اقواسمجتمع

حكاية سوماتة المنسية…

بقلم: عبد الصمد الشنتوف


لفظني الباص31 خارج محطة وستبورن بارك، وكنت قد دأبت كل صباح على المرور بكشك راج للجرائد لاقتناء نسختي من صحيفة العرب، حتى صارت ملاذي الوحيد في غربتي لاستطلاع آخر أخبار الوطن العربي وأحداثه الملتهبة. في تلك الأثناء كانت الحرب العراقية الإيرانية محتدمة، حرب طاحنة أشعلها صدام بناء على مبررات واهية متوجسا من انتقال المد الشيعي الإيراني إلى بلاده. مشيت في هرولة نحو المقهى تحت زخات المطر، بمجرد ما ولجته انتحيت إحدى أركانه أرتشف كوب شاي بالنعناع، كان المقهى هادئا خاويا على عروشه قلما يرتاده الرواد صباحا. فتحت جريدتي وجلست منكبا عليها ألتهم صفحاتها، كانت مؤنسي الذي ينتشلني من وحشة عزلتي وملل فراغي.
أخذت أتردد على مقهى كازابلانكا كل يوم ..لا أشتغل ، أمضي طوال اليوم أجوب بين المطاعم والحانات وسط لندن أطرق باب العمل .. مستعد أن أعمل أي شيء ..أغسل الصحون ، أنظف الحيطان ، أكنس البلاط ، وأجفف الأرض بماء جافيل والكلور .. لا مانع لدي ، المهم هو أن أشتغل وأكسب بعض المال .
في ظل هذا الوضع الصعب كانت تغمرني سعادة عارمة أحيانا ، ويستحوذ علي إحباط قاتل أحيانا أخرى حتى توهمت نفسي مصابا بمرض ثنائي القطب، ثمة حظ تعيس يطاردني في كل مكان ، أخذ اليأس يستوطن نفسي، كلما مشيت أتعثر في طريقي سعيا على رزقي . أشعر وكأن كل أبواب لندن موصدة في وجهي ، تعبت من مجاملات الناس ووعودهم الجوفاء .

كنت ألجأ إلى المقهى لأفرغ رأسي المثقل بالهموم والخيبات ، كلما ضاقت بي الدنيا جالست صديقي عبدالله الجبلي لأستأنس بمروياته ، حكاياته الساحرة تطربني، وتنفس عني كروبي وعسر حالي. كان مهاجرا ذكيا بارعا في السرد ..حكاياته لا تنتهي .. تشبه الأساطير ، أحيانا كان يستخرجها من بطون التاريخ لتلامس الواقع بقوة .
تغير سلوكه تجاهي بمجرد ما علم أن أصلي يعود لقبيلة سوماتة الجبلية وخصوصا لبلدة “الخربة الشناتفة” ، سرت كيمياء دافئة بيننا، وكأنني أعرفه منذ ردح من الزمن. كانت تربطه مصاهرة ببلدتنا ، إحدى عماته كانت متزوجة برجل يدعى “بورباطا” ، وهو إسم يجري على لسان ساكنة بلدة الخربة كثيرا .
تقع بلدته في رأس جبل بني جرفط فيما تقع بلدتي برأس جبل سوماتة ، لم يكن يفصل بلدتينا سوى واد يدعى “ريغة” . منذ ذلك الحين وهو يناديني ب”العموم” (إبن العم) . كان مطلعا على تاريخ المنطقة ، يعرف صناديد مدشر “الخربة” واحدا واحدا ، الأحياء منهم والأموات ، كان يردد على مسامعي بعض رجال بلدتي الأشاوس : (هاريز ، الفضيل ، الكومي ، الكارجا ، أحمد الفوقي….) . كان صديقا حميما لعمي “علي” قبل انتقاله إلى لندن ، كانا يرعيان الغنم سويا في التلال وعند منحدر الجبل، يلتقيان عند ضفاف وادي ريغة لإرواء عطش غنمهما . عند الظهيرة تجدهما يجلسان فوق هضبة “تزار” ليتبادلا أطراف حديث الرعاة ، يستظلان بشجرة “الدلم” فينهمكان في العزف على ناي الخزيران . تارة يعزفان معا ، وتارة أخرى يعزف كل واحد بمفرده ، فتطرب ألحانهم الشجية قطيع الغنم في مشهد خارق يجمع بين بساطة العيش وجمالية الحياة .
لم يخطر على بال عبدالله انه يوما ما سينتقل للعيش في عاصمة الضباب ، فتنقلب حياته رأسا على عقب .. يشتغل بأرقى مستشفيات لندن ، يلهث وراء باصات حمراء ويتسلق قطارات المترو المزدحمة .

ينظر صديقي عبدالله بعيدا ، يشبك يديه ، تعلو محياه ابتسامة حذرة وينطلق في حكايته :
شيد الإسبان قاعدتهم العسكرية فوق هضبة “تزار” ، واتخذوها منطلقا للهجوم على آخر معقل للمقاومة بقبيلة سوماتة الصامدة . في سنة 1927 كان الجميع قد استسلم بشمال المغرب ، لم يتبق سوى بلدتين ثائرتين خارج الاحتلال هما “الخربة” و”بوحمصي” . يتابع عبدالله سرده بتفاصيل مبهرة ، حكاية تشد لها الأنفاس ، أنصت إليه بشغف وذهول . أنا الآن أتلقى دروسا في التاريخ بمقهى كازابلانكا ، أتعلم على يد مهاجر مغربي مقيم بحي بورطوبيلو وسط لندن. يقلب عبد الله صفحات تاريخ مشرف مهمل، إنه أستاذي في الحكي الشفهي . يحدثني بلكنة جبلية عن تاريخ سوماتة الباسلة ، تاريخ بلدتي الشامخة ، تاريخ لم أقرأه في الكتب ولم أدرسه في المعاهد ، تاريخ غابر منسي .
يسترسل قائلا :
” كان الكولونيل أسينسيو يتبختر في مشيته بين جنوده وضباطه ، يمشي مزهوا بنفسه إلى حد العجب والغرور . يقف واضعا يديه على خصره من فوق هضبة تزار ، يسرح بعينيه تجاه جبال سوماتة وبلدة “الخربة” تحديدا ، كان يتمنى أن يستفيق صباحا فيجد هذه البلدة قد اختفت من على وجه الأرض . بلدة عنيدة شرسة ، رجالها رماة بارعون ، مقاتلون أشداء ، يقودها رجلان أميان ، قاسيان ، بلغا من الكبر عتيا .
يلتفت أسينسيو إلى متعاونيه “الميموني والدامون” يسألهما :

  • ترى كيف نصل إلى هذين الوغدين في بلدة الخربة الشيخ عبدالله وأقيوق ؟ .
    يرد عليه العميل الميموني :
  • سأطلب من صهري “بورباطا” أن يتوسط بيننا وبينهم ..
    استحسن الكولونيل المتعجرف الفكرة ومنح الضوء الأخضر لعميله للقيام بالمهمة .

يصعد الشيخ عبدالله أعلى الجبل، عجوز واثق من نفسه، يتوجه بخطى حثيثة نحو قمم الصخور الزرقاء (الطلالق الزرق) مع نائبه أقيوق ، يقفان شامخين كالهرم مطلين على هضبة تزار وكأنهما يخاطبان الكولونيل الإسباني . يلوحان ببندقيتيهما العتيدتين في السماء ، يصيح الشيخ عبدالله بأعلى صوته :
إسمع أيها النصراني الوقح ، إن كنت قد أخضعت قبائل بني جرفط ، بني عروس ، بني يوسف وأهل سريف ، فلن تخضع بلدتنا . مازلنا على العهد مع العلامة “سيدي أحمد بن يرماق” متمسكين بفتواه : الخضوع لحكم النصراني يعد خروجا عن مبادئ الإسلام . إن كنتم قد اشتريم القواد (الخمال ، الدامون والرميقي) ، فنحن هنا لا نساوم ، لا نهادن ، ولن نستسلم ، لن تقتحم بلدتنا إلا على جثثنا الهامدة !
انطلقت المفاوضات ، وشرع الوسيط “بورباطا” يتنقل بين المعسكرين ، كان يتحدث الإسبانية قليلا ، ظل طوال اليوم يحمل الرسائل ذهابا وإيابا بين الشيخ عبدالله وأسينسيو . كان شابا متعلما مطلعا على موازين القوى ، يعلم في قرارة نفسه أنه لا سبيل للانتصار على جيوش الاستعمار التي كانت تتفوق عدة وعددا .
أما الزعيمان السوماتيان فكانا شرسين عنيدين يجهلان حقيقة عدم التكافؤ مع العدو .. اقترح عليهما بورباطا عرضا مغريا بتبوؤ مناصب مرموقة بالقبيلة إن هما استسلما ، لكن بعد أخذ ورد في الكلام قرر الصنديدان مواصلة القتال غير عابئين بقوة الاحتلال ، متشبثين بفتوى الفقيه بن يرماق .
راح بورباطا عند الكولونيل ليخبره بموقف الزعيمين الثابت. فاشتعل غضبا وأخذ يزمجر ويهدد ، بدأ صبره ينفذ ، لكنه قرر أن يمنحهما فرصة الإغراء الأخيرة بعد التشاور مع القائد الدامون .
أخذ بورباطا يحوم ويلف حول الشيخ محاولا تليين موقفه، مصرا على إغرائه .. فما كان من الشيخ إلا أن انتفض رافعا بندقيته وهم بإطلاق النار عليه لولا تدخل إبنه الشاب هاريز وثنيه عن قراره قائلا :

  • لا لا يا أبتي ، هون عليك ، إنه إبن عمنا !
    أدرك بورباطا لحظتها أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود ولا سبيل للنفاذ إلى عقل الزعيمين السوماتيين .
    أصيب بورباطا بحسرة شديدة بعدما فشل في مهمته ، وأحجم عن الرجوع إلى الكولونيل الإسباني القاسي خوفا من رد فعله الغاضب . فقرر أن يكتب رسالة خطية ويرسلها إلى أسينسيو عبر أخيه “مفضل” يخبره بقرار المجاهدين المفصلي .
    بعدما استلم الكولونيل الرسالة وتفحص سطورها جيدا ، أمر الرسول أن يحفر حفرة كبيرة بساعديه ، ثم أمر باعدامه فورا ودفنه فيها انتقاما من فشل أخيه بورباطا وخذلانه . بقي كنه الرسالة لغزا محيرا إلى يومنا هذا .. لغز دفن مع صاحبه في القبر ..
    في ليلة 10 أبريل من سنة 1927 ركب الشيطان رأس الكولونيل وعزم على الهجوم ، أمر قواته بعبور الوادي واقتحام البلدة عنوة ، لم يكن عدد المجاهدين يتجاوز مائة مقاتل ، فيما كانت جيوش الإسبان ومرتزقة الحركة تعد بالآلاف . كان واضحا أن المعركة غير متكافئة ، ورغم ذلك أصر الشيخ عبدالله على القتال .. قسم مجاهديه إلى ثلاثة كتائب . تضم الأولى فئة الشباب تحت قيادة الكومي وتتمركز في المقدمة عند سفوح الجبل . وتتمركز الثانية وسط البلدة تحت قيادته هو ، أما الثالثة فستظل مرابطة عند تخوم البلدة من جهة غابة العليلق تحت إشراف الصنديد أقيوق . انطلقت المعركة واشتعلت النار .. لا صوت يعلو على صوت البنادق ..
    تحركت جحافل العدو ، وأخذ الرصاص يتطاير ويلعلع في سماء البلدة . تصدت كتيبة الشباب للعدو بشجاعة واستماتة ، فأمطروه بسيل من الرصاص، كانوا يختبئون وسط عشب الدوم والخلنج مثل الثعالب .. ارتفع صدى أزيز وقصف الطائرات الحربية الإسبانية وضربات مدافعهم المتطورة..أخذ المجاهدون يتراجعون نحو الوراء ، تواروا خلف مرتفعات هضبة “طهر اليدري” ، سقط هاريز جريحا مصابا في رجله اليمنى بثلاثة كسور ، حمله رفيقه عبدالسلام على كتفيه وفر به نحو مدشر ” تولة ” قصد العلاج .
    دبر الدامون مكيدة خطرة مع احتدام المعركة ، قام وجنوده بالتفاف ماكر على بلدة الخربة من الخلف قادما من الغابة ، وحاصروا مجموعة أقيوق عند المدخل . اخترق الدامون عمق المدشر فصعد إلى مصطبة مسجد الربطة وألقى خطبة عصماء معلنا النصر ، مطالبا الزعيمين بالاستسلام ووعدهما بالأمان .
    لم يستجب الزعيمان لندائه .. وقررا مواصلة القتال حتى آخر طلقة رغم علمهما باستحالة الانتصار .. فاستشاط الدامون حنقا وغضبا .. أثناءها أصدر الكولونيل أوامره بإحراق البلدة عن بكرة أبيها ونهب كل منازلها . لم يستسغ أقيوق هذا القرار فاعتلى شجرة “الدلم” مختبئا بين أغصانها الكثيفة ، فأخذ يمطر جنود الإسبان والحركة بالرصاص مصيبا عددا كبيرا منهم ، فبدأوا يتساقطون على الأرض بالعشرات مثل الذباب .
    صدم الدامون وأصيب بالحيرة ، فقد أعصابه حينما رأى جنوده يتعرضون للمجزرة دون أن يعرف مصدر إطلاق النار .. أفسد عليه أقيوق نشوة النصر .. نفدت ذخيرة هذا البطل فانبعث دخان بندقيته من بين الأغصان ، فانكشف أمره .. صوب جنود الاحتلال بنادقهم ليقتلوه ، لكن الدامون منعهم . كم كان يمقته !.. كان يريد أن يقبض عليه حيا ليعذبه .. لكن هيهات هيهات !
    اقترب الدامون مشرئبا بعنقه في محاولة لإقناع المقاوم العنيد بالهبوط من الشجرة :
  • إنزل من الشجرة يا أقيوق فزعيمك قد قتل .
    رد عليه بشموخ :
  • إن كان قتل فرحمة الله عليه ، لن تحلو لي الحياة بعد موته أبدا .
  • أرجوك إنزل ، أعطيك الأمان وعهد الله وشرف مولاي عبدالسلام .
  • انا لا أثق بعهد النصارى ولا بالخونة ، اغرب عن وجهي أيها الحقير .
    احمر وجه الدامون من شدة الإهانة أمام جنوده ، فاشتد غضبا ، والتفت إليهم يأمرهم باطلاق النار . خر أقيوق على الأرض شهيدا من فوق الشجرة ، صعدت روحه إلى العلالي وبقي قبره شاهدا على أروع البطولات تحت نفس الشجرة في أطراف بلدة الخربة إلى يومنا هذا.
    أصدر الدامون لحظتها أوامره بالبحث عن رأس الحربة الشيخ عبدالله وجلبه حيا أو ميتا .. كان الشيخ قد امتطى بغله محملا بأمتعة نفيسة محاولا مغادرة البلدة بعدما استيقن الهزيمة . انهمك في تبادل إطلاق النار مع الجنود محاولا التسلل خارج البلدة المحاصرة، وبعدها اختفى في غابة العليلق بين الأشجار متوجها نحو جبل العلم مستجيرا بضريح مولاي عبدالسلام بن مشيش .
    جن جنون القائد الدامون عندما علم بفرار عدوه اللدود . أعطى أوامره بمطاردته والقبض عليه حيا أو ميتا ، كان يراه صيدا ثمينا يرغب في تقديمه قربانا لسيده أسينسيو .. لكنه لم يجن سوى الخيبة والمرارة من وراء ذلك.
    بعد ساعات من التفتيش والملاحقة، تمكن جنود الحركة من محاصرته وحيدا مع بغله عند سفوح جبل العلم . نظر الشيخ من حوله فوجد نفسه مطوقا من كل الجهات ، لا مفر له ، إما الاستسلام أو الشهادة ! حدث أن أحد عساكر الحركة كان ينحدر من سيدي اليماني طفق يتهكم عليه وهو في حالة ضعفه ، كان قد سمع بالشيخ كثيرا منذ أيام السيبة ، فخاطبه بازدراء قائلا :
  • إلى أين أنت ذاهب أيها السوماتي القذر؟ أين سيقودك غرورك وعنادك ؟ ، اليوم يومك يا ولد الصية (لقب الشيخ عبدالله) !
    تظاهر الشيخ بالاستسلام رافعا يده اليسرى ، استدار نحو الحركي ونظر إليه نظرة احتقار ، أحنى ظهره قليلا نحو الأرض مبديا رغبة في إلقاء سلاحه .. تبسم الحركي شامتا أكثر ..سرعان ما باغثه الشيخ برصاصة قاتلة في رأسه مبديا تحديا صارخا في إطلاق النار على باقي الجنود.
    لحظتها أمطروه بوابل من الرصاص ، مزقوا جسده دون أن يمزقوا كبرياءه .
    سقط الشيخ عبدالله شهيدا مدرجا في دمائه أمام بغله ، وقد سطر تاريخ الجهاد والشرف بدمه في قبيلة سوماتة . ارتقت روحه الطاهرة إلى السماء ، في حين ارتقت مكانة القائد الدامون لدى الاحتلال .. وشتان ما بين هذا وذاك ..
    وحتى اليوم، يعد قبر الشيخ عبد الله مجهولا وظل لغزا محيرا، حيث فشلت جهود أفراد عائلته في العثور عليه، حتى كاد يتحول إلى أسطورة مع مرور الزمن…
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube