ثقافة وفنونمستجدات

هوية تكتب أحوالها

الكاتب والشاعر ذ حسن برما

الذي تجهله يا صديقي ، عشقت النزول مع المنحدر لأنصت إلى نبضي الداخلي ، لم أهتم بالذين يصعدون إلى القمة محملين بالكثير من الأوهام والادعاءات ، طبعا أنت تعرف أن الوفاء لعشق الجبل ومفاجآته غير المتاحة للجميع ، وقبل ذلك أنت تدري المقدمات التي قادتني للتعلق الصوفي بالشامخ الصامد ، لكني اخترت النزول إلى السفح حيث الظلال ترعى أعشابا غريبة غامضة لا تطيقها القمة . لم أقتف آثار الأدعياء وأتظاهر بدقة الرصد والتفصيل لجغرافيا الوجه المتناسخ ، لم أبال بإحصاء حصى الطريق المتربة أو أقدم كشف الحساب عن خطوات الصعود ومرات السقوط المحايد ، لم أتحدث عن انعكاس أشعة الشمس على حفريات الصخر الصامت أو أتظاهر بالقدرة المضحكة على وصف أشجار الالتواءات البارزة للعموم ، لم أطنب في الحديث عن نواح بومات الخرائب المهجورة ، ولم أهتم بتصفيق جمهور مخدر مهووس بتشيئ الاحاسيس واستهلاك المعاناة بردود أفعال متسارعة الزوال . أكثر من الآخرين ، تعلم علم اليقين ، أني قررت النزول منذ صرختي الاولى ونحن نتهجى متعة الفضح والسخرية من أقلام التمييع والتعتيم ، مسألة اختيار منطقي ولعنة انحياز نحو كل ما يعري حرائقنا المتتلاحقة وبشاعة أولياء اختبأوا وراء أقنعة موروثة عن زمن العتمة وفوضى الكراسي الطائشة . وعليه ، يظل شغفي بالتجول في الممرات المجهولة غير المأهولة بفضولي الحلبات المرسومة سلفا حيث متعة اكتشاف اللامتوقع المتمنع على كسالى الحرف الجبان ، وأنا أجهل خرائط الجرح المعلوم ، اتجاهل إلى أين تقودني خطواتي ، أتقدم لهاوية النفس المهمومة المسكونة بهاجس اصطياد الصدفة القادرة على الإبهار وزلزلة الدواخل المطمئنة لمصيرها المحكوم بعلامات التشوير الصدئة . جرب النزول عكس التيار ! اترك المهرولين نحو الأعلى طلبا لوهم الرؤية الشاملة ! وأنت تنحدر نحو السفح المنسي ، انتبه لصخور الشاطئ المهجورة ولوحة بحر يهديك ما لا يراه الآخرون ! مويجات متصالحة مع تيارات ريح تساير إيقاعات التأمل الحكيم ، وخطواتك تتحاشى أزهارا برية تخفي أسرارها عن قطيع المزاعم والوعود الكاذبة ، وتلك التلال الرابضة هناك تحرس الشرود القاتل في جنوب الروح ، ولا تنس الكلام المسموع مع نفسك حتى لا تقع فريسة التيه المدنس ! حاور ظلك المتحول في كل الأوقات عساك تحتفظ بتفاصيل المنحدر نحو عناق الحبيبة بعيدا عن عيون ممتهني الرصد الركيك والإنشاءات المحررة تحت الطلب !!! عادة ، أتحاشى أي بوح منبطح للتواطؤات المهادنة للتقنيات الروتينية المملة ، أنفض اليد من تعبيرات تخفي جبنها الثعلبي باحترام فتاوى اقتفاء آثار السلف الميت ، أرفض ادعاء الواقعية المستحيلة اعتبارا لتحكم الذات بالمرئي وتلونيه بما يمور في الدواخل ، هو واقع واحد ينسل أمامنا وقراءات متنوعة متباينة لمواده ومعطياته وإيحاءاته ، وفي النزول التواءات لا حصر لها . أنحرف يسارا ، أتحاشى جاذبية الخواء المزعوم ، ومع كل خطوة محترسة وتوجس قاهر ، تفتح الذاكرة بركانها ، تتداعى أسئلة الحاضر الشفية وانتظارات القادم الغامض ، تتسارع الذكريات ، نستعيد أمكنة منسية وشخوصا بصموا الوقت بحضورهم الموشوم ، وفي الخطوة الثانية تمتلئ اللحظة بردود فعل مغايرة لما سبق . تتداخل هواجس الأنا بتداعيات الموضوع ، تتوحد هموم النزول عكس التيار بجزئيات الرصد المتمرد وهو يتجاوز المعاناة مع كلمات تعجز أحيانا عن ملامسة المعنى المراد ، وفي وحدة وانسجام المتكلم مع المضمون يتحقق الوفاء للحظة الكتابة بإهداء المكتوب دفئا لازما وغرابة محببة تفتح نوافذ التأويل الحر على مصراعيها وتتحقق متعة المشاركة في بناء عالم تخييلي لا مفكر فيه وعير متوقع . يحدث أن تسلك الطريق نفسها ، تعتقد أنك تدري مطبات النزول ، في كل مرة تشتم عطرا مخالفا ، أنت المختلف كل الأوقات ، تطأ تراب الدرج البدائي ، عند استعارة حاجز صخري من صنع آدمي أرعن ، ترى صخرة تحمي حكايات العابرين من النسيان ، على وجهها البارز نذوب وحروف وأسماء ، هي اليوم قاسية بعين شاردة ومزاج حزين ، وهي غدا في بال المتعب العطشان محطة استراحة لعاشقين توقفا لسرقة قبلة من وقت الرحيل ، وهي بعد غد محفزة لاشتعال الحنين وإدانة أسباب البعد والفراق ، ولا علاقة لعجلة الصباح بتهيؤات الغروب رغم أنها هي الصخرة نفسها القابعة بنفس المكان والمقام .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube