
بقلم د ادريس الفينة
مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، عاد شعار “أمريكا أولاً” ليتصدر من جديد المشهد السياسي والاقتصادي في الولايات المتحدة – ولكن هذه المرة بصيغة أكثر راديكالية وحِدّة. من خلال موجة جديدة من الرسوم الجمركية، استهدفت بشكل خاص الصين والمكسيك وكندا، أعادت الإدارة الحالية إطلاق سياسة حمائية تحت غطاء استعادة السيادة الاقتصادية الأمريكية. غير أن هذه السياسات، وعلى عكس الوعود التي قُدمت للشعب الأمريكي، لم تنجح في تقليص العجز التجاري أو في استعادة القدرة التنافسية للصناعة الوطنية. بل أدّت إلى تباطؤ النمو، وتعطيل سلاسل الإمداد، وتآكل الثقة في الأسواق المالية.ظهرت الآثار المباشرة لهذا النهج خلال الشهرين الأولين فقط من تنصيب ترامب. فقد تراجع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 1.4% في الربع الأول من عام 2025، بينما ارتفع مؤشر أسعار المنتجين بنسبة 3.1% نتيجة لارتفاع كلفة المواد الأولية المستوردة بعد فرض رسوم جديدة على الصلب والألومنيوم وقطع الغيار القادمة من آسيا وأمريكا اللاتينية. وسجّل مؤشر S&P 500 أسوأ أداء له منذ أزمة كوفيد-19، حيث تراجع بنسبة قاربت 11% خلال ستة أسابيع فقط، وسط تزايد القلق لدى المستثمرين من استمرار الحروب التجارية وتباطؤ استهلاك الأسر الأمريكية.على الصعيد الخارجي، جاءت ردود الفعل العالمية سريعة. فقد فرضت الصين رسوماً انتقامية على صادرات أمريكية استراتيجية، من بينها فول الصويا والتجهيزات الطبية. ولوّحت المكسيك بإعادة النظر في ترتيبات التجارة الحدودية، بينما كانت الاستجابة الأوروبية أكثر حدة، إذ دعت كل من فرنسا وألمانيا إلى مراجعة العلاقات التجارية مع واشنطن في إطار منظمة التجارة العالمية. وأعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية عن إطلاق مبادرة “السيادة التجارية الاستراتيجية”، تهدف إلى تقليص الاعتماد الأوروبي على السوق الأمريكية المتقلبة.أما على الصعيد الداخلي، فلم تكن النتائج متماشية مع الخطاب السياسي المعلَن. فبرغم الترويج المستمر لفكرة “إعادة الوظائف إلى الداخل”، لم تسجل وزارة العمل سوى 92 ألف وظيفة صافية في القطاع الصناعي منذ يناير – وهو رقم أقل بكثير من التوقعات. ويعكس ذلك هشاشة المكاسب التشغيلية، واعتماد كبريات الشركات الأمريكية المستمر على سلاسل التوريد العالمية الممتدة من جنوب شرق آسيا إلى أوروبا الشرقية، وهو اعتماد لا يمكن تعويضه بسرعة في ظل فجوات المهارات والقدرات التقنية داخل الولايات المتحدة.الواقع أن أزمة شعار “أمريكا أولاً” لم تعد نقاشًا نظريًا حول جدوى الحماية التجارية، بل تحوّلت إلى عبء بنيوي على الاقتصاد الأمريكي الذي فشل لعقود في معالجة اختلالاته الجوهرية. فالولايات المتحدة لم تستثمر بما يكفي في بنيتها التحتية، ولا في التعليم التقني، ولا في دعم البحث العلمي، كما لم تُصلح نظامها الضريبي أو توزع الثروة بشكل عادل. هذه الإخفاقات البنيوية، حين تتقاطع مع سياسات انعزالية، تجعل استعادة الدينامية الاقتصادية مهمة مكلفة ومعقدة قد تتطلب تريليونات الدولارات خلال العقد القادم.الولايات المتحدة الآن تقف على مفترق طرق حاسم. لم يعد ممكنًا الاكتفاء بالشعارات بدل الاستراتيجيات، ولا يمكن بناء اقتصاد قائم على الابتكار والتكنولوجيا من خلال الرسوم والقيود فقط. ورغم استمرار إدارة ترامب في تقديم القومية الاقتصادية كطريق نحو استعادة القيادة العالمية، إلا أن المعطيات تظهر واقعًا مختلفًا: تراجع في التنافسية، انخفاض في تدفقات الاستثمار الأجنبي، وتزايد الفجوة بين الاقتصاد الأمريكي والنظام العالمي الذي يتجه نحو التعددية الاقتصادية.وقد زادت التطورات الأخيرة في مارس 2025 من تعميق هذا القلق. فقد وقّعت الصين وعدة دول من جنوب شرق آسيا اتفاقاً تجارياً إقليمياً واسعاً يهدف إلى تجاوز النفوذ الاقتصادي الأمريكي. وفي الوقت ذاته، أعلنت شركات أمريكية كبرى مثل Tesla وApple عن توسيع مصانعها في فيتنام والهند بدلاً من إعادتها إلى الأراضي الأمريكية، مما يُقوّض فعليًا أهداف “إعادة التصنيع” التي يروج لها البيت الأبيض. ووفقًا لتقارير وزارة الخزانة الأمريكية، انخفضت الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 18% مقارنة بالربع نفسه من العام الماضي.من الواضح أن الأزمة الحالية هي نتيجة تراكمات ناتجة عن تأجيل الإصلاحات البنيوية. فالمشكلات التي تم التغاضي عنها لعقود، باتت اليوم عصيّة على المعالجة، ومرتبطة بتكاليف سياسية ومالية مرتفعة. الحلول المؤجلة تتحوّل إلى أعطال مستدامة. وبينما يصرّ ترامب على أن “أمريكا أولاً” هو الطريق نحو الاستقلال الاقتصادي، يتّضح أكثر فأكثر أن الاستقلال لا يُبنى على الجدران الجمركية، بل على إصلاح داخلي شامل، وانخراط استراتيجي ذكي مع العالم.