شخصياتمستجدات

قراءة نقدية لماضي اليسار

عبد الرحمان غندور مناضل و فاعل سياسي و حقوقي

حين ندعو إلى إعمال النقد الذاتي، وقراءة ماضي اليسار قراءة نقدية من أجل تفكيكه وفهمه وإعادة تركيبه، بما يلائم متطلبات الحاضر والمستقبل، يتهمنا البعض بالسقوط في النوستاليجيا والماضوية. وهو أمر لا يمكن إنكاره ونفيه، لكننا على وعي كبير بمصائده ومقالبه، وجد حذرين من مغبة السقوط في شراكه وفخاخه. فالنوستالجيا والماضوية حالتان وجدانيتان تفرضان على صاحبهما أن يعيش حاضره في الماضي، وأن يحيا به ومن خلاله. وأن يرى هذا الحاضر بعين ” ما كان ” و ليس باستحضار ” ما هو كائن و ما سيكون، وما ينبغي أن يكون ” . النوستالجيا والماضوية، مركب من العواطف العمياء ككل العواطف الجامحة والكاسحة. تعطي صاحبها قناعة مطلقة بأن ” ليس في الإمكان أبدع مما كان “. و هذا ما يدفع صاحبها إلى تمجيد الماضي وتقديسه والعمل على استنساخه وإعادة إنتاجه. و هو الأمر الذي تلتقي فيه كل ” السلفيات ” و ” الأصوليات “.لا فرق في ذلك بين الأصوليات الدينية والفلسفية، يمينية كانت أو يسارية. من هنا يجب التوضيح، أننا لسنا سلفيين ولا أصوليين، وأن دعوتنا للنقد الذاتي بقراءة ماضينا اليساري ومعه تاريخنا الوطني قراءة نقدية، هي قراءة استشرافية، متحولة ومتجددة، تهدف إلى السفر بين الماضي والمستقبل في مركبة الحاضر. وهي بهذا المعنى، زيارة للماضي وليس حياة وخلودا فيه، بهدف تفكيك هذا الماضي وتمحيص مكوناته وتحيين ما يقبل التحيين فيه، وأرشفة ما يجب أن يحال على الأرشيف. وهي فوق هذا وذاك ليست نظرة تقديسية، للأفكار أو الأشخاص أو المواقف، ولن تكون بالتالي نظرة تبخيسية لهم. النقد الذاتي كرؤية استشرافية بهذا المعنى، هو حالة عقلية، لا تخلو من وجدان، لكنها مسلحة بالمعرفة التي تتوخي العلم، ولا سيما مجموع العلوم الانسانية والاجتماعية، إلى جانب الإطار النقدي/ التساؤلي عن مكونات الحاضر من خلال استمرارية الماضي فيه، إما كمعيق للانطلاق نحو المستقبل، أو كمحفز بما يزخر به من عناصر لا زالت قادرة على المواكبة و الملاءمة ولم يطلها التقادم والإحالة على المعاش. والرؤيا الاستشرافية النقدية بهذا الشكل، هي مجموع الآليات الفكرية/العقلية والعلمية، التي تساعد على عبور جسر الحاضر بين ضفة الماضي وضفة المستقبل.الكتابة في السياسة، كما هو معروف هي أكثر الكتابات قابلية للخلط والتمييع وسوء الفهم وقراءة النوايا. لذلك أوضح للأعزاء و العزيزات الذين يعلقون ويناقشون آرائي و مواقفي، ودعوتي للنقد الذاتي في صفوف اليسار، فكريا وتاريخيا وتنظيميا وممارساتيا ومواقفيا بأن تعاملي مع الماضي ليس نوستالجيا محضة. و لكنه استحضار نقدي للماضي وتحذير من استنساخه وإعادة إنتاجه.إن ما يؤرقني حقا هو الأجيال الحاضرة والقادمة، التي تبدو وكأنها بدون ماض وبدون ذاكرة في وطن لا زالت بعض نخبه تركب الماضي ويركبها، وبعضها يقتل هذا الماضي عمدا ويجتهد في محوه، والجميع يسحقه الحاضر ويضيع منه المستقبل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube