مستجداتمقالات الرأي

الترجمة في يومها العالمي.. قل لي ما موقفك من الترجمة أقول لك من تكون

بقلم :سعيد هادف |

قل لي ما موقفك من الترجمة أقول لك من تكون»، هكذا تحدث الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر. «وبما أن الترجمة علم يفيد من الكثير من العلوم اللسانية وغير اللسانية، فإن لعلم الترجمة أهميته الملحة في التعامل مع المصطلحات؛ بوصفه المرآة التي تعكس فهم المصطلح في لسانه الأصلي، ثم تنقله إلى المتلقي في اللسان الهدف، وهو يحمل كافة المفاهيم والمضامين التي يدل عليها في أصل وضعه».

وترتبط فكرة اليوم العالمي للترجمة بنشأة الاتحاد الأممي للمترجمين عام 1953، غير أن أول احتفال رسمي بهذا الحدث كان يوم 30 سبتمبر في عام 1991. وقد صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في الرابع والعشرين من مايو 2017 على قرار يعلن 30 سبتمبر يومًا عالميًّا للترجمة، وهو قرار لتقدير دور الترجمة الاحترافية في الربط بين الأمم. وقد وقّع على مسودة القرار أحد عشر بلدا: أذربيجان، بنغلاديش، بيلاروسيا، كوستا ريكا، كوبا، الإكوادور، باراغواي، قطر، تركيا، تركمانستان، فيتنام، بالإضافة إلى الاتحاد الأممي للمترجمين.

ويوم 30 سبتمبر يصادف عيد القديس جيروم (347/420) الذي ترجم الكتاب المقدس. وقد كلفه البابا بإنجاز ترجمة للأناجيل من اللسانين اليوناني والعبري إلى اللسان اللاتيني، لسان الإمبراطوريا. وجاءت هذه الترجمة في سياق تاريخي كان له الأثر الكبير في أوروبا. يتعلق الأمر بالتحول الأيديولوجي الذي عرفته الإمبراطوريا الرومانية في عهد الإمبراطور قسطنطين (306–337م) حيث جعل من المسيحية الأيديولوجيا الخاصة بالإمبراطوريا. وبهذه الترجمة أصبح اللسان اللاتيني مقدسا، لكن مع سقوط القسطنطينية منتصف القرن الخامس عشر سقطت أوهام الكنيسة، وتهاوت البراديغما الكنسية، وأصبح الإنجيل مترجما إلى كل الألسنة الأوروبية.

بدأت الإصلاحات الدينية مع القسيس الألماني مارتن لوثر في القرن السادس عشر، ونشر لوثر ترجمته الألمانية للعهد الجديد عام 1522، ثمّ أنهى ومعاونيه ترجمة العهد القديم عام 1534، ليُتمّ بذلك ترجمة الكتاب المقدس كلّه، وانتشرت عدوى الإصلاح والترجمة في جميع أنحاء أوروبا كانتشار النار في الهشيم فأصبح الإنجيل معتمدا في كل بلد بلسان أهله، وزال مظهر القداسة عن اللسان اللاتيني.

هذه التحولات جاءت في سياق اشتهر بعصر النهضة الذي انبثق عنه عصر التنوير حيث راجت حركة الترجمة في نقل المعارف والعلوم من الشرق إلى الغرب أو ما عُرِف لاحقا بالاستشراق.

على المستوى العربي قديما، كان العامل السياسي حاسما في تشكيل اللسان العربي بالصيغة التي هو عليها اليوم، ونقصد بالعامل السياسي انتقال العرب من وضعية الحياة القبلية إلى وضعية الكيان السياسي الاتحادي، حيث اندمجت القبائل في دولة واحدة في إطار دستور ينظم حياتها (القرآن)، وتحت راية حاكم واحد. حدث ذلك في القرن السابع الميلادي إثر البعثة المحمدية. وهذا العامل غالبا ما يتم طمسه حين يتم اختزاله في الدين بمفهومه الضيق، كما لو أن العرب انتقلوا، فقط، من دين قديم إلى دين جديد، والواقع، إنما العرب انتقلوا من نمط سياسي قديم (قبلي) إلى نمط سياسي جديد (نمط الدولة)، وكان لهذا التطور أثر في تطور اللسان العربي.

هل ميزة اللسان العربي تكمن في كونه استوعب القرآن وأدى معانيه؟ أم أن ما ميّزه هو أنه ارتبط بالقرآن بوصفه أول كتاب وحّدَ العرب، بعد أن أسس للِسانٍ عربي واحد ودين واحد ودولة واحدة؟ فليس ثمة ميزة للّسان العربي عن الألسنة التي بادت بل الميزة في المشروع العربي الذي تأسس على أول كتاب عربي: ديني، أدبي، تربوي، روحي، قانوني، اجتماعي، وسياسي.

وبناء على ما تقدم، فمنذ أن انتظمه القرآن وهو أول كتاب عربي، فقد وجد اللسان العربي نفسه في امتحان دائم في سياق مغامراته السياسية والإدارية (أثناء تشكل الدولة)، ثم العلمية والفكرية والأدبية (أثناء الترجمة)، ثم انحط مع الانحطاط السياسي جراء انهزام دعاة العقل أمام دعاة النقل. ومع عودة العقل إلى العالم الأوروبي، وانبثاق عصر الأنوار الذي أسسته الشعوب الجرمانية، وانفتاح النخبة العربوفونية على النهضة الأوروبية تزامنا مع سقوط الإمبراطوريا العثمانية ونشوء الكيانات القومية بدأ الناطقون باللسان العربي يستوعبون حالة التحول التي مست الشعوب الناطقة به، ووجد اللسان العربي نفسه مرة أخرى أمام تحد كبير ورهان أكبر، وأمام المستجدات المادية والمعنوية التي أنتجها الفكر الغربي.

في طريق البحث الذي سلكته من أجل إشباع نزوع شخصي، وجدت، كما وجد غيري، عددا من المفاهيم المترجمة تحتاج إلى مراجعة وفحص. لقد اتضح لي أن الذين ظلوا يتداولون تلك المفاهيم في حقلهم السياسي والفكري، كانوا كمن يتعهد حقلا بالحرث والزرع، وعند كل موسم حصاد لا يجني سوى الخيبة، وهكذا دواليك عند كل موسم حرث وموسم حصاد، دون أن ينتبه أن بذوره التي يظنها قمحا هي مجرد زؤان لا يصلح لشيء.

بمناسبة هذا اليوم العالمي للترجمة، وحول دور الترجمة في تخصيب الثقافات والتواصل بين الشعوب؛ يرى المفكر والمترجم محمد شوقي الزين «الترجمة مؤسسة فكرية لا بدَّ لكل باحث أن يتعاطاها لاعتبارات عدَّة لعل أهمها التعرُّف على أدب الآخر وفكره على سبيل التعارف والتواصل والمثاقفة؛ والتعرُّف على الآخر هو التعرُّف على الذات، لأننا لا نعرف ذواتنا سوى في مرآة الغير» وأضاف، في تصريحه للأسبوع المغاربي حول مقاصد الترجمة «إثراء اللغة-الأم من خلال النبش في تاريخها الاشتقاقي وإعادة بعث فاعليتها الحاضرة. في كل الأحوال، الترجمة هي حلقة تجمع الأنا والآخر وتُغيِّر على الأنا عوائده اللسانية وتُسهم في تجديد لغته وتطوير ثقافته». الدكتور مختار زواوي أستاذ اللسانيات ومترجم دي سوسير في تصريحه للأسبوع المغاربي قال: «لا يمكن لأي أمة من الأمم الاستغناء عن نقل المعارف والعلوم والآداب عن الأمم الأخرى، مهما بلغت هذه الأمة من الرقي، وتاريخ الحضارات المختلفة شاهد على ذلك. ويشهد هذا التاريخ أيضا على الدور الذي ما انفكت الترجمة تضطلع به وما تزال، في معرفة الآخر، وهي سبيل من سبل تحقيق مقصد الآية الكريمة، قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾. ولما كان اختلاف الألسن سمة من سمات البشرية، فإن الترجمة هي صلة الوصل بين المجتمعات، إذ لا يعقل أن تتحقق المعرفة بكل الألسن عند كل أفراد المجتمع. لقد كانت ترجمة كثير من العلوم العربية إلى الألسن الغربية واحدا من الروافد الرئيسة التي حققت لهذه الأمم انبعاثها الحضاري، وتعرّفها من جديد على تراثها اليوناني الذي لولا نقله إلى اللسان العربي، ونقده وتمحيصه، وتطويره وترشيده، لما تحققت لهذه الأمم الغربية المكانة العلمية التي باتت تحوزها».
حول تجربته الشخصية، قال شوقي الزين «تسنى لي الوقوف على هذه الاعتبارات التكوينية للترجمة عندما أقدمتُ على نقل أعمال فلسفية إلى العربية. لاحظتُ بأن الترجمة هي عملية إخراج الذات من قوقعتها وإسهام فعلي في النهوض بلغتها وثقافتها. بترجمة بعض الأعمال، تعلَّمتُ النحت اللغوي بابتكار مفردات تواكب النص الأصلي، ورُحت كذلك أبحث عن مفردات نادرة في التراث العربي الإسلامي بإعادة إحيائها وإعطائها الحمولة الدلالية الرمزية التي تلائم المفردات الأجنبية. نُدرك بأن الترجمة هي عملية في التجديد اللغوي والتحويل الذاتي، وليس فقط نقل نصوص أجنبية إلى لغتنا الخاصة».

وحول مستقبل الترجمة في مجال العلوم الإنسانية في الجزائر، قال الأستاذ زواوي «يبدو أننا نسينا هذا الدرس التاريخي، ولم تعد للترجمة المكانة الرفيعة التي كان يوليها لها أسلافنا، وإنني لمستاء جدا للحالة المتردية التي آل إليها واقع الترجمة ببلادنا. ولهذا الواقع المرير أسباب كثيرة متداخلة. ولقد كان للاستغناء عن أقسام الترجمة بكلية الآداب واللغات آثار سلبية، ثم إن أوضاع الأستاذ الجامعي المهنية وظروفه المعيشة كثيرا ما تحول دون اشتغاله بالترجمة اشتغالا يرقى إلى ما وصلت إليه الحضارة الإنسانية الحالية من ازدهار وتقدم. إن ما ينقل إلى اللسان العربي من علوم اللسان – مثلا – يكاد يكون مقدار القطرة من البحر. إن الحاجة ملّحة لإعادة الاعتبار إلى الترجمة، وإننا بحاجة إلى مشروع وطني يكفل ذلك».

بينما يرى الأستاذ شوقي أن «هناك دينامية في ترجمة النصوص في مجال العلوم الإنسانية في الجزائر، لكن تبقى مع ذلك زهيدة بالمقارنة مع حجم التحدِّيات وبالمقارنة مع ما يُترجم في الجغرافيات الأخرى. كذلك الضعف في اللغات الأجنبية هو عائق للنهوض بالترجمة في الجزائر. بالإضافة إلى غياب سياسة ترجمية قائمة بذاتها يمكنها أن تُسهم في النهوض بهذا المجال. هناك أفراد متمكنون من اللغات الأجنبية، لكن لا توجد حوافز مادية تحفزهم على الترجمة مثل المكافآت المالية والجوائز. بدون هذه الحوافز تبقى الترجمة في الجزائر زاهدة في الكمية، زهيدة في النوعية. أخيرًا، تأسيس مجلس أعلى للترجمة أضحى ضرورة، لأن علينا أن نُدرك أن الترجمة ليست فقط نقل نصوص الآخرين إلى لغتنا نحن، لكن أيضًا نقل نصوصنا نحن إلى لغات الآخرين ليتعرَّفوا على تراثنا وتاريخنا وفكرنا. ليس هناك أحسن “سفير” من الترجمة، إنها خروج من الذات ودخول في العالمية».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube