تجارب العدالة الإنتقالية بين زيف التطابق ووهم التميز
“” مدار البلاغة كلها على استدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم ، لأنه لا انتفاع بايراد الألفاظ المليحة الرائقة ولا المعاني الدقيقة دون أن تكون مستجلبة لبلوغ غرض المخَاطَب بها “”
ابن الأثير . المثل السائر ج 2 ص 4 .
تنطلق الرواية الرسمية من أن تجربة العدالة الانتقالية بالمغرب تجربة متفردة بخصوصيتها ويميزها بالأساس كونها تمت في ظل استمرار نفس النظام السياسي ، وهو توصيف يستبعد واقعة حصول أي انتقال من سلف إلى خلف ضمن مسطرة انتقال الملك وراثيا من ملك إلى ولي عهد ، ووفق ما يحددها الدستور المغربي ؛ هذه العملية الانتقالية التي تأسست على مشروع شرعية جديدة تروم القطع مع الأوقاع السلبية للعهد البائد ، سمي إعلاميا ولاحقا بسنوات الرصاص . صحيح أنه لم يقع أي إنقلاب ولا ثورة ولا حرب أهلية ، لكن الانسياق مع هذه الخاصية ، وتجاهل أنه حصل تغيير في القاعدة الاجتماعية للنظام ، سواء داخل الجيش أو الاجهزة الأمنية ، ناهيك عن حصول مراجعات مذهبية وسياسية داخل المعارضات الحزبية اليسارية ، هذا النكران والتجاهل يجراننا إلى طرح سؤال الباعث إلى الدفع واستعمال ورقة الشذوذ عن بقية سياقات ” العدالات الانتقالية ” ، ألم يكن العهد الجديد في حاجة إلى شرعية مختلفة تميز ذهنية الملك الشاب الوارث عن عقلية الملك الراحل المُوَرِّث ، شرعية جديدة لا تكفي فيها زعم وراثة فضائل الشرعية التاريخية والوطنية المشتركة مع الحركة الوطنية وفلول الحركة الديمقراطية ، والمنتهية اطوارها مع وأد تجربة التناوب التجريبي ؟ وأليست هاتان الشرعيتان المتوترتان والمترددتان معمدةً بتداعيات جراح تركة الماضي الأسود ، ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ، في قمتها عمليات الاختطافات السياسية والاغتيالات والإعدامات خارج نطاق القانون والقضاء العادل ، ناهيك عن الاعتقالات التعسفية وما يعتريها ويرافقها من تعذيب وسوء معاملة ، و كذا طول المدة وهي بمثابة إختفاء قسري ينتهي أحيانا كثيرة بالتصفية أو إطلاق السراح دون محاكمة ، وبعاهات مستدامة، وهي عمليات مخطط لها بشكل ممنهج ومتواتر تستهدف الحق في الحياة . من هنا وجب اعتبارها مجرد عملية إنتاج شرعية حقوقية لصالح مهندسي العهد الجديد ، وتعتمد تسوية سياسية بمقاربة حقوقية أطلق عليها نعت ” الإنصاف والمصالحة ” ، وفي عمقها تفاعل تجاوبي بقصدية الاحتواء وتوجيه دينامية الحقيقة والإنصاف التي أطلقها ضحايا سنوات الجمر أو ذوي حقوق المختطفين والمتوفين باسم منتدى الحقيقة والإنصاف ، الذي كان يشمل جميع المجموعات والفعاليات ، بمن فيهم الضحايا المتهمين في قضايا الانقلابات والانتفاضات والعمليات او النزاعات المسلحة ؛ على امتداد الوطن بأقاليمه الجنوبية ، أي الصحراء وما ينجم عليها من تنازع إرادات الانفصال أو الاتصال . وكانت عناوين المرحلة هي الكشف عن مصائر المجهولي المصير وإنقاذ حيواتهم . وبذلك لم يكن من الداعي التمسك بورقة التميز والاستثناء ، لأن الشرعية المنشودة كانت تحتاج إلى القطع مع الماضي والمصالحة في ضوء القطيعة مع المجتمع ، ولأننا لم نكن نبحث عن التطابق بين التجارب ، لأن إدعاء تطابق التجربة المغربية إدعاء زائف ، وبنفس القدر لا يمكن الجزم بأن هناك إطلاقية في الاختلاف فيما بين التجارب ، ولا زعم وجود تماثل في ما يخص المساطر والمقاربة ، فرغم هيمنة المقاربة التعويضية بالنسبة للتجربة المغربية ، فينبغي تقييم وقعها على عملية جبر الضرر الفردي وبناء مقتضيات المصالحة ، وذلك في ضوء إمساك الفاعلين السياسيين عن تفعيل الشق السياسي والمؤسستي لتوصيات هيئات الإنصاف والمصالحة ، و المسماة وجيهة بمقتضى الخطاب الملكي والتي صادق عليها وأمر بتنفيذها وبدسترتها ، خصوصا تلك التوصيات المهيكلة لدولة القانون، والمؤطرة بإصلاح مؤسستي وتشريعي يروم إرساء تدابير وضمانات عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة ، وقد كان كافيا مواصلة تفعيل مقتضيات المفهوم الجديد للسلطة مع إقرار البعد الإجتماعي في عقيدة الدولة ( الاجتماعية ) وهوية مؤسساتها وأحزابها الإدارية وسياساتها العمومية ، خاصة في ظل تصاعد التنافس حول الشرعيات المالية والإقتصادية وتفاقم مخاطر التنازع حول الشرعيات الدينية والاجتماعية ؟
إننا بصدد مفارقة تشوش على أنفاس العملية المرافقة للعهد الجديد والتي استنفذت ولا يمكن تجديد روحها إلا
بإقرار جيل جديد من الإصلاحات التحديثية ، استدراكا وتجويدا ، في أفق التأسيس للشرعية الدمقراطية والتي لا يمكن تصورها دون تصفية البيئة الحقوقية وخلق شروط انتقال أمني .
مصطفى المنوزي