سناء أرحال/ نيويورك
ليس من البدعة وصف الدكتور محمد الشرقاوي ب”بوذا” المحللين السياسيين، فهو الباحث وأستاذ تسوية الصراعات الدولية في جامعة جورج ميسن في واشنطن، والمفكر والمحلل السياسي المغربي، والخبير السابق في الأمم المتحدة. إذ يملك مقدرة معرفية هائلة، وخلفية فكرية متينة، وملكة إدراكية عميقة تُمكّنه من الفهم والتشخيص على نحو منقطع النظير، ليستنبط ما لم يستطع غيرُه استنباطه، ويستقرئ ما فات الكثيرين استقراؤه. فليس كل من حاز على شهادة الدكتوراه من الجامعة، قد حاز على ذلك النضج العلمي والحنكة في تصريف المعطيات وفق أسس علمية أكاديمية سليمة تنأى عن المغالطات والمبالغات.
ويلامس أي مشاهد لحوارات الدكتور الشرقاوي تجربته الكبيرة في الكتابة السياسية السديدة، والنقد البناء، والتحليل العميق، وهو يستدلّ بأمثلة تطبيقية عن الخطابات السياسية.
قاعدة أكاديمية وبيانات علمية
لا يعتمد الدكتور الشرقاوي في تحليلاته على الممكنات القائمة على تصور شخصي، بل يؤسّس كل قراءة سياسية على قاعدة بيانات علمية معزّزة بمعطيات أكاديمية بحتة، تنهل من مختلف العلوم، ويقارب من خلالها الفعل السياسي، بتدقيق الأكاديمي ومهارة ودينامية الإعلامي. ويتفوّق في توظيف مناهج تحليل الخطاب السياسي عبر تنويع زوايا المقاربات، مستعينا بتقنيات تحليلية تنبثق من مصادر مختلفة كالتحليل البنيوي، والنوعي، والكمي، والنفسي وغيره، بموازاة اعتماده على الزخم المعرفي والمفاهيمي لجملة من العلماء والفلاسفة والمفكرين في مختلف العلوم، أبرزها علم السياسة والابستمولوجيا واللغويات.
يركز الدكتور الشرقاوي على فلسفة البراغماتية في تحليلاته السياسية، نظرا لكون الكلمات والفكر ينطويان على نتاج وأفعال، في رفضٍ لكون الملفوظات مجرد تعبير عن الواقع وتمثيله. واللغة ليست أداة للخطاب فحسب، بل وأيضا وسيلة دامغة للتأثير وتشكيل السلوك الإنساني، ومن ثمة بلورة المواقف والأحداث. كما أنه يحرص على أن يكون تحليله السياسي مبنيا على المنطق والعقلانية، فلا يتوانى في تفكيك الخطاب إلى مقاطع وعبارات ومرادفات، قصد التمحيص فيها لغويا ودلالة، ثم تشخيص الخطاب في سياق مختلف التأثيرات الفكرية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها من المجالات. ثم يضع الخطاب في قالبه الزماني والمكاني لاستخلاص تجليات الخطاب التي يسعى وراءها المتحدث أو المسؤول السياسي، دون إغفال ضرورة تحديد الرابط بين الخطيب والمخاطب لتفعيل آليات البحث والتدقيق.
نظرية التعقّد والتّداخل
يبدو التحليل السياسي للخلافات والأزمات أو الحروب، دولية كانت أم أهلية، بمثابة مشرط يمسك به الدكتور محمد الشرقاوي لإجراء عملية تشريح دقيق لعِلَّة القضية وروافدها الجذرية في الماضي، كما يجعل من عملتيْ الاستقراء والاستنباط متلازمتين لثلاثية عناصر أساسية، وهي ما يمكن اصطلاحه ب ” ثلاثية مترابطة الأضلاع”: السّياق وخلفيات الحدث، والديناميات الراهنة، والمصير (أي استشراف ما سيتحوّر إليه الوضع في المستقبل). فيستطلع عبر هذه الثلاثية مدى التقاطعات والقرائن بين كل حدث أو خطاب سياسي وبقية الأحداث وردود الفعل لدى الأطراف المعنية الأخرى.
من جهة أخرى، ينطلق هذا المحلل المتمرّس من واقع أن أصحاب القرارات والحكومات وحتى المنظمات الدولية لا يتحرّكون في مدار أجوف أو قدرة مستقلة على الفعل، بل ضمن شبكة من التحديات والإمكانيات. وينطوي التحليل السياسي لديه على توظيف نظرية التعقيد والتداخل Complexity theory، حتى تكتمل له رؤية الأسباب والديناميات المتداخلة والعلاقات المتشابكة بين الفاعلين السياسيين وقوة الخطاب.
ويتيح اعتماد الدكتور الشرقاوي هذه النظرية عند تحليله للوقائع والأحداث الجمعَ بين المستويين النظري والعملي، والمناورات بين قوى الضغط من الأعلى إلى الأسفل للحفاظ على الوضع القائم، مقابل قوى الدعوة من أجل التغيير من الأسفل إلى الأعلى، فضلا عن بقية العناصر غير الجامدة ضمن نظام متعدد الجزئيات وقوى الدفع في اتجاهات متعاكسة، إلى جانب سلاسل متعددة من التبعيات، وتنافس القيم والمبادئ مع المصالح والنزعات الانتهازية، ضمن جدلية الواقعية السياسية والمثالية السياسية، وذلك على طول خط التنافس الأزلي، وأحيانا الصراع، بين قوى الشرّ وقوى الخير.
معرفة متنوعة في التخصصات
يتوصل المشاهد “المهتمّ” بالشأن السياسي و”المدقّق” في الحيثيات والتفاصيل إلى أن تعليقات الدكتور الشرقاوي خلال المقابلات التلفزيونية، ترصد إلمامه المتين والشامل بمجالات معرفية متنوعة، حيث يصعب تصنيفه ضمن تخصص واحد، كالعلاقات الدولية أو علم الاجتماع، أو علم النفس. بل يستثمر حمولته العلمية والمعرفية عبر مفاهيم وأدوات تنهل من خزان ثري لتخصصات متعددة، مثل التاريخ وعلم الاجتماع السياسي ونظريات الصراع والسلام والدراسات الفلسفية، تمثل دائرة واسعة حول القضية أو الصراع.
ويتجلى تكوينه وممارسته في مجال تسوية الصراعات وبناء السلام، كتكريس لمنطلق يصعب الحسم فيه عند محاولة الجمع بين معرفة متعددة التخصصات أو معرفة عابرة للتخصصات، في مقابل ما تعكسه نقاشاته في الندوات والمقابلات التلفزيونية من وعي كبير بالتحديات التي يواجهها التحليل البنيوي والذي لا يزال مهيمنا على علم السياسة والعلاقات الدولية والقانون الدولي.
يأتي حديث الشرقاوي في أغلب الأحيان من منطقة التقاطع أو الصدام بين الحكومات والدول والحركات الاجتماعية وبقية الفاعلين من غير الدول non-state actors. لذلك يعتمد أدوات تحليل متوازية بين نظريات البنية ونظريات الفرد ونظريات التطور ضمن أنظمة متداخلة مركبة. وكما قال في إحدى محاضراته في الرباط عام 2019، إنه “يدعو إلى تعاون ثلاثي أفضل بين نظريات الشخص ونظريات البنية ونتائج العمل الميداني، للمساعدة في فهم سؤاليْ: كيف ولماذا… هناك فجوة متنامية بين الدولة والمجتمع تدعو لتعاون جَسُور بين شتى العلوم الاجتماعية والرؤى المستنيرة.”
التحليل السياسي: مسؤولية أمام المجتمع
لا تحضر ذاتية هذا المحلل السياسي في تفسيراته ونقاشاته، ولا ينزلق حديثه نحو نوع من التبشير الأيديولوجي العلني أو المبطّن لفكرة أو جهة معينة. ولا يتخلى عن صرامته النقدية في كل اتجاه، وهو من قال: إن “ما ينقصنا في العالم العربي التمييز بين النقد التقريظي البناء من أجل التقويم critique وعدم خلطه بمنطق النقد السلبي criticism”. ويعكس حضوره المتواتر عبر شتى القنوات الدولية في الشرق والغرب مصداقية اجتهاداته في التحليل السياسي، وأن أحاديثه أمام الكاميرات ليست وظيفة سياسية أو شهرة إعلامية، بل تضع على عاتقه مسؤولية أخلاقية أمام الجمهور، وأمام المجتمع برمّته. وكما تجتمع في شخصيته قناعات الإعلامي والأكاديمي، فإن لغته تنطلق من قاموس محايد وواقعي يترفع عن التبعيات أو الوصايات السياسية، وهذا ما لا يصل إليه منافسوه في الجانب الآخر من الشاشة.
رجاحة العقل وهدوء النفس
إذا كان التحليل السياسي هو الاستيعاب الدقيق للأحداث السياسية ودوافعها ومساراتها وأبعادها وتجلياتها وكذا تبعاتها، فإن الدكتور الشرقاوي يمارس التحليل كنشاط حر بأسلوب عذري يحمل صفة النزاهة الخالصة. خلال المقابلات التلفزيونية، تجده ماثلا أمام العدسة بشموخ علمي، وتواضع إنساني، رزين الحركة، ثابت النظرة. ولسانه ينطق بفحوى عميقة الدلالة، لا تشوش عليها الزلات أوالتلعثمات ولا تحجبها الإيماءات أوالحركات.
سواء في اللقاءات التلفزيونية أو الندوات العامة، يتنبه المشاهد إلى رجاحة عقل الدكتور الشرقاوي في إبداء أفكاره، استنادا على حجج وبراهين علمية صحيحة لا تنحاز لشيء. وحتى في الحالات التي يسعى المحاور لاستفزازه، تراه منشرح القسمات، منغمسا في الكم الهائل للمعلومات التي يستعرضها بثقة واضحة، لا يبالي إلا باستكمال معنى ما هو بصدد تحليله. فنبرته الصوتية الفخمة والموزونة تستقطب المشاهد لمتابعة فحوى النقاش، وباحترام جليل لأدبيات الحوار، ترى الدكتور الشرقاوي يحسن الإصغاء للآخرين دون مقاطعتهم، وحين يأتي دوره في الحديث، يسترسل في الكلام على نحو يميزه عن الباقين في اللقاء.
يتوصل المشاهد مع نفسه إلى أن الدكتور الشرقاوي يستطيع بامتياز السيطرة على أطوار النقاش بهدوء لافت وإلمام واسع بالموضوع، وطريقة فريدة في التعبير، لحد الاستئناس بكل ما يقول. ولأنه يتمتع بتأهيل سياسي كبير، تجده متحكما في المواضيع ومسيطرا عليها أثناء النقاش عبر كل المقابلات والحوارات، بما يعكس مواكبته الحثيثة للمتغيرات على الساحة السياسية.
تحليل بأخلاق وطراز خاص
في كل ظهور للدكتور الشرقاوي، تتجلّى إفاداتُه على نحو متنوع ومتجدد وشامل، بمنأى عن التكرار والحشو والاجترار. ويستعين في تحليله السياسي بأسلوب يتسم بالإيقاع والتنظيم والتناسب، إذ يخلق لدى المشاهد صورة ذهنية واضحة ومتكاملة كأنها تسافر به إلى قلب الأحداث.
لا يرى الدكتور في التحليل السياسي مجرد نقل وسرد للمعلومات في محاكاتها للأحداث، بل يوظفها في قالب ممتع، كثيرا ما يكشف عن المضمر منها، ليصبح سهلا على المشاهد التكهن بأطوار هذه الأحداث في استباق للزمن. وقد يلاحظ المشاهد أن بعض المحللين يعبرون عن انفعالاتهم الخاصة إزاء الحدث، حتى تجيء تحليلاتهم بحمولة الأحكام الذاتية أو الانحياز أو العاطفة، في حين أن الدكتور الشرقاوي يحرص على أن يكون إخلاصه للتحليل مثل الإخلاص للذات باتزان كبير في الحياد والموضوعية.
لا نجانب الصواب بالقول: إن الدكتور الشرقاوي يجعل من تحليله السياسي نشاطا خلاقا وقدرة إبداعية قصد تشخيص الوقائع ورصد الحقائق وكشف الخفايا، حيث إن رؤيته دائما ما تكون صائبة. والتحليل السياسي لديه جزء لا يتجزأ من صميم تكوينه العلمي والمعرفي، بمعنى آخر هو مهارةٌ تفرض على الموضوع الذي يعالجه توقيعا يحمل طابعه الخاص، بل أصبح مرجعا قويا ومفيدا للكثير من المفكرين والمحللين السياسيين، بمن فيهم الدخلاء على التحليل السياسي.
ومن ثمة لابد من تجديد القول: إن الدكتور الشرقاوي جعل من التحليل السياسي إنتاجا خاصا به يحمل طرازه ولا يشابهه أحد، فيما يسعى الكثيرون إلى تقليده عن وعي بقيمته الإنسانية والعلمية، إذ لا تخضع قراءاته لأهداف ولا منافع، بل تستند على مصداقية وشفافية وجدية وموضوعية، نادرا ما تجتمع في محلّل سياسي واحد.