ثقافة وفنون

قصة قصيرة: بقايا أعمار ..

مصطفى الزيـــن

عهدي بمن يجلس قربي إلى طاولته بنادي المتقاعدين رجلا وخط الشيب رأسه. وجدته جالسا، قبل أن أجلس إلى طاولتي موليا إليه ظهري، منشغلا بلوحي وبجديد أصدقائي على الفايس..ولكن ، هاهو يربِّت على كتفي مستديرا بكرسيه إلي؛ رجل قمئ يلبس بدلة أنيقة سوداء وربطة عنق ملونة.غير أن وجهه وجه قرد تماما..قال لي، دون مقدمات:
-رُدَّ علي العشر سنوات المتبقية من الخمس عشرة التي اغتصبتها من عمري يا ابن آدم.
فكرت إن كان الأمر يتعلق بمقلب كاميرا خفية أو ماشابه..، أو إن كنت أحلم..فركت عينيّ جيدا، ورأيت حديقة النادي شبه فارغة إلا مني ومنه وأحد الندل يصفف الكراسي..كانت الساعة نحو التاسعة صباحا،كنت أوصلت، بسيارتي ، المتهالكة حفيديًّ إلى المدرسة، وأمهما : زوج إبني الوحيد، إلى محلها البوتيك الصغير حيث تشتغل، وتواعدنا على أن أعود إليها بعد ساعتين ونصف، كي نتسوق ما يلزم المطبخ والبيت، قبل أن نصحب معنا الطفلين عند نهاية حصصهما الصباحية.. التفتُ إلى حيث الرجل القرد ، لكني لم أجد له أثرا، وكأنه تبخر في الهواء..
لاحظ النادل الذي أقبل ببراد الشاي..والجريدة، ارتباكي ، وربما امتقاعي وخوفي..لكنه ألقى التحية ووضع الأشياء على الطاولة، وانصرف إلى عمله..فعدت انظر إلى الطاولة خلفي ،واستدرت تجاهها..لا أحد تماما من إنس أو جن، حتى قطط النادي كانت تسترخي بعيدا، بكسل،في أشعة الشمس الخريفية..كررت التعوذ بالله، وقرأت المعوذتين، واحتسيت رشفات سريعة من الكأس أمامي..وانصرفت إلى حيث لا أدري سائرا متوجسا من كل من يسير أو يمر خلفي..
كدت أنسى الأمر؛ ولكن ،وأنا بمدخل المارشي مع كنَّتي ، أحسست بكفه الخفيفة على كتفي ، وسمعت منه نفس الجملة:
-“رُدَّ علي السنوات العشر المتبقية..”
كان بوجهه القردي وبعينيه الصغيرتين يحدق فيَّ. ولا أدري إن كان يضحك..فالقردة دائما تضحك، وصوتها يسمى الضحك أو القهقهة..
كانت كِنَّتي تقدمتني بخطوات إلى الخضري، تحسبني إلى جانبها..أسرعت ملتحقا بها، متهربا من صاحبي متلفتا..وكأنه تبخر في الهواء..
أحسست به ، مجددا ، يجلس على المقعد بجانبي بالسيارة، يخاطبني:
-لا مفر لك،أيها الخبيث ، مما أطالبك به، وإني لن أكف عن مطاردتك..
نظرت إلى المرآة الريترڤيزور أمامي كانت كنًّتي ،بالمقعد الخلفي ، منشغلة بهاتفها الذكي ..ثم الى جانبي ..كان المقعد فارغا..
جفاني النوم بالليل.لم يعد اللعين، ولكن عادت ذكرى المرحومة زوجتي التي حيرتي قبل سبع أو ثمان سنوات..كانت تصحو في عز الليل مذعورة باكية ، تستغيث بي من “الكلبة”!
-أية كلبة؟! ..يا امراة؟ !
كانت تقول إن كلبةً بيضاء تطاردها في اليقضة والمنام.. تطالبها بأن ترد عليها سبع سنوات المتبقية من السنوات التي أخذتها من عمرها..كادت ،رحمها الله، تُجنّ، وبخاصة لما أكرهناها -أنا وابننا -بعرضها على الطبيب النفسي..تفاقم رعبها وأرقها، ورحلت إلى ربها، وهي دون الثامنة والأربعين-كانت تصغرني بنحو عشر سنوات-.. رحلت بعد ثلاثين سنة من اقتراننا..
عندما،أخبرت ابني-نجيب المحامي-هو في نحو الرابعة والثلاثين من عمره -بمعاناتي من شبح القرد الذي يطاردني، حاول أن يهدئ من روعي، قائلا إن ذلك ربما ليس إلا من تأثري بمرض والدته وحكايتها مع شبح الكلبة.. لكننا ، ونحن نتناول شايا، بعد الغداء منفردين، صارحني أنه ، هو الآخر ، يعاني حالة شبيهة بمعاناتي ومعاناة المرحومة..إذ منذ خمسة أشهر ، أصبح بعض زبنائه الذين يزورونه بمكتبه،كثيرا ما يتحول الواحد منهم إلى هيئة رجل برأس حمار وأذنيه، يطالبه بأن يرد عليه تسع سنوات من خمس عشرة سنة، يزعم أنه اغتصبها من عمره، دون وجه حق ، وكان الحمار، أيضا، سرعان ما يتبخر في الهواء، قبل أن يعاود الظهور ومطالبته برد سنوات عمره المغتصبة..!
تذكرت تلك الحكاية التي رواها لي عم إدريس صاحب كشك الجرائد والمجلات ، قبل ما يقارب أربعة عقود ..كثيرا ما كان يشدُّني أو ينشدُّ إلى محادثتي…لا أذكر السياق،ولكن عمي إدريس كان يقول ضاحكا :
عمر الرجل الخالص ، الذي قدره له الخالق تعالى ، هو ثلاثون سنةً،لا غير. قبِلها الإنسان،على مضض. ولكن الله لما خلق الحمار، وسخره للإنسان، على أساس أن يحمله ويحمل أثقاله ..مقابل أن يطعمه الانسان، ويأويه، ويحميه من السباع والضواري..؛ قدر -تعالى -عمُر الحمار خمساً وعشرين سنة. لكن الحمار تضرع إلى الله أن يعفيه من خمس عشر سنة، فلا يعيش في خدمة الإنسان الظلوم الجهول إلا عشر سنوات..ثم خلق الله الكلب، وقدر عمره خمسا وعشرين سنة،فاستعفى الكلب ،ايضا، الخالق من خمس عشرة سنة لأنه استصعب أن يعيش تحت رحمة الانسان، لا يأكل إلا مما يفضل عنه من عظام وبقايا أطعمة فاسدة،فأعفاه الله، وجعل عمره عشر سنوات..ثم خلق الله القرد-حسب عم إدريس دائما، وقدر عمره كما قدر عمر كل من الحمار والكلب،فاستعفى القرد الله من خمس عشرة سنة، واكتفى بعشر..
فلما رأى الإنسان الجشع الحمار والكلب والقرد تزهد في ما يقارب خمس وأربعين سنة ،دعا الله أن يضيف إلى عمره تلك السنين ، فقبل الله دعاءه فأصبح عمر الإنسان يبلغ السبعين والثمانين سنة..
ولكن عم إدريس كان يقول:إن الإنسان،أو الرجل ،لا يحيا سوى ثلاثين سنة باعتباره إنسانا،ثم يدخل المرحلة الحمارية حمالا للأثقال ، بعد أن يتورط في الزواج والعيال..ثم يدخل المرحلة الكلبية ،فيصبح نباحا هرَّارا،في وجه أطفاله، وفي وجوه من يسيء إليهم. ثم يدخل، بعد الستين ، المرحلة القردية، فيمسي كالقرد ، يحك رأسه وحجره، وأسته، وأطرافه..، ويلاعب أحفاده، متقردنا مستضحكا ،وهم يركبونه ويشدون ذقنه ولحيته..
كنت سمعت هذه الحكاية من أمي رحمها الله، عندما كنت صغيرا ، لكني لم استوعبها كما استوعبتها عن عم إدريس بروحه المرحة وبأسلوبه الشيق ..
رويت لولدي الحكاية،أضحكته وأبكته..ثم قال لي :
-والله، يا أبي،إن الإنسان ، عندنا ، لم يعد يعيش إنسانا بمعنى الكلمة، حتى تلك الثلاثين سنة الأصلية، وإن الحيوانات ، في الشمال، تعيش منعمة مكرمة، هناك ، أفضل منا في الجنوب،ولا شك أنها ندمت على ما تنازلت عنه من عمرها للإنسان..
لا أذكر إن كان هذا الحوار دار بيننا،ابني وأنا، فعلا في يقضتي،أم كان في الحلم:قلت له :
-أنت يابني ، محام كبير ناجح، بحمد الله..لمَ لا نفكر في رفع دعوى ضد هذه الحيوانات التي تطاردنا اليوم، وتريد أن تستعيد منا ما تزعم أنا اغتصبناه من سنوات أعمارها..؟ لِمَ لا نرفع ضدها دعوى ،أمام محكمة الجن؟ كما رفعتها الحيوانات ،قديما ، ضد الإنسان أمام ملك الجان بيوَراسب الحكيم الملقب شاهرمردان، وقد سجل إخوان الصفا،في رسالتهم الرائعة “تداعي الحيوانات على الإنسان” أطوار تلك المحاكمة ومرافعاتها الرائعة،وقد انتهت بالحكم لصالح الإنسان،وإقرار الحيوانات بدعوى تسخيرها الإلاهي الحكيم لصالح الإنسان، وأوصى بيوَراسب الإنسان بحسن معاملة الحيوانات.. وقلت لولدي النجيب:
-ولكن،أين نجد قاضيا عادلا حكيما مثل ملك الجان شاهرمردان؟،وجزيزة مثل بلاصاغون؟ ،والبحر الأخضر؟..وأين نجد اليوم قوة المنطق والحجة والبرهان ،والإيمان ..التي امتلكها الإنسان في ذلك الإبان؟..
أجابني ولدي النجيب:
-لن نعدم قاضيا في عدل وحكمة شَاهِرْمَردان،أو بالأحرى، حكمةإخوان الصفا وخلان الوفا ، وقوة ومنطقهم،كما لن نعدِم جزيرة مثل بلاصاغون، في بلدان الشمال..ولا شك أن الحمار ،والكلب ،والقرد سيخسرون دعواهم ضدنا، بحكم تنازلهم الطوعي القديم، و تملك الإنسان لتك الفضلات من أعمارهم،ولحكم الأديان والشرائع،ولكني شخصيا- يا أبي العزيز- مستعد أن أتنازل عما بقي لي من أعمار الحمار والكلب والقرد،وأرى أن الإنسان ،فعلا يتنازل للحيوان حتى على الثلاثين من مرحلته الإنسانية..
أما أنا ،سارد هذه القصة، فإني في الخامسة والستين، وقد سلخت خمس سنين من المرحلة القردية،بعدما انهيت ، بنجاح نسبي ، المرحلة الكلبية، وقبلها الحمارية، بعد الإنسانية؛ أقول: لست مستعدا ، أبداً، أن أتنازل عما بقي لي من عمري، وسأطرد القرد الشبح،إن عاد يضايقني، شر طردة،
وإني سأبذل قصارى جهدي في إقناع حفيدي الإثنين بالتمسك بما امتلكناه من أعمار متخلى عنها،وإن كانت أعمار حمير وكلاب وقردة..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube