فيسبوكياتمستجدات

من شروط تحسين تفكير الناس الاهتمام بالثقافة كعمل حضاري

أحمد رباص – حرة بريس

تحدث الأستاذ سعيد ناشيد في إحدى أواخر تدويناته عن تحسين شروط التفكير لدى الناس. هذه المهمة التي تحدث عنها الأستاذ ناشيد لن تتحقق كدعوة موجهة إلى الناس بدون برنامج أو بدون استراتيجية محكمة الصياغة ومضمونة التمويل الذي لا بد وأن يوفره ارباب المقاولات الكبرى والملاكين والتجار الكبار الذين راكموا الثروات، وبذلك يساهمون في البرهنة بالبذل والعطاء على وطنيتهم وإرادتهم الارتقاء بمستوى تفكير أفراد مجتمعهم، ويعملون في نفس الوقت على إعداد بيئة ثقافية واجتماعية صالحة لتنشئة أبنائهم وأبناء غيرهم، وفي غياب هذا الشرط تبقى دعوة ناشيد كلام ليل يمحوه نهار..
بعد كتابة هذه السطور ونشرها على المنصةالزرقاء، ومن خلال ما لاقته من تأييد واهتمام من لدن بعض الأصدقاء، عاهدت على نفسي الدخول مع صاحب التدوينة في حوار تفاعلي، إن صح التعبير، حول ما تضمنته من مطمح لا يطرأ على بال إنسان ويطرق باب تفكيره إلا إذا كان من أهل التنوير الساعين لإضاءة الطرق المؤدية إلى الحضارة.
لكن، قبل الذهاب قدما في النقاش، لا بد من إنصاف الأستاذ سعيد ناشد الذي سوف يستاء من اختزال تدوينته في كلماتها الثلاث الأولى، وحتى لا يقع ذلك اورد النص الكامل لتدوينته:
“تحسين شروط التفكير من شأنه أن يقود عمليا إلى تحسين السلوك المدني، وتحسين شروط الحياة، بعيدا عن خرافة عصر ذهبي قادم في الأفق، أو عائد من جديد، بعيدا كل البعد عن أساطير الخلاص.”
من ناحية الشكل، نحن أمام كلمات بسيطة متداولة بكثرة تعكس رغبة كاتب في خلق محيط اجتماعي يزدهر بين افراده التفكير بعد تحسين الظروف. ومن حيث الجوهر، تكون نفس الكلمات بمثابة أشجار تخفي الوضع العام المزري الذي يتخبط فيه المجتمع المغربي وما فتئ يستفحل من يوم لآخر. وأعتقد ان وضع الحلول يأتي دائما بعد تشخيص المشاكل.
بثقة عالية في النفس، أجزم بأن تشخيص المشاكل التي تعوق محتمعنا المفربي ليس نصا غائبا، أقصد أن من بين إخواننا المغاربة المستعملين لهذه المنصة من له القدرة على تشخيص اعطابنا المزمنة والآنية. من هؤلاء أحمد الحطاب، أستاذ الأجيال والإطار التربوي الكبير.
قبل يومين، نشر هذا الأستاذ الجليل، العامل في صمت بعيدا عن الصخب والأضواء، تدوينة على شكل مقالة تعكس مدى إلمام كاتبها بمشاكل عصره ومجتمعه.
يقول الأستاذ أحمد الحطاب عن الاهتمام بالثقافة، بمعناها النبيل، إنه عمل حضاري. و الحضارةُ، بمعناها الأصيل هي الانتقال من عالم همجيٍّ تسود فيه السلوكات البهيمية (الغريزية) إلى عالم رُقيِّ و ازدهار تسود فيه السلوكات العقلانية المبنية على القيم الآنسانية مثل التَّساكن، التعايُش، التَّسامُح، التَّضامن، التَّعاون، الاحترام، التَّقدير، الأخوة، التَّعاطف، التَّقاسُم، الجمالية…
والثقافةُ يختلف مضمونُها من مجموعةٍ بشريةٍ إلى أخرى. غير أن هذه الثقافة، رغم اختلاف طقوسِها و ممارساتِها و استناداً إلى معناها النبيل الواسع، تركِّز دائما على ما ينتِجُه الفكر من معارف (معارف علمية من آدابٍ و فنونٍ و تقنيات أو من إنتاج المجتمع) و كذلك على ما له علاقة بالأمور و الأشياء الروحية و المادية و العاطفية، و بالطبع، فضلاً عن أنماط العيش و منظومة القيم و التقاليد و المعتقدات.
والحضارة لا تلتقي أبدا مع الأمية و الجهل. و بكل أسفٍ، الأمية هي التي تسيِّر جانباً مهمّّاً من شأننا المحلي. بينما الجهلُ يلقي بظلاله على شريحة عريضة من المواطنين. و عندما تطغى الأميةُ و الجهلُ على ممارسات الناس اليومية، يغيب الوعيُ (بمعنى إدراك الأمور). و غيابُ الوعيِ، هو بمثابة بقاء العديد من المواطنين في بوتَقَة السذاجة، الفكرية و الاجتماعية. و هو ما يؤدي إلى التَّعامل مع الأشياء و الأمور بعفويةٍ فائقة تكون فيها الأهواء هي سيدة الموقف و ليس النُّضجُ و النقدُ الفكريان.
فلا تبحثوا عن الثقافة، بمعناها النبيل، و لو بحثتُم، لن تجدوها لا في الأدمغة و لا على الورق. فما بالك بأرض الواقع؟
في هذا الواقع، توجد ثقافة أخرى مُعاكِسة للثقافة النبيلة، أي ثقافة هجينة من نوع لا يتقنه إلا الفاسدون المُفْسِدون. و أخطر ما في هذه الثقافة الهجينة أنها مُعدية إلى حد كبير. لأنها تنتشر بدون أقلام، بدون ورق، بدون كُتُب، بدون تعليم، بدون أقسام، الخ. ثقافةٌ يكون محرِّكُها الأساسي هو القيلُ و القالُ و الصُّور النمطية و “التْشلْهِيبْ” و النفاق و التَّملُّق… ثقافةٌ لا تعترف لا بالشواهد ولا بالكفاءات و لا بالقدرات… تعترف فقط و حصريا بمَن هو بارع في ممارستها. و يكفي أن نتجولَ في أرجاء البلاد لنرى معالمَها واضحةً للعيان.
وبالموازاة مع هذا الوضع الثقافي الهزيل، المُشين، المتسلِّط و الشائع، تبقى، و بكل غرابةٍ، الثقافةُ بمعناها النبيل مهمَّشة، منسية تعاني، مُكرهةً، من الاحتضار. احتضارٌ عنوانُه تراجُع الفنون. المسرحُ أنهكته التفاهة و الموسيقى أُفرِغت من الإبداعِ. أما الآداب la littérature، فحدِّثْ و لا حرج. أمهر و أحسن و أروع الآنتاجات الأدبية و الفكرية لا يتجاوز سحبُها ألفي نسخة. و دُورُ و قاعات السينما و المسرح مهجورة. أما الغناء فقد اندثر زمانُه الجميل و لم يعُد إلا نشازا تتنافر فيه كلمات العرب و العجم. و بصفةٍ عامةٍ، الفنونَ اخترقها التَّسليعُ و لم تعُد إلا بضائع تُباعُ و تُشترى في غيابٍ رهيبٍ لقيماتِها الروحية و الحضارية. و حتى الأهازيجُ و العيطات، التي هي تراثٌ عريقٌ، استولى عليها تُجار الفن و حوَّلوها إلى مصدرٍ للاسترزاق. فما هي يا تُرى أسباب هذين التَّقهقُرِ و الاحتضارِ الثقافيين؟
الاسبابُ كثيرةٌ، متنوِّعة و متداخلة من بينها على سبيل المثال :

  1. الغيابُ القاتل للإرادة السياسة. في غياب هذه الإرادة السياسية، لن ينفعَ تداوُل الوزراء على القطاع الحكومي المكلَّف بالثقافة و لن تنفعَ مخطَّطاتُهم التَّنموية أمام هزالة ميزانيات هذا القطاع. و لهذا، فالإرادة السياسية يجب أن تبدأ عند الأحزاب السياسية التي تطمح في الوصول إلى السلطة. و الإرادة السياسية لا تُمطرها السماءُ. بل إنها جزءٌ من مشروعٍ مجتمعي يكون فيه بناءُ الإنسان المغربي المُتحضِّر مُتصدِّرا للأولويات.
  2. المدرسة لا تساهم في بناء الثقافة و لا تُعِدُّ حتى أرضيةً تساعدُ على انتشارِها. كيف ذلك؟ مدرستُنا، في زمان الرقمنة و وجود المعرفة في متناول اليدِ، لا تزال تركِّز على تبليغ المعرفة و شَحنِ الأدمغة بها. معرفةٌ، في غالب أطوارِها، لا يعرف المتعلِّمُ لماذا بُلِّغَتْ له. لكنه يعرف تمامَ المعرفة أنه، إذا لم ينقُشْها في ذاكرتِه، قد تكون سببا في فشلِه المدرسي. مدرسةٌ تزكِّي الببغائية و تدفع المتعلِّمين إلى النبوغ فيها. مدرسةٌ تجعل من المعرفة غايةً في حدِّ ذاتها بينما هذه المعرفة تتغيَّر بسرعةٍ فائقة إلى درجة أن ما يتلقَّاه المتعلِّمُ من معارف داخل المدرسة قد يكون ن مُتجاوزا بالنسبة لما يحصل عليه هذا الأخيرُ من خلال الشبكات العنكبوتية. و لا داعيَ للقول أنه، عندما تعتبر المدرسةُ المعرفةَ كغايةٍ في حد ذاتِها، فإن تبليغَها للمتعلِّمين يتمُّ دائما على حساب نموِّ و بناءِ شخصية هؤلاء المتعلِّمين. و بناءُ الشخصية لا يتمُّ، على الإطلاق، بشحن الأدمِغة و ملئِها ملأً قهريا. بناء الشخصية يتمُّ عن طريق تنمية و استعمال القدرات الفكرية استعمالاً مفيداً و مُجدِياً. و لهذا، فالمعرفةُ المدرسيةُ لا يجب أن تكونَ مًسخَّرةً للحفظ و الاستظهار بل أن تكون دعامةً فعالةً لنموِّ و تنمية القدرات الفكرية. المجتمع و الحياة اليومية و سوق الشغل لا يحتاجون إلى أدمغةٍ تتزاحم فيها المعارف بدون جدوى بل لأدمغةٍ جيِّدة و متناسقة الملء و التَّركيب. فالمتعلِّم الذي يغادر على الأقل تمَدرسَه الإجباري يجد أن دماغَه قد تبخَّرَ منها ما خَزَّنت من معارف أُجبِرَ على حفظها و استظهارها، و في نفس الوقتِ، غيرَ مُتفتِّحٍ فكريا و اجتماعيا (لا أعمِّم). و لهذا، قلتُ أعلاه إن المدرسةَ لا تساهم في بناء الثقافة ولا تُعِدُّ حتى أرضيةً تساعدُ على انتشارِها. و فضلاً عن كل هذا، المدرسة لا تحثُّ المتعلِّمين على القراءة و لا تزرعُ فيهم حبَّها علما أن المثقَّفَ هو الشخص الذي لا يتوقَّفُ عن القراءة، و هو كذلك الشخص الذي يجدِّدُ أفكارَه و فكرَه بلنتظامٍ و لا يسمحُ للمعارف أن تنفذَ إلى دماغه دون مرورِها من مِصفاة الفكر النَّقدي.
  3. ما أهملَته المدرسةُ في حق بناء الثقافة، عزَّزته و تُعزِّزُه الأحزاب السياسية و المجتمع المدني. الأولى ليست لها، كما سبق الذكرُ، الإرادة السياسية للنهوض بالثقافة بمعنى أن إرادةَ الوصول إلى كراسي السلطة أقوى بكثير من النهوض بالثقافة. و اليوم الذي ستتمكَّن فيه هذه الأحزاب من تجويدِ أداء المنظومة التربوية، سيكون هو اليوم الذي سيكون فيه لها يدٌ للنهوض بالثقافة. أما في الزمان الحاضر، لا تزال الأحزاب السياسية تتنافس في إيجاد و تجديد آليات الوصول إلى السلطة. أما الثقافة، فبإمكانِها أن تنتظرً إلى يوم يُبعثون. و لا تزال تنتظر! أما الثاني، أي المجتمع المدني، فإنه، بكل بساطةٍ، انحرف عن هوِيته. و كونُه مدنياً يعني أنه مستقلُّ عن جميع السلطات و المؤسسات العمومية و الخاصة. لكن هيهات، المجتمع المدني، و خصوصا في شقِّه الجمعوي، أصبح (لا أعمِّم) لقمة سائغةً لمن يؤدِّي أكثر. و بالتالي، “يبيع الماتش” كلما كان الأداءُ مرتفعاً. حينها، ينحدر بناءُ الثقافة إلى أدنى المستويات. هذا إن لم يصبح وسيلةً للمزاد في سوق الأداءات.
  4. النهوض بالثقافة لا يتمُّ و لن يتمَّ عبرَ تشجيع النشر و تقديم المساعدات و تكريم الفنانين و الأدباء و الكُتاب و ترميم الآثار و إنشاء المسابقات و إصدار المراسيم… النهوض بالثقافة يتمُّ عبرَ رؤيةٍ وطنية متكاملة، متجانسة و شاملة يجد فيها كلُّ مَن يهمُّه الأمرُ كرامةَ عيشه و فرصةَ نبوغه و إبداعه. و هنا، لا داعيَ للقول أن ركنَ الزاوية في هذه الرؤية هو أن تصبح الثقافة صناعةً قائمةَ الذات. صناعةٌ تكون فيها الثقافة مصدرَ إنتاج اقتصادي و ليس مصدرَ استهلاكٍ كما هو الشأن اليوم. و لا داعيَ للقول كذلك أن الجميع سيجد نفسَه في هذه الصناعة : المستثمرون، الاقتصاد، الدولة (توسيع وعاء الضرائب)، الإشعاع الوطني و الدولي، الناشرون؟ وسائل الإعلام، المثقفون و الفنانون (توفير كرامة العيش)… لكن ما أبعَدَنا من هذه الرؤية التي لم ينفع فيها، إلى حدِّ الآن، لا لَغَطُ البرلمانات ولا ميزانيات الحكومات و لا تشدُّقُ الأحزاب السياسية و لا تعاقبُ الوزراء و لا استنكارُ بِلال مَرمِيد ولا غضبُ بعض النِّقابات ولا…
    الثقافة لا تزال في حاجة إلى شرفاء يهتمُّون بها ليصبحَ هذا الاهتمامُ عملا حضارياً كما جاء في عنوان هذه المقالة.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube