ضد التيارمستجدات

دورة تكوينية في الوطنية، الدرس الأول

بقلم ذ. المصطفى القادري ـ لندن

و نحن أمام مظاهر حمى الوطنية المدفوعة الثمن، التي يختلط فيها الحابل بالنابل، لينتج خليطا لا متجانسا و ضجيجا يحسبه أصحابه قطعة بيتهوفينية تقطر وفاء لرصيد قيم الإحساس الوطني الذي قارب على الإنتهاء، و أضحى في حاجة إلى تعبئة جديدة تطيل عمره إلى إشعار قادم.
الأحداث تتوالى تباعا، و الصراخ يتعالى هنينة، و من ثَمَّ يعم الصمت القاتل لتبدأ مفاوضات الهاتف في مكاتب و صالونات علية القوم، حيث ملتقى مهندسي السياسة و ما إلى ذلك من القضايا التي لا يفقهها فقراء الوطنية من أمثالنا، نحن الذين هجرنا ربطة العنق يوما، لأننا كدنا أن نختنق.
وأنا أتابع الأحداث عبر هاتف ذكي و ساخن، فالمعالج قديم تشتكي بطاريته المنهكة من هول الرحلة و غباء المحتوى الذي يستقبله مرغما. و أنا قابع في كوخي المهترئ حيث قطرات المطر تتساقط لتملأ قصعة صدئة قد أقرر إستعمالها لاحقا في إستكشاف الفرق بين مختلف الأقوال المدرجة في الصفحات الأولى من بداية المجتهد و نهاية المقتصد حول حكم و ضع اليد في الإناء قبل الغسل، لعلي أفيد الإنسانية بإكتشاف باهر و معجز حول علاقة الإناء و الغسل بوباء كورونا المستجد فإن أصبت فلي أجران و إن أخطأت فالأجر واحد، وعلى غفلة من أمري يتواصل معي أحد الحالمين الغارق في ثقافة اللصوصية، حيث تفيد المصادر الموثوقة بأنه لا يدفع فاتورة الإتصال بالشبكة العنكبوتية معتديا بذلك على حرمة الجار و أسرار الديار، لكن الخبر يستحق الإهتمام، و لابد من ركوب المغامرة ذاتها ليعكر صوف يومي الذي ابتدأ لتوه بنشرة بطولات صغار القامات هناك في أرض التين و الزيتون، فقد تعالت صرخات الإستنكار مدوية من أحد تجار الوطنية في شطحة من شطحات السياسة العوجاء.
لا يهم، فالحال قد عُلم و لا فائدة في تكرار المقال، ففضح الواضحات من المفضحات كما يقال، إلا أنني سأركب الموجة لأقدم لقرائنا نموذجا من الوطنية الصادقة التي أتذكرها بكثير من الحب و الإحترام.
الصديق حسن نواز، باكستاني الأصل، إلتقيته في إحدى مراحل الحياة عندما قررت العودة إلى صفوف الدراسة في مجال الإعلاميات، في إطار إعادة تأهيل القدرات في مجتمع متقلب يعيش فيه المرء و كأنه راكب على متن دراجة هوائية ترغمك على مواصلة الحركة لتحقيق التقدم و إجتناب السقوط.
يومها لاحظت نبوغه و نضجه و هو شاب عشريني لم يختبر الحياة بعد، إستقطبته للإنتماء إلى الحزب فأبهر الكل بتميز الأداء، و نكران الذات و القدرة على الإبتكار و التفكير خارج السرب و أنماط الأداء الثقافي التقليدي التي تآكلت منذ و قت طويل و قاربت على الإنقراض، بل و ارتقى بسرعة ليبني شبكات من العلاقات جعلت منه الإنسان الناجح اليوم خارج دواليب السياسة، لأنه عرف كيف يبني علاقات الصداقة التي تدوم طوال رحلة العمر.
أتذكر كيف فاتحني على إستحياء حول فكرة خطرت بباله و هو يفكر في إيجاد طريقة لمساعدة وطنه باكستان في مواجهة كارثة الفياضانات التي واجهها البلد آنذاك. بحث و استقصى ليعلم بوجود قافلة لأكبر النوادي من هواة الدراجات النارية، علم بأن المرشح لعمودية المدينة من الهواة أيضا، ففكر في دعوتهم للمرور بالمدينة حيث سنعد لهم الغذاء مع ترك الثمن بدون تحديد ليضل مفتوحا لكرم الدراجين، بالتعاون مع فيديرالية جمعيات السكان بالمدينة التي كنت أشعل موقع نائب رئيسها حينها و بتنسيق مع جمعيات التجار، الذين لم يبخلوا بتقديم الأرز و المعدات للتضامن مع ضحايا الفيضان.

صورة من بداية استقبال الدراجين


7500 دراجة حجت إلى حي سيردانيولا بعاصمة الماريزمي ، حوالي 10000 شخص في مشهد مهيب و تضامني، وجو إحتفالي رائع حيث كانت فرحة المقاهي و الحانات المجاورة عارمة و كأنه موسم من مواسم الاسبو ع المقدس المسيحي، حيث حققوا مبيعات بأرقام استثنائية جعلتهم يسارعون إلى تقديم تبرعات لقضية المواطن الباكستاني حسن الذي لم يتلقى تعليمات من أي هيئة ديبلوماسية للرفع من مؤشرات مواطنته و الهرولة نحو اقتسام كعكة الوطن.

صورة تذكارية للنشاط
الباييا الشهية

القصة لن تنتهي هنا، فالعلاقات التي خاطها الباكستاني الوطني المنفرد مع شباب الحزب بكطالونيا، و هم الأطر الجامعية التي تدرس اختصاصات من قبيل الإقتصاد و القانون و العلوم السياسية جعلته يتمكن من تقديم مبادرة إلى بلدية من أجل تخصيص بعض من الموارد المالية المخصصة للكوارث الغير المنتظرة، ليخصل على موافقة البلدية في جمعها العام الشهري على ارسال شخنة إضافية من الأدوية و عقاقير تنقية المياه بقسمة تتحاوز ا 20000 أورو.

الشاب حسن نواز يشرح خطوات النشاط خلال زيارة لموقع شحن الأدوية


القنصل الباكستاني الذي إنبهر بالأداء المنفرد للمواطن الشاب و الإنسان الذي يفكر في إيجاد الوسائل لمساعدة الضحايا قرر زيارة الموقع حيث شحنت الأدوية، و زيارة المدينة لتقديم الشكر و الإمتنان لبلديتها و شكر المواطن الذي لم يدفع له من الريع ليقوم بما قام به.
لم ترفع الأعلام، و لم تتعالى الصرخات ولكن الأداء الوطني الحقيقي هو الذي يصب في إتجاه بناء علاقات الصداقة على المستويات الرفيعة فليتنا نأخذ العبر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube