احمد رباصمستجدات

حصار بين سندان الجبل العتيد ومطرقة الريح المزمجرة

أحمد رباص

كلما أردت الشروع في الكتابة عما اختزنته ذاكرتي من أحداث ومواقف طيلة مدة مقامي في هذا الجزء من حوض درعة إلا وانتصبت أمامي أفكار مزعجة ومربكة، سيما وقد اخترت منذ البداية كتابة مذكراتي بأسلوب من التشظي قريب وإلى الشذرات نسيب..من هذه الأفكار واحدة لا زمتني خصوصا بعدما قطعت مشوارا لا يستهان به على درب مغامرة الكتابة الاسترجاعية هاته. هي في الحقيقة جماع أفكار تنتابني على شكل شعور بخوف من التيه في بيداء الماضي المسترجع، ولو كانت حقبته محدودة في الزمان والمكان..
ليت الأمر اقتصر على إحساس ذاتي خاص بالذات الكاتبة وحدها وإنما حدث أن استفحل الخوف عندما قاسمني إياه على شاكلة تنبيه صديقي سعيد تيركيت من مدينة الخميسات..منذ اللحظة التي تواصل معي فيها الأخير، صرت حريصا على الاهتداء بتوجيهات تجود بها بوصلة تقع في مكان ما من الذاكرة..فما هو الاتجاه الذي سوف تجترحه بوصلتي وتتخذه خطواتي المترنحة ممشى لها في سديم ماض أضحى معتما رازحا تحت ركام السنين التي تعاقبت عليه وما تزال؟.
لنعد مرة أخرى إلى الفضاء القاحل المطوق من جهة الغرب بجبل أزكيغ؛ وأقصد به مجمع الفكارة..هنا لا وجود للنخيل المثمر..أهالي المجمع يشترون الثمر من السوق تماما مثل الآخرين الذين لا وجود للنخيل في مواطنهم، وإن كان موجودا فهو عقيم..في المحيط القريب من المجمع، يرى الزائر مساحات مسيجة بحطب السدر الشائك وهي فارغة من أي نبات تتبعه غلة،..هناك فقط شجيرات لوز متناثرة هنا وهنا ترفض أن تموت واقفة في وسط طبيعي قاس وبخيل..
وأمام انعدام حقول القمح والشعير التي عادة ما تتماوج سنابلها على إيقاع هبوب الرياح في أواخر فصل الربيع، يسهل على الزائر المفترض أن يستنتج أن النشاط الفلاحي الأساسي الذي يزاوله الأهالي لكسب عيشهم ليس شيئا أخر غير الرعي..ونظرا لندرة وقلة الكلإ، تلاحظ غيابا تاما لحيوانات معروفة بنهمها وشراهتها؛ مثل الأبقار والبغال والحمير..لذا تقتصر تربية المواشي هنا على عدد محدود من رؤوس الغنم والماعز التي ترعى جنبا إلى جنب بود ووئام..
أحيانا يمتد بصري بعيدا في الأفق فيبدو لي القطيع على سفح الجبل منهمكا في قضم العشب مثل حفنة من حبات حمص مقلي تتخللها زبيبات سمراء.
قر قراري على مغادرة الكصر حيث دفنت حيا في غرفة صغيرة ومظلمة.. جدرانها الأربعة وأرضيتها وسقيفتها، كل ذلك من طين..كان قدري دراميا إلى حد بعيد؛ وإلا ما كان له ان يصر بقوته المطلقة القاهرة على أن أعانق التراب قبل الآوان، وأنا مقبل على الحياة، فتى في عز الشباب..
أنا الآن أسكن في غرفة بنيت بالطين المشكوك في التابوت خلف أحد أقسام المدرسة على أساس أن تكون مستوصفا..لكن تأخر تعيين إطار شبه طبي وانهيار أحد أركانه بسبب ما تسرب إليه من مياه الأمطار جعلاه مشروعا فاشلا، فأصبح مكانا مهجورا إلا من القوارض والسحالي..
الشيء الوحيد الذي غنمته من مرقدي الجديد هو أني صرت في تواصل مستمر مع الريح والجبل كليهما..لو اكتفيت بهذه الكلمات الأخيرة ثم غيرت مجرى الكلام، لكنت ذا قصد مكشوف لإرباك القارئ ووضعه أمام لغز محير..وحتى وإن كان من حقي الاستنكاف عن عرض مزيد من الضوء على ادعائي الأخير بأني تواصلت مع الريح والجبل بحكم أن أحد بنود الميثاق الضمني المؤسس لهذا الحكي يسمح لي بأن أؤجل الاستفاضة في هذا الموصوع إلى زمن لاحق لأعالجه كثغرة بسيطة في المعمار.
هل نبدأ بالريح أم بالجبل؟ أكاد أسمع أصواتا تفضل البداية بالريح وأخرى تحبد إعطاء الأسبقية للجبل..هل أستعمل سلطتي كراو من أجل الحسم في هذا التباري فأختار البدء بأحدهما والختم بالآخر، فأتهم لذلك بالانحياز إلى طرف على حساب الطرف الآخر؟..
منطق الحكي المتبنى في ما بين هذه السطور يبرئني كلية من هذه التهمة ويعفيني من الوقوف في قفص الاتهام..ألم أكشف لكم منذ البداية عن رغبتي في تكسير رتابة السرد وفق ترتيب زمني اعتيادي وتحليله إلى وحدات متشطية قد يسبق لاحقها سابقها ويلحق سابقها بلاحقها..
ربما لكثرة المزالق التي يحف بها هذا الاختيار قاسمني سعيد تيركيت الخوف من التيه.
طبيعي، والحالة هاته، أن أصبح بقدرة قادر متمكنا من استيعاب الدلالات والمعاني التي تكتنف أصوات الريح المزمجرة آناء الليل وأطراف النهار ما دمت قد اخترت مكرها الإقامة في كوخ مشرع على الهواء الطلق..
هكذا تعلمت لغة الريح في الأيام الخمس الأولى من المدة، التي عشتها تحت سقف هذه الزنزانة الطوعية، بدون معلم..كانت الريح القوية تهجم علي من الركن المهترئ محدثة صخبا، وياله من صخب!..السبب في حدوث هذا الصوت الغريب عن أصوات الريح كلها في كل الأحوال الجوية كان يكمن في كون الريح كانت تعبث بجزء من صفيحة قصديرية ذهب الماء بالطين الذي كان يدعمها في أعلى الركن..
لهذا لم يعد صوت الريح هريرا أو هزيزا أو خواة أو هفيفا أو خريرا أو صرصرا أو قصفا او هجيجا..بهذه الطريقة الموغلة في التوحش، كانت الريح مونستي في خلوتي ويقظتي بعد غفوتي..
أما حديثي مع جبل أزكيغ، فتلك قصة أخرى..كان الجبل عاريا من الآشجار، قريبا من المدرسة، لكن نظرا لطوله وعلوه تبدو الأخيرة مسحوقة تحت وطأته..بحكم تنقلي ذهابا وإيابا بين مجمع الزاوية الذي يحتضن هو الآخر مدرسة فرعية تابعة لمؤسستنا وبين دوار الفكارة أدركت ضخامة الجبل وشساعته الجغرافية..لكن بقي ما وراءه عندي في حكم المجهول..
ذات يوم، عزمت على استكشاف ما يحجبه عنا من عوالم وفضاءات..
صعدت إلى قمته التي تشبه ظهر دينصور ضخم وعثرت هناك على ركامات من الآحجار السوداء المكعبة الأشكال..لا شك أن الأجداد والآباء الأولين لهؤلاء السكان المحليين كانوا يتخذون من هذا المكان المرتفع ملجأ لهم في الظروف العصيبة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube