ثقافة وفنونمستجدات

ســرديات: الحب والسرقة بيني وبين الخرَّاز

مصطفى الزِّيــن

 تعودت ، منذ شهر تقريبا ، أن لا أخلد الى النوم   ، مهما كتبت أو قرأت ..، إلا بعد أن أتابع إحدى حلقات ما يحكيه ، ويحاكيه، ضابط الأمن المتقاعد السيد عبد القادر الخراز ،على قناته أو قناة الحدث على الفيس، من قصص تحقيقات البوليس في بعض الجرائم أو الجنح.. 

وقبل أيام ، وأنا أتابعه وهو يحكي قصة جنحة طريفة تذكرت واحدة أخرى شبيهة بها ،لكنها ،فيما أظن كانت أطرف، حدثت لي ولجيراني ، قبل إحدى وعشرين سنة تقريبا:
كنت حديث عهد بالزواج ، لم يمر على زواجنا إلا ما يقارب أربعة أشهر ، وليس معنا بالبيت -زوجتي وأنا – إلا أختها الشابة التي جاءت معنا من تطوان ، بعد أول عطلة ، إلى بلدة أهرمومو (رباط الخير) حيث كنت أقضي السنة السادسة عشرة من العشرين التي قضيتها هناك أستاذا بثانويتها التأهيلية..
أقدِّر أن الزمان كان ، على وجه التقريب ، الثانية والنصف بعد منتصف ليلة مقمرة باردة نسبيا من ليالي يناير أو فبراير ، من سنة 2001 ، عندما أفقت على جلبة بالجانب من الحي حيث نقيم في شقة بالطابق الأول، في بناية هي الأخيرة على الناصية من صف من الدور السكنية..؛ جلبة أصوات رجال وفتيان يتراكضون ويتصايحون هنا وهناك.. سرعان ما أدركت أنهم يطاردون لصا ، ويحاولون القبض عليه ، فتحت باب البلكونة من غرفة النوم، فوجدت بالأسفل بضعة رجال وشبان ينظرون إلى جهتي بالأعلى..خاطبني بعضهم :
أسي الزِّيـن، ألشفار..الشفار .. ، ها هو حاصل فوق البلكونة الأخرى ديالكوم على على اليسار.
كانت بلكونة الغرفة التي تنام بها ضيفتنا التي كانت صحت مرعوبة فجاءت تطرق باب غرفتنا. دخلت غرفتها وفتحت البلكونة ، فأخذ القوم يشيرون إلى أن اللص عالق بأعلى البلكونة. و بالفعل ، وجدت شخصا عالقا ، في وضعية حرجة ، يتدلى إلى أسفل ، يشد بباطن ركبتيه على الحديدة الأفقية لمشبك خيوط الكهرباء النابت بالحائط على علو لا يقل عن سبعة أمتار من الأرض الصلبة الخشنة..يتدلى بجسمه ورأسه ويرخي يديه كما لو أنه قميص يحمل صاحبَه على خيط الغسيل..وكان القوم بالأسفل يطلبون مني بإلحاح أن أجذبه إلى الأسفل..
أجبذ يماه، أسي مصطفى،اجبذ ولد الحرام يطيح..
ولكني قلت لهم أن يجب إنقاذه أولا، وربما يكون قد صعقته الكهرباء ! لكنهم أخذوا يلحون علي أن أجذبه فهو لص..قلت : وإن، أعرف طبعا أنه لص، وليس بائع الحليب أو الكهربائي مثلا.. ولكن يجب إنقاذه أولا..وفوجئت بأن اللص ينظر إلي مشيرا بإصبعه ، يخاطبني: أنتَا..أنتَا ..أعتقني.. أنقذني، الله يرحم الوالدين..
والحقيقة أني فرحتُ بأن الشاب ما يزال على قيد الحياة، وإن عنفته ببضع كلمات ، وأوصيته أن يتشبث جيدا ريثما أعود إليه ..وعدت إلى الداخل كي ألبس معطفا خوفا من نزلة برد، قبل أن أتدبر كيف أخلص الرجل من ورطته ، ومن شر القوم المتربصين به بالأسفل..غير أني ما كدت أدخل غرفة النوم، حتى سمعت خبطة سقوطه إلى الأسفل، فأخذت أحوقل ، فربما يكون لقي حتفه أو أنكسرت عظامه وشجت رأسه..
أطللت، ثم نزلت ..كان اللص شابا في نحو الثلاثين ، منطرحا على ظهره، ولكنه كان يكلم المتحلقين من حوله بهدوء ، ربما كانت إحدى رجليه انكسرت..ولكنه لم يكن يئن أو يتألم أو يشكو ، وإنما كان يحاول تفسير حاله.. وهو سكران ، تفوح منه قويةً رائحةُ الپستيس الرديء .قلتُ له :
-أنتَ مسخوط الوالدين، باين مسخوط الوالدين .. شفيفر!
نظر إلي ،وقال :
-لا، والله ما مسخوط.. ولا شفار .. أنا ..أنا أنْحِبّْ واحدة ساكنة هنا ، وجيتْ عندا ..
كان واضحا من لهجته أنه جبلي من ضواحي تازة أو تاونات..
وفهمت من خلال كلام المتحلقين أنه اقتحم باب البناية الثانية، التي تفصلها عن بنايتنا المتطرفة بناية أخرى، وربما وجد الباب الخارجي غير مقفل ،أو فتحه بطريقة من الطرق، وطرق باب أرملة كانت تسكن بالطابق الأرضي ،ولكنها ذعرت وصاحت ،فصحا بعض جيرانها..ففر الرجل إلى الأمام صاعدا الأدراج إلى باب السطح ،ففتحه ،محاولا الهرب أو التخفي هناك، ولكن رجلا أو اثنين طارداه، فنط من السطح إلى بعض أشجار الصنوبر ( تايدا )، خلف صف الدُّور..لكنه وجد آخرين يطاردونه هناك بالأسفل ، فعاد إلى سطح البناية المجاورة ، ومنه إلى سطح بنايتنا ، وفكر أن يقفز من حافة السطح على علو ثلاثة أدوار إلى ذلك المشبك الكهربائي ومنه إلى أرض الشارع، ولكنه تفادى السقوط بما يشبه المعجزة، فعلِق من باطن ركبتيه المثنيتين على المشبك، وظل متدليا فوق بلكونتنا كما وجدته هناك..
سرعان ما حضر اثنان من أبناء عمه ؛ أحدهما ربما في مثل سنه، يعرج ، ويستند على عكاز، عرفت أنهما إبنا رجل إسكافي ،من نواحي تازة،كان وفد على البلدة ، تقريبا في نفس السنة التي وفدت أنا عليها..وأنهم كانوا جيراني.. قبل سنوات ، بحي آخر، وكثيرا ما أزعجوني وهم أطفال يلعبون البلي التي تتسرب بعض كرياتها من تحت باب مسكني الأرضي أنذاك ،فيطرقون بابي يطلبون مني كريات بِلْيِهم..وهاهما اثنان منهم يشرحان أن ابن عمهما المنطرح مريض ومدمن ،وأنه ليس لصا بالمرة.. وأخيرا حضر رجال الدرك ،فاستطلعوا جلية الأمر سريعا ، واصطحبوا معهم اللص السكران المعطوب المريض الذي كان يشرح لهم أنه إنما جاء يريد لقاء امرأة (أنْحبَّا) أي يحبها! فعدنا إلى مضاجعنا نستكمل النوم..
بعدما انهيت تقديم الحصص الدراسية الأربع صبيحة اليوم التالي، قصدت مباشرة مخفر الدرك، أستفسر في أمر اللص الذي وجدته عالقا فوق بلكونتي..أخذ أحدهم أقوالي،أو تظاهر بأنه يفعل ذلك،
كما فعل مع بعض جيراني ذلك الصباح..
غير أني عندما عدت إلى الحي، وجدت بعض جيراني يتحدثون كيف اكتشف عمال ورشة بناء دار هناك بالجوار، السلَّمَ الخشبي البدائي مفقودا، لكنهم اكتشفوه مسنودا إلى الجدار الخلفي لبناية قريبة،قائما على كومة من الرمال..وأن تحقيقات الدرك توصلت إلى أن اللص ،قبل أن يجيء إلى صف دورنا حيث وقع،كان قد تسلق ، عبر ذلك السلم، إلى سطح الدار ،على أمل أن يجده مفتوحا، ولكن عندما طرقه أو حاول فتحه ،سمع أو توهم صوت رجل يصعد نحوه من داخل ، فعاد جهة سلم البنائين، لكنه قفز إلى كومة الرمل مباشرة، وكان أثر قفزته لا يزال هناك..
واكتشفوا ، أيضا ، أن وراء هذه المحاولة الأولى ، في نفس تلك الليلة ، حكاية يتداخل فيها كذلك الحب بمحاولة السرقة ؛ ذلك أن رجلا كان قد وفد على البلدة، اكترى تلك الدار ، وفتح بالأسفل محلا لبيع الذهب والمجوهرات، ربما كان من نفس بلدة اللص وعمه وأبنائه، وكان لصاحب محل الذهب بنت مراهقة في نحو السادسة عشرة ، لعب معها اللص لعبة العاشق الولهان .. وعرف من خلالها أن أباها يجمع كل مساء سلعته الثمينة المعروضة بالمحل، ويصعد بها إلى محل السكن بالأعلى حتى تكون في مأمن من اللصوص. وكي يصل لصنا الظريف إلى ذهب الرجل توسل بحب ابنته المراهقة ، وأقنعها أنه سيزورها في عز تلك الليلة من السطح ، فما عليها إلا أن تفتح له باب السطح ،ولكن خطته فشلت ، ربما لأن الفتاة خذلته ،أو لأن ربَّ الدار استفاق على وقع ما سمعه من السطح..فقفز اللص هاربا ..ثم فكر في حب الأرملة ، وربما في سرقتها..
غير أن رجال المخفر أطلقوا سراح اللص العاشق ، ولم يدفعوا به إلى وكيل النيابة ، فقد راج في البلدة أن أبناء عمه دفعوا رشوة مقابل ذلك..
بعد أشهر ، علمت أن اللص مات، رحمه الله ، ليس من سقطته في تلك الليلة، وإنما من مرض كان ينخر جسمه.. كما مات جاري( مدير مدرسة ابتدائية) رحمه الله، بعد أقل من سنتين ، من مرض لم يمهله طويلا، وكان هو أحد أولائك الرجال الذين كانوا يحثونني على جذب اللص إلى الأسفل دونما شفقة. فماذا كان عساه يحدث لو طاوعتهم وأسقطت اللص السكران؟ هو مجرد تساؤل افتراضي، لأني ما كنت لأسقطه مطلقا، بل كنت أفكر جديا في إنقاذه أولا ،قبل اعتقاله، ليس لأني عاطفي،(حنين حتى على الشفار) كما قالت أخت زوجتي، ولا لأني أعرف القانون والحقوق وألتزم بها، ولكن لأني بطبيعتي لا يمكن إلا أن أبادر إلى مد يد المساعدة وإنقاذ كل شخص أو حيوان في حالة خطر.
وإني لعلى يقين ، لو كنت جذبت اللص فاسقطته فمات ،أو أصيب بكسور، أن كل أولائك الذين كانوا يسفزونني لإسقاطه.. كانوا سيشهدون ضدي بكوني أنا من جذبته فسقط ، ولكنت أستحق المؤبد ..
تتشابه هذه الحكاية، في صلبها و بنائها وبطلها وأحداثها ، مع الحكاية الخرَّازية التي ذكرتني بحكايتي ، فما من حكاية إلا ولها أشباه ونظائر ؛ فقد سقط اللص في حكاية الخراز، وكان سكران هو الأخر، عندما انخلع به قادوس صرف مياه الأمطار النازل من السطح على حائط البناية ، وكان يتسلقه ليلا إلى نافذة غرفة كان ينوي اقتحامها في عز الليل، أو لعله يجدها مفتوحة، سقط هو والقادوس، فانكسرت ذراعه، واجتمع عليه بعض السكان ، وكان شابان قويان من أهل الدار يشدان بخناقه رغم أنه من أبناء الحي، إلى أن حضر رجال الأمن، وكان الشاب يلح على كونه لصا (شفار)، جاء بنية السرقة ،ولكن البوليس توصلوا إلى أن الفتى إنما كان يحاول دخول غرفة الفتاة أخت الشابين القويين، وأنها كانت متواطئة معه،وأنه عندما فشلت محاولته كان يخشى أن يعرف أخوا الفتاة أنه كان على علاقة بأختهما ،فيبطشا به بطشا، ولهذا كان يلح على أنه لص، جاء بهدف السرقة ،ليس إلا.. ولكنه، وهو يعترف للمحققين بدافعه العاطفي، من المستشفى الذي نقل إليه لأسعافه وجبر ذراعه المكسورة ، كان يترجاهم أن يثبتوا عليه تهمة محاولة السرقة ، وليس تهمة الحب وعقابيله..
وبالفعل ، كانوا قد أعدوا له ملف تهمة التلبس بمحاولة السرقة، ولكنهم فوجئوا بالشقيقين المدعيين يتنازلان للمتهم عن متابعته بحكم أنه من أبناء الحي.ورغم أن الفتى العاشق فرح بكرم التنازل لصالحه،إلا أنه ظل يترجى الضابط عبد القادر الخراز ألا يكشف سر تسلقه وسقطته خوفا من أن يفتك به أخوا المعشوقة ، الشابان الجاران القويان الشرسان .
صفرو – الثلاثاء 21 دجنبر 2021 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube