صوت وصورة

ام كلثوم ..وكاظم الساهر

*: مصطفى الزِّيـــن

قبل سنة واحدة تقريبا ، تم تداول شريط فيديو ، فاجأ فيه المغني الفنان العراقي كاظم الساهر جمهوره بتقديم پروفة أغنيته الجديدة :”غيرتُ تاريخَ ميلادي”؛ كان ذلك أثناء إحيائه حفلا استثنائيا، أول أيام عيد الفطر ، على قناة مجمع أبو ظبي الثقافي على اليوتوب.. أغنية الساهر الجديدة جاءت بتعاونه مع شاعر سوداني شاب يدعى ياسر البيلي ، اتصل به كاظم، أثناء الحفل ، عبر الهاتف ،مقدما إياه للجمهور المتابع الذي تجاوز عدده خمسة ألاف شخص.. وقد حلا للبعض أن يعتبر هذا الحدث، وهذه الأغنية ، حدثا يشبه ما جرى منذ اثنتين وخمسين سنة، بين أم كلثوم وأحد شعراء السودان ، عندما زارت كوكب الشرق ، سنة 1968 ، السودان، بعد سنة واحدة من هزيمة العرب من إسرائيل 1967 . كانت أم كلثوم طلبت أن يقدم إليها أحد شعراء السودان قصيدة من شعره كي تغنيها تكريما للسودان وشعرائه وأهله..استوقفت أمَّ كلثوم إحدى القصائد التي قدمت إليها ، فطلبت صاحبها الذي كان شاعرا شبه مجهول، هو الهادي آدم، وكان عنوان القصيدة “الغد”. لكن تقديم الأغنية تأخر لثلاث سنوات حتى 1971، عندما غنت أم كلثوم تلك التحفة الفنية الرائعة الخالدة :”أغداً ألقاك”.. جاءت تلك الأغنية الرائعة من “شعر” السوداني الهادي آدم ،الذي لم يعد مجهولا أبدا، ومن موسيقا وتلحين مطرب الأجيال الفنان العملاق محمد عبد الوهاب، وطبعا ، من غناء “الست” أم كلثوم ؛ فاجتمعت روعة الكلمات بروعة الألحان والموسيقا وروعة الصوت والأداء..واحتاج محمد عبد الوهاب إلى عام كامل من العمل والاجتهاد، ومن مراجعة الشاعر وكلماته، حتى تخرج الأغنية تحفةً خالدة مدهشة..وصادف أن رحل، فجأة ، الزعيم جمال عبد الناصر، في أكتوبر1970، (علما أن عبد الناصر كان تخلى عن السودان التي كانت “تابعة” لمصر ، من قبل ،حتى آخر ملوك مصر فاروق كان يلقب ، سخريةً، ب”ملك مصر والسودان وسامية جمال” ، الفنانة الراقصة الكبيرة التي كانت تربطه بها علاقة غرامية)؛ فتأخر تقديم الأغنية سنة أخرى، أو بضعة أشهر .. فهل يصح أن نقارن بين إنجاز أم كلثوم و عبد الوهاب والهادي آدم ، وإنجاز كاظم وياسر البيلي ؟! أتصح المقارنة بين “أغداً ألقاك؟” و “غيرتُ تاريخ ميلادي”،لمجرد أن الشاعرين ،معا ، من السودان؟ لنقرأ، أولا، “قصيدة” أو كلمات أغنية كاظم/البيلي كما حاولت أن استخلصها من نص الخبر، ومن أخطائه ، ومن أداءِ كاظم وتلحيناته وترديده : تاريخ ميلادي تــاريخُ ميــلادي أنـــا غيَّرْتـهُ وعلى يديكِ يكونُ بدْءُ حياتي هذي قصائدي كيف أصوغها إن لم تكوني ،أنت ،كلمـــاتي كمْ كنْتُ أكفُرُ بالهوى وعذابِه حتـى رأيتُـكِ والتقيتُ بِـذاتي يا سَكْرَةَ الحٌبِّ التي أدمنْتُها قولي أحِبُّكَ ..تنتهي مأساتي [آهِ] عيْناكِ أمْنيَّتي وحلمُ طفولتي وجمالُ وَجْهِكِ دجلتي وفراتي كمْ تشْتهيكِ الروح يا مجنونتي فارضَيْ بِنارِي واحْضُني جَنَّاتي قُولي أحبكَ قولي أحبُّــكَ قولي أحبُّكَ..تنتهي مأسـاتي “قولي أحبكَ..قولي أحبكَ..” !..ألا يبدو هذا تكرارا واجترارا للازمة أغنية كاظمية سابقة معروفة محفوظة،منذ سنوات؟ تلك التي من كلمات الشاعر السوري الكبير نزار قباني(1923-1998)،وما أدراك ما نزار،مع الأغنية العربية( مع عبد الحليم حافظ، نجاة الصغيرة، محمد عبد الوهاب، فايزة أحمد، سعاد محمد،..الحبيب الإدريسي..وكاظم الساهر..)!: ‫قولي أحبك كي تزيـد وسامتي‬ ‫ فبغير حبك لا أكـون جمـــيلا ‬ ‫ قولي أحبك كي تصير وسامتي‬ ‫ ذهبا وتصبح جبهتي قنديـلا..‬ ‫ …………………………………‬ ‫ فكأن كاظم يريد إخراج طبعة ، أو نسخة، من تلك الأغنية النزارية ؛ طبعة -للأسف – ليست منقحة، ولا محسنة أو مزيدة، وإنما مزورة مقلدة، تبعا للذوق النمطي،أو المنمط، السائد منذ عشرين سنة ، أو يزيد، يقوم على الإسهال والاستسهال، كلمةً، ولحناً، وإيقاعا، وأداءً ..،بعيدا عن الإبداع ومقتضياته من الجدة ، والاصالة الذاتية، والإجتهاد والإدهاش.. .وقد كنا نظن أن الساهر من الاستثناء ،لا من قاعدة هذا التنميط والتسطيح والاستسهال..فها هو شاعر صغير مبتدئ من سودان الشعراء الأفذاذ ( كمحمد الفيتوري..وقبله رومانسيون كالتيجاني يوسف بشير ، صاحب ديوان “إشراقة”، الذي اتُّهم الشاعر الاپولولي المصري الكبير صاحب “الأطلال” إبراهيم ناجي بالسطو على بعض قصائده)؛ها هو شويعر “ذكي” يعرف كيف يصل إلى قلب وذوق وأسلوب كاظم، “فينْظم” على لسانه وعلى[ دجلتي وفراتي] في بلاد الرافدين، لا على نيله العظيم،بل نيليْه في السودان:النيل الأزرق ،والنيل الأبيض ! ‬ ‫ فهذا السوداني ناظم “كلام عام” ،أو عمومي، تحت الطلب، أكثر مما هو ، حقا ، شاعر ؛ والكلمات، بعدُ ،منظومة، على المنوال التقليدي ،على وحدة الوزن(بحرالكامل)، ووحدة البيت،ووحدة القافية،التائية المردوفة بالألف ، الموصولة يالياء،ياء المتكلم دوما ! لا كثافة فيها ولا موسيقا شعرية ، تتميز بها عن الكلام العادي وعن مجرد النظم، فوق فساد المعنى،كما في قوله،”سكرة الحب” التي تحيل على السعادة ، لا على المأساة : “تنتهي مأساتي”؟!‬ ‫ أين كلمات السوداني ياسر البيلي المتواضعة هذه، في أغنية كاظم الساهر، من قصيدة الشاعر السوداني الرومانسي الهادي آدم البديعة التي خلدها محمد عبد الوهاب وأم كلثوم؟ وهذا نصها:‬ أغدا ألقاك؟ أغداً ألقــاكَ يا خوف فــؤادي من غدِ يالَشوقي وإحتراقي فى إنتظار الموعدِ آه كم أخشى غدي هذا وأرجوه إقترابا كنت أستدنـــيه لكن هبــته لما أهابَـــا وأهلَّت فرحة القرب به حين استجابــا هكذا أحتمل العــمر نعـــيماً وعذابـــا مهجةً حرى وقلباً مسه الشــوق فـذابا أغداً ألقاك؟ أنتِ يا جنة حبي واشتيــاقي وجنــوني أنت يا قبلة روحي وانطلاقي وشجوني أغداً تشرق أضـواؤك فى ليل عيـــوني آه من فرحة أحلامي ومن خوف ظنوني كم أناديــك وفي لحنـي حنين ودعاءْ يا رجائي أنا كم عذبني طـول الرجـاءْ أنا لو لا أنتِ لم أحفل بمن راح وجاءْ أنا أحيا لغدِ الآن بأحـــــــلام اللقــــاءْ فأت أو لا تأتِ أو فافعل بقلبي ما تشاءْ أغداً ألقاك؟ هذه الدنيا كتــابٌ أنت فيه الفكَرُ هذه الدنيا ليــالٍ أنت فيها العُمُرُ هذه الدنيا عيونٌ أنت فيها البَصَرُ هذه الدنيا سمَـاءٌ أنت فيها القمرُ فإرحم القلب الذي يصبو إليكْ فغداً تملكه بين يديْكْ وغداً تأتلــق الجــنة أنهــــاراً وظــــلاّ وغداً ننسى فلا نأسى على ماضٍ تولّى وغداً نزهــو فلا نعــرف للغيب محـلاَّ وغداً للحـــاضر الــزاهر نحيا ليس إلا قد يكون الغيب حلواً .. إنما الحاضر أحلى أغداً ألقاك؟ أين تلك من هذه القصيدة الأثيثة الغناء التي تصدح في أرجائها الأريجة الأصوات والألحان والألوان، القوافي المنوعة تنويعا ،ما بين المطلقة والمقيدة،ما بين الدالية والبائية والنونية والهمزية والرائية والكافية واللامية..،؛أين منها قصيدة البيلي ،وأغنية كاظم؟ وهي، بعدُ ، وإن جاءت كلها على تفعيلة الرَّمَل(فاعلاتن)، إلا أنها اعتمدت طريقة تجديدية متميزة في الجَزْء والتشطير؛ إذ أن كل بيت من أبياتها يمكن اعتباره من مجزوء الرَّمَل: فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن ولكن الشاعر جعلها مُداخلةً أو مُدمجةً، مع الأضرب التي جاءت في الغالب (فاعلان)=محذوفة مذيَّلة: فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلان وانظر، بعدُ، إلى ثراء المعجم وسلاسته (هِبته لمَّا أهابا- أهلت فرحة- مهجة حرى-مسه الشوق فذابا-تأتلق الجنة،ننسى فلا نأسى…)؛ رِقَّة ُ عذاب وعذوبة، وتناغم وتآلف؛ أي موسيقا شعر، تستدعي وتستدرج التحلين و موسيقا الآلات ميلوديةً وسمفونية ،كما أبدع فيها العبقري محمد عبد الوهاب ساهرا ليالي طويلة،لأنه يلحن “للست” كما كان يسميها احتراما وتبجيلا، وهي التي ما صدق أن قبلت، بعد لأي، أن تغني له، حتى لسنة 1963، بدءً ب “أنت عمري”، فكروني ..ليلة حب، إنت الحب، دارت الأيام، هذه ليلتي..وأغدا ألقاك.. إلخ ؛ وهي عشر أغانٍ مشتركة بينهما ،لا غير . وحتى شباب الملحنين ، عندما كانت تقبل أن تغني لهم أم كلثوم، أنذاك، كانوا يجدون أنفسهم مضطرين إلى أن يُخرجوا أقصى ما يمكنهم من طاقات الإبداع ، كما هو حال بليغ حمدي الذي كان ، مع غيرها ، ربما ينام ملء جفونه عن شواردها، حتى إذا كان أمامها ، صح وصحصح وأجاد ، وكان في مستوى هذه القمة الكوكبية الشاهقة.. لا شك أن كثيرين، خصوصا من الأجيال السابقة، قد سمعوا وأنصتوا وترنموا مع أم كلثوم وأدائها، وألحان عبد الوهاب وإبداعه الكبير في موسيقا “أغدا ألقاك؟”، وظلت أصداؤها ترافقهم ،ولا تزال. ولا شك أن كاظم الساهر سيبدع في موسيقا وتوزيع أغنيته الجديدة، التي لم نسمعه ،في سهرته ، يؤدي منها سوى بروڤة على العود؛ أم أنه سيستنيم إلى النمطي الجاهز، فيجعلها نسخة أخرى، ربما ممسوخة ، من أغنيته النزارية ” قولي أحبك”، فيستسهل ويتسرع، خاضعا لمقولة (السوق عايزة كذا)،فقد ساءني أن أسمعه يردد في أغنيته هذه:..وجمالُ وجهَكِ..وجمالُ وجهَكِ..هكذا، بدل (جمالُ وجْهِكِ) بكسر الهاء على الإضافة، مما يجعل الأغنية تفقد وجهها ؛ فإن الخطأ اللغوي لا يقل بشاعة عن النغم الموسيقي النشاز أو “الفالصو”.

صفرو -29 ماي2021.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube