“جزيرة النسيان” ح 2 للمبدع البجوقي
تابعت بكل سعادة وسرور تفاعل الصديقات والأصدقاء مع الحلقة الأولى عن زيارتي لكوبا، كل الشكر والامتنان لمن شجعني على نقل هذه التجربة وتدوينها على طريقتي ـ طبعا ـ شكرا لمساهمة أغلب المتفاعلات والمتفاعلين بالتعليق والملاحظة والقراءة، أعرف أن انطباعاتي لن تروق الجميع، وقد تكون أحيانا صادمة لمن عاش وتمرغ ـ مثلي ـ في أحلام السبعينيات من القرن الماضي، لكنني مُصِرٌّ على نقلها بلا مساحيق.. وفيما يلي أترككم/ن مع الحلقة الثانية: الحلقة 2″تسللتُ إلى المدينة العتيقة في هافانا صباح العشرين من نوفمبر 2024، الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحا، الوجوه مبتسمة وهي تنتظر في طوابير طويلة دورها لاقتناء حصتها من المواد الغدائية الضرورية في محلات حكومية مخصصة، ضجيج الحياة يعود تدريجيا للمدينة بعد ليل صاخب، وأصوات ترتفع بين الفينة والأخرى بإيقاعات موسيقى كوبية ولدت من رحم البؤس والدفء، كانت وجهتي عملا بنصيحة صديق كوبي أن أستهل زيارتي عبر “زقاق هامل Callejon de Hamel”، حيث استقر الرسام والنحات الكوبي الشهير سالفادور غونصاليص إسكالونا Salvador Gonzalez Escalona، وحوَّله إلى تحفة فنية وسط المدينة العتيقة، لوحة جدارية كبيرة بألوان افريقية فاقعة تستقبل زوار الحي في مدخل الزقاق تتوسطها جملة بحروف كبيرة ” سفينة النسيان La nave del olvido”، لوحة بديعة غاية في الجمال وجملة مُعَبِّرة أثارت فضولي ودعتني للتفكير قبل أن أواصل زيارة هذا البلد وهذه المدينة بالذات، فهمت حينها إلحاح صديقي الفنان الكوبي بأن أجعل هذا الحي نقطة انطلاق زيارتي لكوبا من بوابة هذا الزقاق بالعاصمة هافانا. واصلتُ رحلتي الاستكشافية إلى قلب هافانا العاصمة الكوبية متأثرا بمشاهد الكوبيين والكوبيات يقفون في طوابير طويلة لاقتناء حصتهم من الحاجيات الأساسية للحياة، عجبتُ لصبرهم ومغازلتهم للمعاناة بالغناء والمواويل وإشارات الغزل.. اليوم مشمس وسماء هافانا صافية ، تمتزج في المدينة ملامح التاريخ العتيق مع إيقاعات الحياة المعاصرة. وقفت أمام مبنى قديم مزخرف بتفاصيل العمارة الاستعمارية بلمساتها الإسبانية والعربية، كنت أشعر كأنني أقف أمام نافذة تطل على عصور مضت. أمامي في الرصيف المقابل تركن سيارة كلاسيكية زرقاء تلمع تحت أشعة الشمس، تبدو وكأنها خرجت من فيلم قديم، مما أضاف إلى المشهد سحرًا لا يوصف.انطلقتُ من هذا المكان البسيط الذي يحمل في طياته أسرار الماضي ومعالم توحي بأن أحداثه لم تكن عادية. بينما كنت أتأمل الزخارف المعمارية وتفاصيل النوافذ ذات الأقواس العربية المزينة بالفسيفساء الأندلسي، انتبهتُ حينها لرجل عجوز يجلس على كرسي متهالك من بقايا الأثاث العمومي الذي كان في يوم ما يُزين فضاء الشارع الذي يحمل إسم المدينة، كان يراقبني باهتمام ولا تفارق شفتيه ابتسامة غامضة، اقتربت مني حينها امرأة سمراء بدينة ربما في عقدها الخامس تلوك علكا وتردد الترحيب بي في كوبا، “مرحبا بك في كوبا Bien venido a Cuba” جملة تكاد تكون لازمة على أفواه كل الكوبيين والكوبيات حين يتعرفون على الغريب، السيدة تَعْرِضُ تذكارات مصنوعة يدويًا وهي تردد بدون انقطاع بعض المواويل وتدعوني بإلحاح لاقتناء بعضها، أحسست حينها أن شخصا يقف ورائي لفت انتباه السيدة التي أسرعت بالابتعاد، استدرت بسرعة لأجدني أمام الرجل العجوز الذي كان يراقبني من مجلسه على الكرسي المتهالك، وبنفس الابتسامة الغامضة كرر لازمة الترحيب بي في كوبا وهو يشير بسبابته إلى النقوش التي تُزين المبنى المقابل وبادرني قائلاً: “هذه ليست مجرد زخارف، إنها رموز خفية تحكي قصة عمرها قرون”. ابتسمت معتقدًا أنها مجرد أسطورة محلية، لكنه أسرع بإخراج ورقة صفراء قديمة من جيبه عليها خريطة قديمة تقود حسب زعمه إلى “كنز المخطوطات الكوبية”، كان يحدق في بإمعان ويمسك بين أنامله بسيكار كوبي، ملابسه رثة وقديمة لكنها نظيفة وتحتفظ بلمسة فاخرة ككل شيء في كوبا، شعره أشعث وبصوت فيه بحة خاطبني: ” هذه خريطة ستقودك إلى كنز يحتوي على أسرار الثورة الكوبية “.لم ينتظر العجوز جوابا ولا تفوه بكلمات الشكر التي لا تفارق شفاه الكوبيين، تَفَحَّصَني بابتسامته الغامضة، استلم مني دولارين مقابل خريطة الكنز المزعوم وغادر مسرعا يخترق زقاقا مقابلا يعج بالمارة والباعة المتجولين..يُتبع..