مقالات الرأي

كلمات* . .. فيما يشبه الشهادة *+ داء الفساد في الصحافة ونقابتها قديم*

+ والمشكل مشكل كل البلد : دولة الاستزلام*

أحمد ويحمان

×

يشبه عمود اليوم شهادةً من موقعَين اجتمعا في التجربة والمسؤولية:من موقع رئيس فدرالية الصحفيين المغاربة سابقاً، زمن بداية الصراع على استقلالية المهنة والبعد الأخلاقي داخل النقابة، ومن موقع الباحث في علم الاجتماع السياسي المنشغل منذ سنوات بدراسة الجذور البنيوية للفساد في المغرب.وشهادتي هذه لا تُقدَّم من باب السيرة الذاتية أو الاستعراض، بل من باب المقارنة الموضوعية بين ما جرى قبل ربع قرن من التخلص مني بالطرد والحرمان من صفة الصحافي المهني ومن تجديد البطاقة، وبين ما يُصادِفُه اليوم الزميل المهداوي… بما يثبت أن الآليات ذاتها لم تتغير، وأن الخلل ليس طارئاً ولا فردياً. فضيحة الفيديو الذي عرضه المهداوي لم تكن مجرد زلات لسان داخل اجتماع مغلق؛ بل كانت حدثاً كاشفاً أخرج إلى العلن ما ظل يتراكم داخل قطاع الصحافة منذ عقود. وما قيل داخل لجنة يُفترض أنها تحمي أخلاقيات المهنة لا يخصّ فضاء الصحافة وحده، بل يفتح الباب على نقاش أوسع حول “البيروقراطية” بالمعنى السوسيولوجي والڤيبيري، وآليات صنع القرار وتدبير الشأن العام في المغرب؛ حيث المشكل، كما كان دائماً، ليس مهنياً فحسب، بل هو جزء من بنية سياسية وإدارية مترابطة تنتج نفس الأعطاب. ولأن ما نراه اليوم ليس جديداً، أجد من المفيد استحضار تجربة خمسة وعشرين عاماً خَلت. حينها، وبعد أن وصلت التوترات داخل النقابة الوطنية للصحافة إلى طريق مسدود، لجأ الطرفان المعنيان — نحن كمجموعة صحافيات وصحافيين مناهضين للانحراف واللا أخلاق من جهة، وقيادة النقابة آنذاك من جهة ثانية — إلى لجنة تحكيم مستقلة. كانت اللجنة برئاسة نقيب الصحفيين ووزير الاتصال السابق، المرحوم العربي المساري، وعضوية المرحوم الأستاذ عبد الجبار السحيمي، رئيس تحرير جريدة العلم والصحفي والشاعر، ورئيس اتحاد كتاب المغرب سابقا، الدكتور حسن نجمي.وهي كلها أسماءٌ تجمع المهنية والرصانة والاحترام. جرى الاجتماع بمنزل نائب رئيس النقابة على مائدة إفطار؛ استمع أعضاء اللجنة للطرفين، وتم الاتفاق على أسس للحفاظ على وحدة النقابة وضمان الديمقراطية في انتخاب أجهزتها، والحيلولة دون أي تصدع في صفوفها عقب صدور “الكتاب الأبيض” حول الانحرافات والتجاوزات المرصودة في تدبير الولاية. لكن الاتفاق لم يصمد أكثر من يومين؛ إذ انقلبت قيادة النقابة على كل ما التزمت به، ما أثار استياء وسطاء المساعي الحميدة، وجعل المرحوم عبد الجبار السحيمي يصرخ — كما يفعل مع كل ظلم أو عبث — بعبارته الشهيرة:”إوا هذا المسخ هذا!” وقبل اللجنة، كانت “لجنة التصحيح” قد تشكّلت داخل النقابة، وكلفتني الزميلات والزملاء بتنسيق عملها في بدايتها قبل أن تتكفّل به الزميلة خديجة البقالي، مديرة إذاعة تطوان، بمشاركة زميلات وزملاء من الإذاعة والتلفزيون ووكالة المغرب العربي للأنباء والصحافة المكتوبة، منهم :خديجة البقالي، محمد العوني، عبد الرحيم تافنوت، حميد گرضة، صباح بنداوود، رشيد الصباحي،يونس إمغران، نور الدين بنمالك، لطيفة الدكالي…وعشرات من الزميلات والزملاء غيرهم . وحين بدأت بوادر إطار مهني بديل — فدرالية الصحفيين المغاربة — ظهرت نفس الآليات التي تكشفها الفضيحة الحالية. فآلية *“التشييطين”،* بتعبير خالد الحري اليوم في فيديو المهداوي، ليست سوى التعبير اللفظي عن مقاربة قديمة : شيطنة كل من يطالب بالتخليق، قبل الانتقال إلى مرحلة “قطع الرؤوس” و”الرزية في الأرزاق”، بالضبط كما راج في الفيديو – الفضيحة، وذلك بالطرد والحرمان من البطاقة المهنية، والدسائس والمكائد لإسكات الأصوات المزعجة لمنظومة الفساد. فما أن تم انتخابي وقتها رئيساً للفيدرالية، حتى تم طردي من هيئة تحرير “الاتحاد الاشتراكي” ومنعي من تجديد البطاقة المهنية. وبذلك ضُربت تجربة فدرالية الصحفيين المغاربة وذُبحت في المهد، وفق التعبير الذي كان يروّج وقتها : “قطع الرأس”. وكان ذلك يتم بذات ” التشيطين ” الحرّي ومن وراء الحري اليوم . هذا كله كان قبل خمسة وعشرين عاماً. واليوم، وبين ما وقع آنذاك وما ينكشف الآن، يتأكد أن نفس الأسباب تعطي نفس النتائج. قد تتغير الوجوه، لكن البنية العميقة التي تعيد إنتاج العطب هي نفسها. بل إن العجيب هنا هو أن بعض الوجوه المركزية في الفضيحة الحالية هي ذاتها وجوه التآمر واللا أخلاق منذ أزيد من ربع قرن ! فالقضية ليست قضية أفراد، ولا ينبغي اختزالها في أسماء. إنها قضية منظومة تسمح بالزبونية وتكافئ الولاء أكثر من المهنية، وتحول المؤسسات إلى واجهات شكلية. ومن زاوية البحث الأكاديمي الذي اشتغلت عليه في أطروحة الدكتوراه التي دافعت عنها في علم الاجتماع حول “الجذور التاريخية والثقافية للفساد في المغرب”، خلصتُ إلى أن الفساد ليس مجرد انحرافات معزولة، بل إنه يبقى دائما ممكنا بحكم طبيعة ما يصفه علم الاجتماع السياسي بـ *“الدولة النيوپاتريمونيالية”* أو دولة *الاستزلام* : دولة تقوم على تبادل الولاءات بالمنافع، بينما تبقى المؤسسات والقوانين مجرد ديكور مهما صيغت بعبارات التحديث والعصرنة.

*آخر الكلام…*

فيديو المهداوي لم يكن شتيمة ولا انفعالاً عابراً.إنه مرآةٌ لبنية عمرها عقود، بنيةٌ تُنتج وتعيد إنتاج ذاتها سنة بعد سنة، وتجرّ البلد إلى مزيد من التردي الأخلاقي والمهني والمؤسسي. وفي بلد تُدار فيه المؤسسات بميزان الولاء لا بميزان القانون، يصبح الفساد قاعدة، والاستثناء هو المهنية والنزاهة والالتزام. وإذا كان داء الصحافة ونقابتها قديماً، فلأنه جزء من داء أكبر :داء الدولة التي تشتغل بالولاء لا بالقانون.وفي دولة كهذه، لا يمكن للصحافة أن تكون أفضل من البيئة التي تُنتجها، ولا يمكن لأي إصلاح أن ينجح ما لم يتغير جوهر البنية التي تعيد إنتاج العطب، في كل القطاعات، وبالأدوات نفسها، جيلاً بعد جيل.

هذا وآخر دعوانا أن اللهم اسق عبادك وبهائمك !

———————–

× باحث في علم الاجتماع، رئيس فيدرالية الصحفيين المغاربة سابقا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube
Set Youtube Channel ID