شخصياتمستجدات

محمد المباركي “مع غرامشي (16) الدولة والمجتمع المدني والمجتمع السياسي(1)”

مع غرامشي (16)

الدولة والمجتمع المدني والمجتمع السياسي(1)

محمد المباركي

تمهيد

هناك ترابط وتداخل وتفاعل نظريا وميدانيا بين الدولة والمجتمع المدني والمجتمع السياسي، كمفاهيم وأدوات للفعل في حركية المجتمع. دينامية هذا الترابط والتداخل والتفاعل تختلف حسب تطور العلاقات الاجتماعية والثقافية، في كل من المجتمع البدائي أو القبلي الإقطاعي أو المجتمع البرجوازي الليبيرالي. في كل مجتمع يحظى هذا العامل أو ذاك بمكانة الصدارة. وهذا ما سنحاور الالمام به بعجالة.

دور الدولة في المجتمع

أ – الدولة الحديثة

حسب المفهوم الاشتراكي الكلاسيكي كما جاء به ماركس وأنجلز، الدولة أداة قمعية بواسطة الجيش البوليس القانون. تستعملها الطبقة البرجوازية لفرض سلطتها / ديكتاتوريتها على مجموع الطبقات الأخرى. المنطلق الرئيسي لهذا التصور يجد أسسه في العلاقات الاقتصادية وعلاقة الإنتاج الرأسمالي الذي يفرض علاقة اجتماعية مبنية على استغلال الشغيلة في المعامل والمصانع والمزارع الكبيرة. هذا بعد قيام الثورة الصناعية التي تزعمتها البرجوازية، حيث نتج عنها نظام رأسمالي طبقي. ولقد ظلت هذه الصورة النمطية سائرة المفعول وملتصقة بالمفهوم الماركسي / الاشتراكي الكلاسيكي الى يومنا هذا. خاصة لما رسّمتها المنظورات الستالينية للدولة.

نظرة ماركس وخاصة أنجلز، الذي اهتم أكثر الدولة عبر التطور التاريخي للمجتمعات. محاولا في بحثه هذا تطبيق المادية التاريخية مع درّ نفحة من الطوباوية التي كانت رائجة بين مفكري وفلاسفة عصر الأنوار والقرن التاسع عشر. هذه النفحة الطوباوية التي مفادها التشبث بالحرية الطبيعية لدى الانسان عوض الحرية القانونية التي هي لصالح البعض القليل للتحكم في الأغلبية.

كيف فسرت الاشتراكية الكلاسيكية هذا المنظور؟

قبل الاجتماع البشري والتمدن، كان الانسان البدائي يعيش حسب الضرورات الأساسية التي تمكنه من الحياة بحرية تامة. ينتقل حيث يشاء ويصطاد ما يشاء ويقطف ما اشتهاه. ومنه القول “الانسان حر بطبعه”. أي أنه كان يعيش حرا بين أحضان الطبيعة واستلاب حريته بدأ بالضبط مع بداية الاجتماع / الاستقرار البشري في محيط معين تشكلت معه مجتمعات صغيرة أو كبيرة عند تكاثر البشر وتطور وسائل الإنتاج من فلاحة وتدجين الحيوان فالتجارة والصناعة… لما حصل العيش في محيط معين، لزم الدفاع عنه للعيش داخلة بأمان. الأمر الذي أدى الى تنازل الأغلبية عن حريتهم الطبيعية التي فطروا عليها لمن سيمثل ضمان الحرية الجماعية عند طريق تضلعه بسلطة معنوية ومادية. فنتج عبر سيرورة طويلة من تطور الاستقرار والتمدن، أشكال معينة بين الحاكم والمحكوم التي تتفاوت وتنوعت حسب أشكال عديدة للسلطة. من رئيس المجموعة أو القبيلة الى ملك يتحكم في شعب أو أمة. أو إمبراطور يسود عدة شعوب وأمم. إذا كان العامل الاقتصادي لعب دورا أساسيا في تطور المجتمعات ومعه نوع الدولة القائمة في منظور الاشتراكية الكلاسيكية، فان العامل الثقافي ظل الاسمنت المباشر أو غير المباشر لتطور نوع الدولة. ماذا نعني بالعامل الثقافي في هذا الباب الخاص بنوعية الدولة؟ هو مجمع المعتقدات التي فطر عليها الانسان منذ أن بدأت تتكوّن عنده منظومة أفكار. أو كما أشار لذلك ادغار مران في كتابه المهم ” البردغم / المنظومة المفقودة”، الذي عالج فيه التطور الأنثروبولوجي لدى الانسان والصدمة التي حصلت له لما فطن أنه هو الآخر سائر للفناء. منظومة وعي الانسان أنه سائر للفناء كباقي الحيوانات. هذا الوعي بأنه سيموت، أحدث له صدمة وجودية لا زال يعاني منها ليومنا هذا. فدخله الحزن والغم والألم عكس باقي الحيوات الغير البشرية التي لا تعني معنى الفناء ولذا تعيش عيشة الدواب الغير العاقلة. لمواجهة هذه الصدمة المرعبة لوجوده المادي، أخذ الانسان البشري البدائي يبتكر أساطير وخرافات يقي بها نفسه من مصيبة الموت المحدق به، ومنه جاء ابتكار مفهوم الروح الأبدية. التي حسب الثقافات تأخذ أخدت شكل التناسخ اما في الحاضر الدهري أو الوجود الغيبي. فإما يحدث التناسخ في جسد آخر، أو في حيوان أو شجرة أو حجرة أو غير ذلك من معابد وأماكن تجسد الروح المقدسة التي لا تموت. أو أنها ستبعث في عالم آخر أبدي.

ان مساهمات العالمة الكبيرة ملاني كلاين في فهم دور الأساطير منذ نشأتها عند الانسان البدائي ودورها الرئيسي في تطور الثقافات البشرية ليومنا هذا، مرجع ذا دلالة هامة لفهم الموضوع المتداول بخصوص الأساطير ودورها. ذلك أن الالمام بدور الأساطير في تكوين العقل البشري أمر لا مناص عنه لفهم المعتقدات وضعية كانت أم غيبية سماوية والثقافات الناتجة عنها.

الأساطير هي توءمة الفلسفة. لذي نرى الفكر المستبد والمتزمت يستعمل الأساطير لتثبيت معتقداته، لكنه يحارب الفلسفة التي تبرهن عبر التحليل العقلي أن المعتقدات ما هي الا الوجه الآخر للأساطير والخرافات الوهمية، لأنها تستعمل الغيبي / المثالي لمواجهة الواقع المعاش. لقد تعايش أغلبية الفلاسفة في العصور الوسطى مع المعتقدات وان أوصلتهم تحاليلهم الفكرية العقلية الى محدودية المعتقدات وعدم نسقها الفكري العقلاني. لكن أمام هيمنة المعتقد اللاهوتي كأيديولوجية الدول وشيوعه داخل المجتمع، تعاملوا معها، أي المعتقدات الغيبية، لحد أقحموا أفكارهم الفلسفية في الدائرة المغلقة للإيديولوجية الغيبة المهيمنة. ومنه تم تحنيط وتحيط مفعول أفكارهم وبالتالي دورهم التنويري لعقول الناس، كما حصل في المجتمعات الحضارية المبنية على الاستبداد. هنا تكمن أهمية مفكري وفلاسفة عصر الأنوار بأوروبا الذين كسروا جليد العلاقة بين الأساطير والمعتقدات الدينية. حيث جعلوا من الأول أي الأساطير عقائد بدائية قبل أن يستعملها الحاكمون كوسيلة للسيطرة واثبات حكمهم عبر الدولة كأداة لقمع الحريات ومنها حرية الاعتقاد. عند مقاومتهم للعقيدة اللاهوتية للكنيسة وسلطتها التي تقدس الحاكمين وأن هناك جنات النعيم حيث الخلود يبيع صكوكها الرهبان استطاع مفكري وفلاسفة عصر الأنوار تنوير عقول الناس واخراجهم من ظلمات الجهل الى نور المعرفة. كما قال مفكري وفلاسفة عصر الأنوار أن الجنة هي الحياة الدهرية بالرجوع الى الحرية الطبيعية التي فطر عليها الانسان ونزعت منه باسم القانونية الضامن لأمانه و الذي هو في الحقيقة سلاسل تكبل حريته. الحرية التي تتحكم فيها القوانين ماهي في الحقيقة الاّ استلاب وتدجين الانسان ليقبل بعبوديته عن طواعية. وان رفض مآله القمع باسم لقانون. من هذا المنظور للحرية الطبيعية والغير المقيدة عند الانسان، التي كانت شائعة بين مفكري عصر الأنوار، ظهرت التوجهات الشيوعية التي ناوأت العقد الاجتماعي لجون جاك روسو، وهذا قبل وعند قيام الثورة الفرنسية عام 1789 وبعدها كما فصلنا ذلك في فصل سابق.  لم يكن هذا المنظور للشيوعية البدائية واضح المعالم، بل كان يطرح بشكل طوباوي أساسه معادة الدولة، أية دولة. وأن هذا المنظور الطوباوي الداعي الى تلاشي الدولة كان شائعا بين الأوساط الثورية والتقدمية في القرن التاسع عشر. ولقد أثر، بهذا الشكل أو ذاك، في مفاهيم ونظريات الاشتراكية الكلاسيكية لحد امتزج مفهوم الماركسية بمفهوم الشيوعية ولم تعد هناك إمكانية التفريق بينهما. في خضم الصراع الصدامي بين المعتقد اللاهوتي للكنيسة وفكر الأنوار وبعده الفكر الشيوعي خلال القرن التاسع عشر يلزم فهم مقولة ” الدين عفيون الشعوب”. ما كان معناه عندهم، أن المعتقدات الغيبية تسلب من الانسان قدرته على التفكير الحر والعقلاني. لتجاوز الصراع التناحري بين الكنيسة، كمؤسسة تضمن هيمنة ثقافة الدولة الاقطاعية من جهة، وثقافة الدولة الحديثة من جهة أخرى، جاء مفهوم العلمانية ليحد مجال الاعتقاد الفردي ومجال الحيز الاجتماعي.

ماهي خلاصة ما جاء أعلاه؟

أولا – الثورة الثقافية سبقت الثورة الصناعية. ذلك لولا تحرر العقول من هيمنة الثقافة الاقطاعية وركيزتها الأيدولوجية اللاهوتية خلال عصر الأنوار، ما قامت الثورات التحررية.

ثانيا – عوض نمط الإنتاج الاقطاعي ودولته الاقطاعية الاستبدادية، قام نمط انتاج رأسمالي ودولته البرجوازية ذات سياسة ليبرالية.

ثالتا – الفرق بين أشكال الحكم في كل من الدولة الاستبدادية الاقطاعية والدولة الرأسمالية الليبيرالية، أن الأولى لا تقبل بحرية الرأي والثانية تقبل بها.  لكن الطبقة البرجوازية المستفيدة من فائض قيمة الإنتاج في الدولة الرأسمالية، تستعمل الدولة عبر هيمنة ثقافتها للبقاء والسيطرة على الحكم. تتم سيطرة البرجوازية في المجتمع الليبيرالي بشكل سلمي عبر الديمقراطية التمثيلية التي تفرز مؤسسات تشريعية وتنفيذية. تسن الأولى / البرلمان القوانين، التي تطبقها المؤسسة التنفيذية. هكذا تظل الطبقة الرأسمالية في السلطة عبر المؤسسات الضامنة للاستمرارية خارج دوامة العنف.

رابعا – قاومت الاشتراكية الكلاسيكية الرأسمالية ودولتها الليبيرالية كونها تستفيد من فائض القيمة عبر استغلالها للعمال ومنه ضرورة القيام بثورة اجتماعية بقيادة البروليتارية لتحل سلطة الدولة الاشتراكية الضامنة للتوزيع العادل للإنتاج الصناعي والاقتصادي التجاري وكذا خيرات البلاد. ومنه القضاء على الفوارق الطبقية كمدخل للمجتمع الشيوعي الخالي من استغلال الانسان لأخيه الانسان الذي ستتلاشى فيه الدولة.

معطيات أساسية لفهم المحيط الفكري والاجتماعي والسياسي الذي كانت تدور فيه الاشتراكية الكلاسيكية. هذا المنظور وعى أنجلز في آخر حياته محدوديته حيث اعترف “أن المجتمع يخلق بعض الوظائف العامة التي لا يستطيع بذوونها أن يوجد، والبشر الذين ترتبط هذه الوظائف يشكلون فرعا جديدا من انقسام العمل في المجتمع. وهكذا تصبح لهم مصالح خاصة حتى من عهدوا لهم بالحكم، ويصبح لهم استقلالهم بالنسبة إليهم، ومن هنا تكون الدولة”*. هذه الفكرة سنجدها متطورة بشكل كبير عند ماركس فيبر الذي يعد مؤسس علم الاجتماع السياسي الحديث. عوض احكام العامل الاقتصادي كعامل أساسي في سير الدولة كما بنت عن ذلك الاشتراكية الكلاسيكية منظرها للصراع الطبقي ونوع السلطة الحاكمة، أدخل ماركس فيبر ومن لحق به دول العامل السياسي واستقلالية الدولة الحديثة، عبر بيروقراطية تدير مؤسسات الدولة المختلفة – تعليم، صحة، محاكم، محاكم، جيش، بوليس… هذه الإدارة المستقلة بذاتها لها دور أساسي وسلبي بخصوص التطور الديمقراطي للدولة لليبيرالية.

سنرجع لماركس فيبر ومقارنة طرحه مع ما جاء به غرامشي عند معالجة المجتمع المدني والمجتمع السياسي. يمكن القول بعجالة، أنه في الحين الذي ربط فيه غرامشي بين العوامل الثلاث، الدولة والمجتمع المدني والمجتمع السياسي، نرى الاشتراكية الكلاسيكية تؤكد على الجانب الاقتصادي الاجتماعي. أما ماركس فيبر ومعه مدرسة علم الاجتماع السياسي يعطي الأهمية أساسا للعامل السياسي.

في الحصة المقبلة نحاول تقييم وضعية الدولة في المغرب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube