سياسةمستجدات

نظرية المؤامرة: فخ السقوط الأمريكي

د.تدمري عبد الوهاب

في مقال سابق بعد  فوز الرئيس الجديد لأمريكا جون بايدن على منافسه  ترامب ، قلت إن التوجه المحافظ للدولة العميقة في أمريكا هو من يحدد السياسات الأمريكية سواء الداخلية منها بما تشهده من غياب للعدالة الإجتماعية و مأسسة للممارسات العنصرية إزاء الأعراق الأخرى من غير البيض أو الخارجية بما تتسم به من نزعة هيمنية تسعى من خلالها إلى إخضاع العالم بكل الوسائل بما فيها زرع الفوضى واختلاق الأزمات التي تسهل السيطرة والتحكم  وذلك في توليفة جديدة للنظرية الميكيافيلية في علم السياسة.

الٱن من خلال ما نشهده من ممارسات للإدارة السياسية  الأمريكية الجديدة وخلافا لما ذهب اليه بعض المحللين السياسيين الذين رأوا فيها متنفسا لحالة الإحتقان في العلاقات الدولية التي  ميزت عهد الرئيس السابق، فإننا لا نكاد نلحظ فارقا بين العهدين، بل استمرار في نفس السياسات التي تعمل على تكريس الهيمنة؛

  • خارجيا من أجل استعادة مجد زائل دون مراعاة للتحولات العالمية وما تعد به من بروز لقوى عالمية وإقليمية جديدة  لن تسمح بتفرد أمريكا في تقرير مصير العالم . 
  • داخليا عبر شيطنة التدافع السياسي  والإجتماعي الذي وصل حد الإصطدام نتيجة الأزمات المتراكمة داخل بنية النظام السياسي الأمريكي و محاولة إظهاره بمظهر المؤامرة الخارجية الروسية  وتوظيفها لصالح إستراتيجياتها الهيمنية بدل الوقوف عندها و معالجتها بما يخدم السلم الأهلي الأمريكي و يعالج المعضلات البنيوية في تجربتها الديموقرطية . 

إن الإرتكان إلى نظرية المؤامرة كما عرفها مايكل باركون  يفسر عجز العقل السياسي الأمريكي في البحث عن الأسباب الحقيقية  ويفسر السياسة الصدامية للحزببن مع دول العالم بهدف الحفاظ على الهيمنة مع فارق بالنسبة للديموقراطيين الذين  يستثمرون في الوكلاء لإنجاز مهام الفوضى لتفادي التدخلات المباشرة . وذلك على خلاف الجمهوريين الذين يشتغلون وفق سياسة  عدائية علانية تروم التدخلات المباشرة في الصراعات الدولية .

إن  لجوء الإدارة الجديدة  إلى نظرية المؤامرة لتبرير العجز الحاصل في بنية النظام السياسي والإقتصادي الأمريكي  وما نتج عنه من إرتفاع لمنسوب الإحتقان وتفشي العنصرية، هي محاولة يائسة لتصدير الأزمة إلى خارج الشواطىء الإمريكية، وإصرارها بالتالي  على تجاهل مستجدات الوضع الدولي بتماديها في عرقلة مسار التعددية القطبية الذي أصبح أمرا ملحوظا لأي متتبع سياسي موضوعي يبرز غياب دور أمريكا الإيجابي  في صياغة ملامح عالم جديد أكثر عدلا يؤمن السلم والامن الدوليين. وهو ما عكسته وثيقة الأمن الإستراتيجي التي حافظت على نفس النهج الهيمني مع إعادة ترتيب الأولويات من أجل التفرغ  للصين و روسيا باعتبارهما يشكلان تهديدا لأمريكا والغرب مع تأكيدها الابفاء على إيران في وضع الدولة المارقة العدوة لإسرائيل التي اعتبرت من خلال الوثيقة أن أمنها من أمن أمريكا، رغم تعبير هذه الأخيرة عن إرادتها في العودة إلى طاولة المفاوضات حول الملف النووي الإيراني ووقف الحرب في اليمن بالشروط التي تخدم أمن إسرائيل وحلفاءها في المنطقة 

إن أمريكا وفق هذه الإستراتيجية تصرفت وكأنها اللاعبة الوحيدة في الساحة الدولية، وأن ما تخطط له من إستراتيجيات صدامية مع دول أصبحت تشكل أقطابا عالمية وإقليمية  لها تأثيرها ووزنها الدولي والإقليمي، سوف لن يلاقي أية ردود أفعال قد تزعزع الأمن والسلم العالميين، وهو ما يعد خطأ فادحا في التقديرات الأمريكية .

✓ التحديات

إن التوجه نحو عالم متعدد الأقطاب هو ما تؤكده جميع معاهد  الدراسات الإستراتيجية التي تلتزم الموضوعية في مقاربة التحولات التي يشهدها الوضع الدولي، وأستثني  هنا المعاهد االمنحازة . ولا أظن ان الخبراء الامريكيين قد اغفلوا هذه التحولات، لكن هل الإدارات السياسية الأمريكية  استخلصت الدروس منها بالشكل الذي يدفعها إلى تصحيح مسار إستراتيجياتها العدائية إزاء دول العالم؟.

خاصة  وأن مرحلة  ما بعد تفكك الإتحاد السوفييتي  بما شهدته من تحول كل من روسيا والصين وجل الدول الإشتراكية  سابقا إلى الإقتصاد السياسي اللبيرالي، كان ليوفر الشروط لتصحيح العلاقات الدولية  من كل ما شاب مسارات معسكرين متناقضين إيديولوجيا وسياسيا من عوائق وكوابح، و هذا ما يجعل الخطاب الأمريكي الراهن المعادي  للصين و روسيا و دول أخرى غير مقنع لأي متتبع موضوعي للسياسة الدولبة، بل حتى لبعض حلفائها الغربيين، رغم مجاراة بعضهم لها نتيجة إرتهان  العقل السياسي الأوروبي بعقدة الذنب التاريخية إزاء أمريكا حين تدخلت لانقاذهم من النازية و تمويلها لمشروع مارشال لإعادة بناء ما هدمته الحرب العالمية الثانية، وكذا لحضور ثقل التاريخ لدى بعضها الٱخر في تحديد مسار علاقاتها المتوترة تاريخيا مع روسيا منذ عهد القياصرة.

لكن ما هو أكيد في الوضع الحالي هو أن وعيا أوروبيا مغايرا بدا يتشكل في إتجاه فتح الجسور الإقتصادية والسياسية  مع كل من روسيا والصين لا سيما بعد تحول هذه الدول إلى الإقتصاد الحر، رغم الضغوطات الأمركية من جهة، ورغم الفرملة التي يحدثها اللوبي السياسي التقليدي الذي لا زال تحت تأثير رواسب الماضي من جهة اخرى . وما  النمو الهائل للإستثمارات والمبادلات التجارية بينها وببن الصين إلا تاكيدا على التحول الإيجابي في علاقات الغرب بالشرق .        

✓ ملامح التصعيد و الفشل

 إن الرئيس الأمريكي جون بايدن بوصفه الرئيس الروسي ب ” القاتل الذي وجب محاسبته ” يكون   قد تجاوز كل الأعراف الدبلوماسية المتعارف عليها دوليا، وما إتهامه بالتدخل في الإنتخابات الأمريكية إلا مبررا  لاستنفار الجبهة الأطلسية من أجل تشديد الحصار على روسيا، سواء عبر العقوبات الأحادية أو بعرقلة أنبوب غاز السيل الشمالي الرابط بينها وألمانيا دون الحاجة الى المرور بدول أوروبا الشرقية التي تعد الحلقة الأضعف في الإتحاد الأوروبي وأكثرها تبعية لأمريكا .

لكن تبقى حاجة  دول أوروبا الغربية  للغاز الذي يعد البديل الأنظف  للطاقة وورقة ضغط مهمة في سوق المصالح الإستراتيجية  بينها، بالإضافة إلى أن بعض الدول الغربية تبقى متحفظة على هذه العقوبات نظرا للعلاقات الجيدة  التي تربطها بالإتحاد الروسي.   

كما أن التناقض الحاصل  في تصريح جون بايدن المتمثل في عدم السماح للصين بتبوء صدارة العالم  من جهة وعدم وضع حلفائه في موقع الإختيار من جهة اخرى، يدلل على حجم الصعوبات التي تعترض هذا التوجه نظرا   للحجم الهائل من الإستثمارات والمبادلات التجارية التي تربطهم بها، وأن أي عقوبات إضافية جديدة سيكون لها وقع كارثي على  الإقتصاد الأوروأمريكي والعالمي.

كما أن اللامنطوق في  تصريحه هو الإعتراف الضمني بتراجع أمريكا  إقتصاديا لصالح الصين، رغم تصريح وزير الخارجية الأمريكية  أنطوني بلينكن بأن الرئيس بايدن يرتب إجتماعا مع 27 رئيس دولة  معظمها أوروبية من أجل تحجيم كل من الصين و روسيا وذلك من أصل 193 دولة  عبر العالم، من ضمنها دول صاعدة تتخطى باقتصادياتها حتى بعض الدول الغربية خاصة تلك المنضوية في مجموعة البريكس .هذا إن اعتبرنا أن هذه الدول السبعة والعشرون  ستنساق كلها فعلا وراء العنجهية الأمريكية وتتخلى عن مصالحها القوية مع كلا الدولتين المنافستين لأمريكا . علما أن هذه الخطوة الأمريكية سبقها لقائين فاشلين في كل من ألاسكا  ونيوديلهي، أعقبهما تصعيد في جنوب شرق ٱسيا تمثل في التجارب الباليستية التي أطلقتها كوريا الشمالية و توقيع إتفاقيات إستراتيجية بين كل من الصين و إيران و روسيا .

إن إستراتيجية أمريكا الفاشلة مع الصين وروسيا تنسحب أيضا  على إستراتيجيتها في الشرق الأوسط، خاصة بعدما اتضحت نواياها المتمثلة في فرض وجهة نظرها لحل  الأزمات التي افتعلتها في أكثر من دولة في المنطقة، إما بالعقوبات الأحادية أو بتدخلاتها المباشرة  أو عبر وكلائها من التنظيمات الإرهابية، أو عبر الممالك الخليجية وتوسيع نطاق التطبيع مع الكيان الإسرائيلي عبر مشاريع إقتصادية مشتركة يتعذر إنحازها في بيئة متوترة، وهو ما دفعها إلى الإشتغال على إنعاش العلاقات بين كل من ممالك الخليج  وتركيا ومصر وذلك من أجل محاصرة المحور المقاوم لهذه الهيمنة، مع الحرص على عدم إقحام إسرائيل مباشرة في هذه المواجهة . لكن يبدو ان تناقض المصالح والصراع على الزعامة  بين هذه الدول واشتغال الإمارات والسعودية على ممر مائي و بري يربطها بميناء حيفا كبديل عن قناة السويس المصرية، سيزيد من تأزم هذه العلاقات، ويجعل من هذا التحالف كيانا هشا قابلا للإختراق والتفكك في مقابل صلابة محور المقاومة القائم على ثوابت إستراتيجية تحررية في السياسة وفي الإقتصاد.

 إن الإعتراف الضمني  للرئيس الامريكي بقرب  تبوء الصين صدارة العالم، وإصرار روسيا على إكمال أنبوب غاز السيل الشمالي  في غضون سنة رغم العقوبات الامريكية، والإرتباط القوي لاقتصاديات بعض حلفاء أمريكا  بالإقتصاد الصيني، بالاضافة إلى فشل مخططاتها الهيمنية في الشرق الأوسط و أمريكا اللاتينية، وعدم قدرة أتباعها  في هذه المناطق على إنجاز المهام المنوطة بهم نظرا للتناقضات التي تخترق علاقاتهم البينية، في مقابل نمو قدرة المواجهة لدى المحور المناهض للهيمنة الأمريكية المدعوم صينيا و روسيا بالشكل الذي يحول الصراع إلى حالة استنزاف للمجهود الحربي والإقتصادي لأمريكا عبر العالم .

كل هذا  يدلل على عجز العقل السياسي الأمريكي عن  قراءة التحولات الجديدة، سواء بالداخل أو خارج شواطىء أمريكا، بالموضوعية المطلوبة للوقوف على مكامن الخلل والإقرار بضرورة الإصلاحات العميفة لنظامها السياسي والتعاون مع دول العالم من أجل عالم جديد متعدد يسوده الأمن والسلام عبر إحترام المصالح المشتركة للدول والشعوب . 

طنجة 28 مارس 2021

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube