احمد رباصمستجدات

نيتشه ينظر إلى الجسد كسيد على الروح (الجزء الثاني)

أحمد رباص – حرة بريس

وبينما كنت في منتصف النهار أتصفح فضاء الفيسبوك، وقع نظري على نص مصوغ بأسلوب جميل من قبل صديقي المعانيد الشرقي ناجي، أحد نشطاء التنوير في بلادنا المنضوين تحت لواء جمعية أصدقاء الفلسفة.
في الحقيقة، ما الفت انتباهي لهذا النص ليس فقط جمال الأسلوب الذي كتب به، وإنما كذلك الأهمية التي يكتسيها الموضوع الذي يتحدث عنه النص: الجسد في فلسفة نيتشه.
من الصيغة التي جاء بها العنوان، أدركت أن صديقي الشرقي المعانيد يريد تناول هذا الموضوع ضمن سلسلة من المقالات، من خلال ترتيب نصه كجزء اول، وهذا ما لم أهمله وأنا بصدد إعداده للنشر على صفحات حرة بريس.
وهل كان لا بد من أن أقف عند هدا الحد واكتفي بنشر الجزء الأول من سلسلة مقالات الشرقي المعانيد حول مفهوم الجسد عند فيلسوف كبير كنيتشه، وأتركه بالتالي يكتب الأجزاء الأخرى تباعا؟ لكن انطلاقا من الصفة الملازمة والمرادة لمنبرنا الصحفي والإعلامي والمشتقة من الحرية التي تعني المبادرة والاختلاف والحوار..إلخ، فقد تراءى لي فضل الدخول مع صديقي في حوار فلسفي حول نفس الموضوع من خلال الشروع في نشر سلسلة موازية، تروم إغناء النقاش وضمان تعددية في الرؤية وكيفية المقاربة..

يقول نيتشه: “الحواس لا تكذب إطلاقا. هذا ما نفعل بشهادتها التي تقحم فيها الكذب، كذبة الوحدة، كذبة الموضوعية، الجوهر، الديمومة… إنما “العقل” هو سبب تزوير شهادة الحواس. طالما أن الحواس تدل على الصيرورة، على اللاثبات، على التغير، فهي لا تكذب… ” (أفول الأصنام)،
[Crépuscule des idoles, “La “raison” dans la philosophie”, §2 (in OPC, VIII, trad.J-C. Hémery, Paris,
Gallimard, 1974]
إن حواسنا، التي تسمح لنا بأن تكون لنا مقاربة أولى للواقع، تخونها أرواحنا: “إن”العقل”هو سبب تزوير شهادة الحواس”.
هكذا يكون الحكم المسبق، الذي يصف الروح بأنها أكثر واقعية من الجسد لثباتها وطبيعتها الأبدية، باطلا. الجسد واقعي بخلاف الروح، لأنه من خلال التعرض للتحول وعدم الانتظام يكون أقرب إلى الواقع، الذي هو نفسه عرضة للتحول وعدم الانتظام.
الوجود هو الجسد والروح مجرد جزء من الجسد. لتفسير هذه القضية التي طرحها نيتشه، يعاد ما قيل للتو من أن نيتشه يشكك بشكل أساسي في الافتراض القائل بأن الروح أسمى من الجسد. بالفعل، من خلال الاعتماد في الغالب على الحكم المسبق القاضي بأن الروح أكثر واقعية من الجسد، نقيم بعد ذلك تراتبية بين هذين الجزأين من الوجود. بدافع الجهل، أعلنت الحشود والفلاسفة الأفلاطونيون والمسيحيون على حد سواء، تفوق الروح على الجسد. نيتشه لا يكتفي فقط بانتقاد هذا التراتبية بين الروح والجسد، بل يذهب أبعد من ذلك، ويتساءل عن هذه الثنائية في الوجود المشكلة من الروح والجسد.
بالنسبة لنيتشه، الروح ليست سوى جزء من الجسد باختصار شديد، الوجود ليس سوى جسد. يؤكد زرادشت، الشاعر والنبي والشخصية الرمزية في كتاب نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، على انتماء الروح إلى الجسد في هذا المقتطف:
“أنا الجسد كامل بالكل، ولا شيء غيري، والروح ليست سوى كلمة لتعين شيئا ما في الجسد.”
[Ainsi parlait Zarathoustra, “Des contempteurs du corps” (in OPC, VI, trad. M. de Gandillac, Paris, Gallimard, 1971]
لماذا لا يتكون الوجود سوى من الجسد وحده؟ كيف نفسر كون كل هذه الأشياء مثل “العقل”، الوعي، الروح، الفكر ، الذكاء،.. إلخ، والتي عادة ما تصنف ضمن فئة “الروح” تنتمي بالتالي إلى الجسد؟ الجواب الذي يعطينا إياه نيتشه هو التالي: بما أن الإنسان يتكون فقط من الغرائز والإرادات – اللاواعية في الأغلب الأعم – فكل هذه الظواهر التي نسميها “العقل، الروح، الوعي، إلخ..” هي فقط مظاهر من الجسد.
الجسد، باعتباره مجرد رغبة، دوافع، غرائز، إرادات غير واعية، يقود ويوجه كل أفكارنا التي ليست سوى نتاج دوافع عضوية. لا توجد روح مستقلة عن الجسد؛ لأن أفكارنا كلها ليست سوى نتاج غرائزنا، سوى خدم غرائزنا.
والحال أن كياننا يتكون فقط من الغرائز، وإذا لم تكن هناك روح، أو عقول، إلخ..، فلا وجود سوى للجسد. الجسد غريزة، الغرائز توجه، سواء كانت واعية أم لا، فكرنا، أفكارنا، التحليل الذي نقوم به للواقع. (اخترنا مثال عقلنة العالم: لقد كانت غريزة الأمن هي التي حفزت هذا السلوك، هكذا يكون الجسد هو ما قرر عقلنة العالم.) لذلك، يتابع زرادشت:
“وراء أفكارك ومشاعرك ، يا أخي ، يقف سيد جبار، دليل طريق مجهول – يسمي نفسه. يعيش في جسدك، هو جسدك”. (نفس المصدر).
(يتبع)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube