور”، شاب صديق من حزب يساري، وكان الأستاذ يحرض الناس ضد منافسه على أنه كافر لا يؤمن بالله ولا بنبي الإسلام. سلوك المجلس البلدي بعد نجاح أستاذنا هو الشاهد على الحقيقة… أصبحت البلدة بليدة بصعود ذلك المجلس البلدي… زوروا الانتخابات… زوروا مصير شعب ولا يزالون يزورون… المجلس اسم على مسمى…. إنهم يجلسون على المقاعد أمام مقر البلدية على حافة الشارع الرئيسي الذي يخترق المدينة.. يا للأسف الشديد، مدينة وأية مدينة… شيدت قبل مدينة مراكش بما يقارب ثمانية وأربعين سنة، والعهدة على الرواة…
يوقظني أبي مع الفجر كل صباح، باستثناء يوم الأحد. أتناول فطوري وأخرج من منزلنا صحبته، متوجها إلى مدرسة حي الصناع ومحفظتي معلقة بيدي. عندما نصل إلى نهاية مقبرة حي إغير قرب ميمونة “للاّ ميمونة”، يودعني أبي لأكمل المشوار وحيدا، ولا بشر ألتقيه في طريقي إلا الكلاب. في كل صباح أدخل باب حي الملاح وأنا أرتعش خوفا من إيقاظ رجل ينام داخل الحي قرب الباب وآلته الحديدية “تَلْكَّوْسُتْ” قربه… يتبادر إلى ذهني أن الرجل سيقطع رأسي إن رآني وأنا أجتاز الباب في تلك الساعة المبكرة من اليوم والناس نيام. أمرّ بجانب الجدار على يمين الباب دون أن أحدث أي ضجيج قد يؤدي بي إلى ما لا تحمد عقباه. عندما أجتاز هذا الحاجز وبعده أمر بالحي إلى حده من الجهة الأخرى أسمع الكلاب تتشاجر وتعوي ويزداد خوفي وأنا وحدي. قد يحس الكلاب بوجودي وراء جدار لمنزل قديم هدمت أطرافه. كل يوم أطل من إحدى شقوق الجدار وتظهر لي ساحة باب المدرسة فارغة إلا من الكلاب. أنتظر حتى تبدأ خيوط ضوء الصباح، حينها يتوافد الأطفال وأخرج من مخبئي لألتحق بهم.
4
يهب الريح من كل الجهات… تنزف السماء، صوت كلاب تعوي، حجر يتساقط على الجار من كل الجهات في كل الليالي، في نفس الأوقات… يصرخ الرجل وزوجته وبناته طالبين النجدة، فالمعلم الحديدي فقيه لن يهدأ له بال حتى يُخرج الرجلَ بالرّجم… “واك، واك، أعباد الله… الفقيه بغى يجري عليا ويرميني للزنقة بلا سقف ويعمر الدار…”.
تقف أنت عندما كنت صغيرا، تتبول أمام الأهل دون خجل، تسقط قربك حجرة لم يبللها المطر… تنطق الوالدة أمي حليمة: لقد حفظك الإله، أنت محفوظ من عند رب العالمين إلى يوم الدين… تتكرر الحكاية… في كل عملية يقوم بها الفقيه يخرج كل رجال الحي في عملية بحث، ولا يجدون غير الكلاب الضالة… لم تر شيئا أو لربما قد رأت، لأنه لا أحد يستطيع فهم الكلاب… أقصد جميع الكلاب وجميع أصناف الكلاب… النباح موسيقاهم وهم على الأكل يتشاجرون… عفوا أيتها الكلبة البيضاء “سيكا”، كنت كلبة وديعة، لست مثل كل الكلاب… كنت دابة تشربين وتأكلين بجانبنا، أنت كما بعض الدواب وأقل درجة من رفاهية يوميات بعض الكلاب… تلك الكلاب الكبيرة ذات المخالب الكاسرة، ككلب أخ للفقيه الذي يقطع الزنقة كلما تواجد أمام الباب.
ما كان على الرجل إلا أن باع للفقيه، رحل عن الحي، ثم عن المدينة رحل… ولا يزال يرحل حتى رحل مهموما عن دنيا يغدر فيها الجار جاره، ويُخرج فيها الجارُ الجارَ من داره، يُشتت الجارُ أسرةَ جارِه… يقسم الجارُ، الفقيه، الدار إلى منزلين كي يُخرج أخاه الأصغر وأبناء أخويه من داره إلى دار الجار الذي رحل… رغم أن الجار الذي رحل عن دنياه، خلف فاطمة ابنته التي تقطن بجوار منزلنا الذي بيع وغصته لم تبرح حَلْقَ إخوتي وأخواتي الذين عاشوا معي محنة محاولة رد الأب عن غيه في عملية كانت ستؤول بنا إلى نفس مصير الذي باع وهو مؤمن بخرافة الرجم من طرف الفقيه… يكبر المعلم الحديدي، يصاب بمرض… يتداول الناس الخبر… خبر انتقام الخالق ممن طغى وتجبر على أطفال أبرياء… جزاؤه، كل أجزائه تندثر… لروح معلمي المحترم أبلغ التحيات، ذكرت هنا ما كان الناس يتداولونه… أشهد أنه كان أستاذا مجدّا في عمله ولقد تعلمنا الكثير على يديه… رغم طغيانه وجبروته… كانت بدايات حصصه عبارة عن اجتياز حواجز الجمارك… قد يكون جزاء البعض، التحميل أو التمدد على الطاولة الأمامية للصف القريب من مكتبه…

  • الأستاذ: بلبصير.
  • بلبصير: نَعَمْ سَيِّدِي.
  • الأستاذ: هل حفظت الدرس؟
  • بلبصير: نَعَمْ سَيِّدِي.
  • الأستاذ: وإذا تبين عكس ذلك، أتأخذ الخمسين؟
  • بلبصير: لا يا سَيِّدِي.
  • الأستاذ: الشُباني.
  • الشُباني: نَعَمْ سَيِّدِي.
  • الأستاذ: حمل هذا الحمار (مشيرا بعصاه تجاه أحد التلاميذ المصطفين من أجل الاستمتاع بأكلة شهية “عَصَوِيَّة” دسمة طعمها يضربك ويركلك منه الضوء.)
  • الشُباني: حاضر سيدي.
  • تلميذ: أي، أي، عافاك نعماس، ما بقيش نعاود… والله لا عاودت نعماس…
  • الأستاذ: الشُباني.
  • الشُباني: نَعَمْ سَيِّدِي.
  • الأستاذ: هل حفظت الدرس؟
  • الشُباني: لا يا سيدي.
  • الأستاذ: “تَجَبَّدْ” فوق الطاولة.
  • الشُباني: حاضر سيدي.
    يأكل المسكين حقه من العصى، أعتقد أنه هو أيضا من بين من أوتِيَّ بهم معنا هنا بعد أن كنا هناك…
    لا يمر أسبوع بدون أن يرسلني معلمي من داخل قاعة الدرس، لأقضي له حاجته من عند الجزار أو شراء مسامير للبناء، مع وجوب إيصال المطلوب إلى منزله بجوار منزلنا، ثم أعود إلى المدرسة وأنا ألهث مسرعا خوفا من تحميلة على ظهر زميل أو ما شابه ذلك…
    يذكر الجيران معلم اللغة الفرنسية، المتواضع والمحبوب رغم إدمانه على عصائر العنب والذّرة… كم من مرة وأنا بمتجر الأب، يسلم ويأخذ علبة سيجارة “ثريا” وينسحب إلى منزله وهو سكران… كم من ليال يمر بزقاق الحي ثملا والقمر فيها يضئ الحقول… تظهر الجبال… تكسوا القناديل سماء، تظهر للناظر من يعتى في الأرض فسادا…
    5
    مرت الأيام والليالي… ليال قارسة… ثلج وريح وعري كالوليد، هناك ثقب عفن وراء الباب… البُوَيْبة الصغيرة الموجودة تحت الدرج الملتوي… هناك باب، وباب وبينهما بُوَيْبة وسلم يحده باب… يا لها من بُوَيْبة وراءها توضع “إخّان د إبزضان نايت تݣمي، د أيت إبرݣمي”، باختصار، هي التي تُفرغُ بجوفها فضلات كل أهل الدار وأحيانا “إبزضان” زبائن أبي من الجيران وبعض من أهل الدوار… كان الدرج ملاذا لحفظ العلم في بعض الأحيان، والعين تذرف الدمع دون انقطاع… ويعلو الشهيق…
    عشت للحظات نفس العنف مع ذاتي يوم الخميس:06/01/2022، بدموعه وشهيقه… زمن التعبير عن أسباب آهاتي خلال الفترة الصباحية ليوم الخميس، مثل توأمه الخميس الأسود بثانوية عبد الخالق الطريس بطنجة، سيكون كل منهما موضوعا خاصا بذاته وبذاتي، إن لم نكن نشكل كيانا واحدا أوحدا…
    تسألني أمي حبيبة، أجيب أني للخمسين آكل، لقد بان البرهانُ… تساعدني على إلصاق “الهيضورة” (السجادة المتبقية من كبش العيد.) على ظهري لتقيني من حر سياط المعلم الحديدي… يضرب المعلم وأتظاهر بالألم… ولم أعد أهتم بما يأمرنا المعلم الحديدي بحفظه… لكن جاري أحمد أبراغ، قبل أن يكون صديقي وزميلي، غدرني بإفشائه سر قصة «الهيضورة» لمعلمي، ما سَبَّبَ لي في وجبةٍ دسمةٍ من العنفِ ومسخرة أمام التلاميذ، بطلها كان معلمي المحترم…
    كان على صاحب “صباحُ الخير يا سيدي كل بداية حصة صباحية” و”مساء الخير يا سيدي كل مساء من مساءات أيام الأسابيع”، قد يكون يوم الأحد عطلة لدوي المسافات الفاصلة بين مسكن كل منهم والمسكن الذي فيه أكلت على ظهر زميلي وصديقي محمد بن سالم “محمد بَجْرْدَة” خردة من “السَّلَخَاتِ المُسَلَّخَةِ” من طرف معلمي ويده اليسرى مطوية من وراء ظهره… يده اليمنى تسلخ حتى أبناءَ مُقرّبون له من حبل الوريد… كان على مُعَلِّمِي أن يُوَّقِّرَ أبناء جيران منزله وأبناء جيران جيرانه وجيران أهل الجوار… كنت واقفا أمام “رِيدُو”… “الرِّيدُو” بالدارجة المغربية هي باب من حديد أو قصدير، قد يُفتح كما هي حالة أبوابٍ صنعت من خشب قُطّع من جذوره…
    بدل أن يترك بعض البشَرِ الشَّجَرَ في غابته مع إخوته، كي يساهم الشجرُ في تصفية جوف رئة الإنسانِ بالأوكسجينِ، فهو يسلب نفسه لذة الأوكسجينِ… كنت واقفا أمام “رِيدُو” المتجر الذي وُلدَ من رحم المتجر الذي أُمُّهُ، منزلُ أسرتنا الذي بيع لأسرةٍ صديقةٍ “عائلة الخْرّازْ”، بعد أن سَلِمَ من يد الأستاذ الراضي صاحبه وابن بلدته “أيت واودانوست”، منزله مقابل لمنزلنا الذي بيع بعد عراك دام أكثر من سنتين مع “باطرون” منزل أسرتنا… وقفنا جميعا، أمي حليمة، أمي حبيبة وإخوتي جميعهم بما فيهم أنا المتكلم المتعلم والكبير، كي لا تُشترى دارُنا من طرف بَياع وشراي… بخيل عن أهله يتقشف بعد عصر كل يوم أحد وهو “يوم السوق الأسبوعي” بدمنات…
    يمتلئ السوق بأهل الضفتين والعدوتين، منهم الأصدقاء والأعداء والسُّراقُ والمتسولون ليلا ونهارا، على عينيك يا ابن أمي … كما المَرّاقينَ كل صباح السوق الأسبوعي، بسفنجة وكأس شاي مع سردين مشوي أو مقلي يا “قَلَ…وَاتِ” الذين قَلَوْا البيضَ المسلوقَ بدارجةِ رجالِ الزَّنْقَةِ الْمُزَنْدَقَة بِالتّْزْنْدِيقِ… ناهيك عن فوضى البياعين والشرايين في أعراض الناس ومصير الغرباء في أسوق النخاسة ولغو الكلام… وَوَّاوْ… أو… أو… أو… “أنا عفريت، أنا نفريت”، أو… أو… أو… لقد درّسوها لنا هي و “هل عندكم طفل قد بلغ سن المدرسة؟”… و … و … “الله يرانا”… هو يرانا نحن، ولا يراهم هم… هم ومن لا يعرفهم، هم أهل الشكارة الكبيرة والمملوءة بدراهم يقال عنها أنها ولدت من رحم الحرام المدسوس تحت الخمار الأسود…
    كنا مجتمعين ككل مساءات أيام وبعد خروج كل منا من سجنه كالمعتاد، أبناء حينا نحترم بعضنا البعض… أبناء مدينتي ونواحيها نحترم بعضنا البعض… سمعت صوت معلمي الجليل قبل أن أرى هيأته مصحوبا، أو فلأقل يتبعه بعض من تلاميذه من أبناء الحي… ناداني سيدي ومعلمي…
    معلمي: بلبصير.
    بلبصير: نعماس.
    ركض الطفل وَهَمَّ بصعوده لهضبة تحد “الشَّانْطِي” عن سور منزله، وبحكم فقدان بلبصير لبصره انزلق من عنقها قرب رأسها إلى الأرض…
    الأستاذ: بْشْوِيّا عْلِيكْ أوليدي.
    لم يُبَشْوِيّ البصير، نهض وضربها بِجَرْيَة وأصبح قرب الأستاذ المبجل.
    الأستاذ: بَجْرْدَة.
    بَجْرْدَة: حاضر سيدي.
    الأستاذ: أحضر لي، يا بني، سبع قضبان “سَفَرْرْجَل” أو “زيتون”… اختر القضبان الرقيقة الخضراء. هل سمعتني جيدا؟
    محمد: نَعَمْ سيدي.
    الأستاذ: أنت فلاح ابن فلاح وتفهم جيدا ما أقصده.
    محمد: نَعَمْ سيدي.
    وجه الأستاذ أمره لتلميذه “محمد بَجْرْدَة”… هذا الأخير انسحب… ثم… أدخلني… ومن بعدي صديقي، زميلي، جاري وحبيبي “محمد هْرْبُوزْ”… انتظرنا وإذا ب “محمد بَجْرْدَة” ابن الحلال، يرجع وبيديه ما طلبه منه معلمه، كأن أشجار التين، الزيتون و”السَّفَرْجَلِ” نابتة وراء ظهره… أمر الأستاذ صديقي “محمد بَجْرْدَة” كي يُحمّلني على ظهره وذلك ما كان…
    بالمناسبة… أستاذنا فصيح اللسان في لغة أهل الجنة مثل رئيس تونس الفصيح في الكلام المعسول مع الحازقين… لما طلع الرئيس تَرَبَّعَ على أركانِ عرشِ تونسَ، فقام بإنزال المخالفين إلى أسفل سافلين وهم معذبون ويناضلون كي يوقفوا زمهريرا بدأ حملته الانتخابية الرئاسية مخاطبا الأميين بلغة القرآن كأنهم تعلموا لغة الجنة قبل الأوان…
    يحدثني الأستاذ، عفوا… عفوا بكرة وأصيلا… هو يؤنبني ويسلخني ظلما وعدوانا، يتوعدني إن أنا رافقت الأشرار بعد هذا النهار…
    هو: لماذا تقف مع من هم أكبر منك سنا؟
    وأنا نائم على ظهر صديقي محمد بن سالم “محمد بَجْرْدَة” أئِنُّ وَأُغَوِّتُ: أَيّْ، أَيّ.ْ.. عافاك نعماس، وّاوْ.. والله ما نعاود نعماس، وّاوْ، وّاوّاوْ… وّاوْوّاوْ… أَيّْ، أَيّْ، أَيّْ، أَيّْ… عافاك نعماس، وّاوْ.. والله ما نعاود نعماس، وّاوْ، وّاوّاوْ… وّاوْوّاوْ… أَيّْ، أَيّْ، أَيّْ، أَيّْ… أَيْوِي، كِدَا حْلَوِّتْ… طَعْمَهَا لَذِيذْ أَوِي أَوِي… وَاهْيَا وِينْ وِينْ…
    لقد “هَرَّسَ” الفقيه أكثر من سبع عصي على ظهري وأنا فوق ظهر زميلي…
    آكل الضرب في القسم وفي ݣراج منزله ظلما وعدوانا، مثل باقي زملائي التلاميذ، ثم “يُعَيِّطُ” عَلَي لكي “أَخْدِمَ” له مع أبناءه وأبناء أخويه، مع احترامي وتقديري لكل من زميلاي، صديقاي وجاراي سعيد ومصطفى وكذلك لجاري وصديقي نور الدين أخٌ أصغرٌ من صديقي مصطفى وكذلك أحيي كل أخواتهم وإخوانهم والجيران الباقون منهم الآن هناك أو بعيدا عن هناك… لم ولست مغفلا كي أعتقد أن الزمان بألوانه القزحية هو ملكي وحدي، جنة كانت أم جحيما… نحن في الهم سوى يا أهل وطني، كما هو حال بعض سكان بعضٍ من أقطارٍ قُصَّتْ من جُغرافياتٍ بقرارٍ المُنتصرينَ… بعضهم دفاعا عن مصالحهم قبل الوطن، وبعضهم لمصالحَ غير مصالحِ أهلِ وساكنةِ رقعةٍ غُلبتْ في معركةٍ لم يكن في عِلمها مُسبقا أن القادمَ لأرضها وحُرمةِ أهلها منتهكٌ…
    6
    تعلن إدارة مؤسسة دار الطالب، أن المندوب الجهوي للتعاون الوطني سيقدم إلى المؤسسة… سوف يسلم مساعدة لخمسين طالبا، قدرها خمسون درهما لكل واحد… قاموا بتسجيل اسم خمسين فردا من المعوزين… يحضر المندوب ويقام له حفل استقبال ضخم يحضره الجميع… ميزانية مصاريفه ومصاريفهم على ضهر “الحازقين” يا حبيبتي ويا حبيبي…
    يسلم مدير دار الطالب، بحضور رئيس الجمعية الخيرية لآباء وأولياء دار الطالب ورقة من فئة 50 درهما لكل واحد من الطلبة المسجلين في اللائحة…
    الاسم المتداول بين أهل دمنات، سواء منهم من يقطنون بمركز المدينة أو نواحيها، هو “الخيرية”…
    النحر، بعد مغادرة المندوب للمؤسسة بيوم، يطلب مدير المؤسسة مصحوبا بالطاقم الإداري للمؤسسة، من الطلبة إرجاع النقود للإدارة… بعضهم أرجع المبلغ للإدارة، أما الأغلبية فرفضت إرجاع المبلغ ما دام قد سُلّم رسميا… يجمع “بَلُوك” وهو رجل سلطة من درجة قائد ممتاز، الطلبة الرافضين لإرجاع المبلغ للإدارة أمام البلدية بالشارع العام… أشبعنا القائد الممتاز سبّا وشتما أمام الملأ… وصفنا باللصوص والخونة… كان قراره ونحن مصطفون مع الحائط والدرج/السلم، درج البلدية المحاذي للحائط المتكئ… هل هو ملك للخواص؟ لا أدري… هو لا يدري… وكيف لي أنا وحالي يشبه حالُه حالَ حالِ كل من ضحايا النصب والاحتيال… منهم الممثل الرسمي للدولة على البلدة والحامي لحمى الملة والدين والله والوطن… منهم الفقيه، حافظ للقرآن، يصلي بالناس ويشرح لهم المعاني السامية لعقيدة الإسلام… منهم الأرستقراطي، الحاج، سلطة الدولة والشعب معا، إن “فرطط” صاحب النياشين معه، سوف يبلغ به بلاغا مبلغا، للعلم… هو بلاغي أصلا وفصلا مفصلا… إضافة بسيطة للحالمين، من ذوي السيئات الحسنة أمثالي وأمثال الواقفين صَفا صفا، رغم أن أطولنا ونحن أطفال صغار لا يمكن لأي منا أن يقيس طوله مقارنا نفسه بشرة صفصاف مما يوجد بحي إغير… قد أجانب الصواب إن أنا غامرت وقلت بأن تسمية الجزء من حي إغير والمحاذي لوادي “مهاصر”، سُمي “تِݣديت” . أما “إغير-ترسال”، الجهة التي تحوي منبعا مائيا صافيا زلالا يسمى “لْعِينْ”، اسمها آت من وجود أشجار شامخة تسمى “الصفصاف”، لأن شجر الصفصاف قوي ومتين يصلح أعمدة للخيام وكذلك أعمدة لبناء مساكن الناس… “تِرْسْلْت” بالأمازيغية هي “عماد” وبالفرنسية “پِيلْيِي” Pilier… أترك لأهل الاختصاص فرصة لتنويرنا نحن الغرباء…
    لقد أصبح المحل الما بعد جدار الدرج الذي كان متكئا لنا أثناء إصدار القائد الممتاز لقراره بطردنا من المؤسسة…
    كان الجدار هو المساند الوحيد لنا من وراء أظهرنا، من غير أن يقهر نفسه أو يفرح نفسه كي يرانا ونحن نتبهدل أمام الملإ، ليس هو مثل الناس المتجمهرين و”المبحصصين” والخائفين والمتقين، بدون تضييح الحبر عن أولئك الذين “يَبزِقون” في إحدى يديهم ويحركونها حتى يأتي رأسهم، ما دام رأسهم خاوي الوفاض، “فليُكفتوا” أو “يُصَبعوا”، لا يهم، ما داموا يتفرجون على الويل الذي بسبب أولياء حال الأحوال تم نعتنا بأقبح الأوصاف، رغم أننا جميعا تلاميذ نجباء أحرار… لا لوم عمن رد الوزيعة… لكن البقرة بعد النحر، بعد السلخ، بعد القطع إرْبا إرَبا… بعد التفريق، كالخبز، “الكرموص” و”تِييْنِي” بالمقبرة عند التخلص من جثة المدفون في جوف أمه الأرض عند البدء في بداية الاعتماد على الزمن، زمننا الذي به نقيس لحظات فرحنا وألمنا… لحظات يتيه فيها العقل… تمر الأيام، أيام ذات الفرد، كما هي عاصفة على القبيلة التي ولى زمنها، إلا أن البعض منا لا يزال مخدرا ببخار بركان الأجداد…
    7
    نصعد مع النهر.. أخوان صغيران صديقان… علاقة للجميع مبهرة وللعائلة مفخرة… والنساء تحكين أن الوالدة لحجابهما من عند الفقيه معلقة… تملأ الخضرة ضفاف النهر… نصل المنبع، بعده كانت منابع… ماء زلال يصلح شرابا لكل أصناف الدواب ومنعشا لكل أنواع الحشائش والزهور… تفوح رائحة الريحان… نقضي طفولتنا بين الجنان والوادي، ولم ننس الموعد مع الحرف أبدا… شلالان للمكان، روعة في فضاءات القنطرة الطبيعية «إِمِي نْ إِفْرِي» تحتها يعيش الحمام… نسبح في السد… نلتقي في صباحات مضت، معك يا يزيد، أنت الصديق… سد صغير يُملأ بالماء بعد ان ينقسم… جزء للمدينة وقرية «أيت ؤُمغار» وما يلتقيه الماء في طريقه من جنان… وجزء لقريتي “بوحلو” و”بوغرارت” والنواحي…
    يسقي النهر الجنان قبل أن يأتي “الكولونيل” متقاعدا قبل الأوان… يُحكى أنه كان مشاركا بالعلم لا بالفعل في عملية انقلاب ضد السلطان… بالفشل منيت، وأغلب المشاركين فيها مصيرهم كان الإعدام… جُرد صاحبنا من مهمته، ولنياشينه وجبروته ولحنكته محافظ… كان رجلا ما أحلاه رجل، لو لم يكن للناس عن الماء لأرضهم عازل. هو والظمأ عدوان، وللمحكمة حد للناس ليس لهم عليها سلطان. للحي بسيارته السوداء قادم، يبحث أثناء إحدى العطل المدرسية عن شباب لأرضه يفلح. نحن شباب متعلم، في الفلاحة لا نفقه. لا بأس قال الكولونيل. نحن لبعضنا، وأنا لكم مؤنس وصديقٌ معلم. كانت أياما للفلاحة نقتل، وليال للسمر… يأتيك بالخضرة واللحم. و”الڭميلة” (الطنجرة) هي للعساكر مسجلة. نطهو، نلهو… عن كل برعومة نزيل الطفيليات، وكما يَعلم الكولونيل، نحن في الفلاحة لا نفقه. نضرب الجذور أحيانا عن غير قصد، والبرعومة مصيرها الموت، وبالتراب نحن لها مرقعون. يحكي لنا وبيننا عن الحياة، ولسانه بالحِكَم ينطق. ضاع فيه الوطن كما ضاع الوطن… جمعنا أمتعتنا وهجرنا المكان لأن العيد قادم. جاءت المدرسة عيدا… والسفر لمكانها، تجمهر، انتظار لحافلات لن تجد فيها المكان دون عراك مع واحد، كل منا معروف. هاته لصاحبي… خذ تلك لصديقك أو صديقتك. وهاته لن يجلس فيها أحد، هي لحبيبة العمر راهن… يعم المكانَ الضبابُ يوما ونحن ننتظر… سحابة وهي ليست بسحابة، تشبه السحابة. هي أرضية، آتية من بعيد، كأنه انفجر بركان. تسيل الدموع، يختنق الفضاء. جاء الليل قبل الأوان. هي سحابة كغول في إحدى قصاصات الأطفال. ينقشع الضوء شيئا فشيئا، تمر العاصفة، يسلم الكل. تنطلق الحافلة والناس على المقاعد «تتراڭع» (تتشاجر)، والاستقرار بعد السحابة يعود. يسوق السائق. يتهامس البعض. يغرق البعض في البعض. ينشد البعض «زيد، زيد يا شيفور، زيد شوية فالمطور»، وتمر الذكريات… تصل الحافلة إلى ساحة «جامع لفنى». عيد دائم أنت هنا يا عيد… فضاء شاسع للغناء، للطرب، للهو، للنكت، لقصص غابر الأزمان تندهش. حلقة، حلقة وحلقة بها الساحة تمتلئ… رجل كفيف بلحيته البيضاء، ليس للحمام مثله أنيس. يحكي للحمامة، للناس، والحمائم تزهو، تترنح، تصعد فوق الكتف الأيسر واحدة وعلى الأيمن واحدة أو اثنتين. والأميرة على رأسه تطير… يحكي عن حمامته… يهديها من الأسماء اسم ليس لغيرها واحد. سلطانة في الفضاء تحلق، بقصص أهل غابر الأزمان تجيء. يسيل اللسان… تطول الحكاية… عن حلقة أخرى أنت باحث… وعن رجل كصومعة الكتبية واقف. يجمع الناس، يُضحك، يحكي عن الزمان… هذا الزمان… فهو من قالت الحكاية، أنه ذهب يوما إلى أڭادير عاصمة سوس… قال القائل: أن الرجل لحمار بين يديه فوق رأسه رافع، بعد أن لم يسمع أحد عن هذا الجبل للحلقة ممتهن. تجمع الناس، وضع الحمار، انطلق الحمار… وكانت الحكاية، عن الزمن، وكانت الحكايات… أصبح مشهورا في الساحة بصاحب الحمار. والناس لشخصه وعذوبة لسانه، اسم آخر بالساحة تلقبه. إنه «الصاروخ» والناس بجواره في كل المواعيد. يتبدل الناس، تتبدل الأحوال… بجواره حلقة مع «بقشيش» منها يأتي الضحك. يترك البعض الرجل، يتجه البعض صوب «بقشيش» الملقب بطبيب الحشرات، والآخرون يتجمهرون حول أصحاب القردة أو أهل الأفاعي بمزاميرهم وهم مع «مسيو» للدرهم مصورون. صورة للإعلان… درهم للاستمرار… فالأطفال ينتظرون الخبز، الشاي، وصاحب البيت بالإفراغ مهدد… وبراعم سوس لتشكيلات هندسية رياضية، مسرحية هندستها متقنة… والمدرسة غائبة… هو الزمان فيه الناس على الخبز تنتحر، وفيه البعض وبعض البعض بالدرهم يفتخر… يترنح، يترنم، يزهو… والفنادق من نجموم خمس، ݡيلات وقصورا، حدائق مبهرة، جواري حسناء ما لهذا العمل خلقت. فليأت الطوفان… أنت يا وطني جنة سرقها الأشرار. يا أيها المركب تحرك، ففي الحركة بركة، قصدي حركة نظيفة تصغي لآهات الكادحين فيك يا وطني، تقاوم الأيادي الظالمة… أحبك يا وطني، وما يجدي الحب إن كانت كرامة الإنسان فيك يا وطني تهان… حماقات، وما الحمق إلا حبك يا وطني… إلا أنت يا وطني… عزيز أنت يا وطني…
    8
    أمي حليمة ما أحلاك… تنتظرين… تترقبين كل قادم… حين يحضر الواحد منا، يغيب الآخر… فأنا دائم الغياب والحضور… الكل ينتظر المنقذ… موظف صغير يحارب الجهل… يحارب الفقر… يحارب الظلم… يحارب نفسه، عقله، جسده… وتمر الأيام… لابد للأيام أن تأخذ مجراها مادامت الكواكب بدورانها تحافظ على استمرار الحياة…
    8
    أرسلتني أمي إلى السوق كي أشتري لها ولباقي أفراد أسرتنا، لحما أو مطيشة، لا يهم.. الواقع الموضوعي حالة ذاكرتي التي لا تقو على تذكر مآلي عند تنفيذي لمهمة إنسانية يقوم الابن الأكبر، كما هو دائما يقوم بمهام أكثر من حجم مداد القلم المنتصب لذاك المغتصب…
    يُتبع، مستقبلا، كل يوم إثنين من كل أسبوع، إذا استطعت إلى ذلك سبيلا…
    لَيَالٍ بَارِدَة.
    عزيز أيت البصير، لبصير، بلبصير، تعددت الأسماء والجسم واحد…
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube