فضاء الأكادميينمستجدات

لعنة القدر: جائحة كورونا وجائحة الاستبداد!

البروفيسور محمد الشرقاوي ـ واشنطن

أستاذ تسوية النزاعات الدولية وعضو لجنة الخبراء في الأمم المتحدة سابقا

يمثل الحجر الصحي في الحقبة الراهنة ضرورة من ضرورات الوقاية والحد من تفشي الإصابات في بريطانيا وفرنسا ودول غربية أخرى. بيد أن الجائحة في المنطقة الأخرى جنوب البحر المتوسط جاءت بمثابة هدية من السماء للدول السلطوية لتجديد الثقة في ترسانتها الأمنية والاعتداد بالوصاية الأورويلية وتشديد فروض الطاعة للأخ الأكبر على شعوب بأكملها. وتتمادى في تطبيقها إلى ما يتجاوز فلسفة الحجر الصحي وتعاون الدولة والمجتمع في إدارة المرحلة إلى تضخم الأنا لدى الدولة وأمننة المجال العام.
أصبحت سردية “حالة الطوارئ” شماعة وفزاعة في آن واحد في إسكات أصوات الضجر والتعبير عن لاعقلانية عدد من إجراءات المنع والإغلاق وإساءة المعاملة، وتفادي النقد لامتدادات أخطبوط السلطوية في تنظيم حركات وسكنات المواطنين. فأصبح النسق الأمني وانتقائية الأماكن والأوقات لفرض الإغلاق أو مرور الراجلين والسيارات والسفر بين المدن مسألة تقدير مزاجي، ونشوة التأمّر حسب تراتبية السلطة بين المركز والهوامش. وما يدعو للقلق أن الحجر الصحي/الأمني لم يعد يتولى التحكم في الحركة المادية للأجساد فحسب، بل يمتد إلى تقييد حركة العقول في الجدل ومنع السؤال النقدي ما دامت أن الدولة هي “سيد العارفين”، ولا اجتهاد فوق “حصافتها”، ولا بصيرة تفوق “حكمتها”، وهي تتعقب الطريق إلى اعتقال المدعوة “كورونا” الجانية في حالة فرار من العدالة.
خلال خطاب ألقاه أمارتيا سين، خبير الدراسات الاقتصادية والحائز على جائزة نوبل، عن بعد في حفل تسليمه جائزة السلام لعام 2020 من قبل مؤسسة الكتاب في فرانكفورت في ألمانيا، قال “لسوء الحظ، فإن القيود الكبيرة على حرية الجدل ليست شيئًا من الماضي، وهناك المزيد من البلدان التي تجعل فيها التطورات الاستبدادية حرية الاختلاف أكثر صعوبة، بل وتفرض عليها قيودا أكثر من السابق. هناك سبب يدعو للقلق من هذه النزعات القمعية في العديد من البلدان اليوم.”
لا أجد من يجسد العلاقة العضوية بين الحرية والحداثة والقانون الطبيعي بشكل عقلاني أفضل من الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. وأجد اليوم صدى لكلماته بعد أكثر من قرنين على وفاته، إذ يقول:
“أسمع الصرخة من جميع الجهات:
لا تجادل! يقول الضابط: لا تجادلوا، انطلقوا في العرض!
مسؤول الضرائب: لا تجادل، ادفع!
رجل الدين: لا تجادل ، صدّق!
كل هذا يعني تقييد الحرية في كل مكان.”
هل لعنة قدر مزدوجة عندما تساهم كورونا في تطبيع المد السلطوي المتنامي، والجميع في عصمة رجل الأمن، ومسؤول الأمن، وجنرال الأمن، ودولة الأمن. وبين جائحة كورونا وجائحة الاستبداد أكثر من علاقة جدلية، فكلما ظل الوباء مطية لإجراءات الحجر الأمني حاليا الصحي سابقا، إلا وازداد الاستبداد تجذرا وتماسكا عبر تراتبية السلطة. لذلك ينبغي أن تعيد مختبرات صناعة الأدوية النظر في خططها: لقاح ضد كورونا ولقاح ضد الاستبداد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. كانط لم يصغ مقولته في زمن كورونا ، لا ولا وضع بين خيار”الاقتصاد” لعيش الناس والحفاظ على “حياة الناس” او جعلهم ببساطة تحت مسمى حرية مكذوب عليها يتهارشون نتاج اطلاق “مناعة القطيع” ,,سياسة الانكار ازاء متغير “وجودي” تقود الى الالتباس و يسر “التلبيس” بالمجمل : ليس هناك اخطر من التعالم على التاريخ وتاريخ الافكار تحديدا بتجريدها من سياقاتها واستعمالها الادواتي/التلفيقي لخدمة اطروحة ما ,,

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube