رسالة اليسار بعد الانتخابات.. ما العمل ؟
منعم وحتي.
إن حملنا لشعار الأمل الذي أطر الحملة الانتخابية لفيدرالية اليسار، يجعل مشروعنا اليساري مفتوحا على المستقبل وليس رهينا فقط بلحظة انتخابية رغم أهميتها، لكن اللحظة تقتضي نوعا من الروية في استخلاص الدروس وقراءتها بشكل متأني لتبين نوع من الفرز بين الإكراهات الذاتية والموضوعية.
فنتائج اليسار عموما بقيت منحصرة، بحيث بقي حجم النتائج لا يواكب مطامح توسيع تمثيلية اليسار في البرلمان والجماعات الترابية، وهذا راجع بالأساس لعدم انسجام الكتلة الناخبة لليسار، والتي يغلب عليها العزوف عن التسجيل في اللوائح الانتخابية وكذا التصويت، وهي كتلة انتخابية مهمة جدا وحاسمة في النتائج، وللتدقيق فالعزوف غير المقاطعة الواعية، لأن العزوف الذي يُنقص أصوات اليسار بشكل مهول متعلق أساسا بمزاج عام يتلخص في أن المواطنات والمواطنين لا يثقون بفعالية أصواتهم في تغيير الأوضاع واختيار من سيمثلهم نيابيا، ناهيك عن التعاطي السلبي لوزارة الداخلية مع مذكرة فيدرالية اليسار التي بعثتها حول شروط انتخابات نزيهة بالمغرب، والتي كانت من بينها : هيئة مستقلة للانتخابات والتصويت الاوتوماتيكي بالبطاقة الوطنية لكل البالغين سن التصويت، وهو ما رُفض من أجهزة الدولة لمزيد من التحكم في الخريطة الانتخابية، ومخافة أي شفافية في تدبير العملية الانتخابية يمكن أن تربك الخزان الانتخابي المخدوم للأحزاب المصنوعة في مطبخ الداخلية، لهذا فمعركة اليسار الحقيقية هي شروط مراقبة الانتخابات لفضح الفساد المكشوف والتلاعب بالنتائج. فلتمتلك الداخلية فقط الجرأة للتحقيق في الفيديوهات والتسريبات الصوتية والوثائق التي تغزو فضاءات التواصل الاجتماعي حول الفساد الفاضح الذي عم العديد من مناطق المغرب، والذي تضررت منه فيدرالية اليسار بشكل كبير. إضافة لعودة مافيوزيين أثبتت تقارير المجلس الأعلى للحسابات وكذا بلاغات الجمعية المغربية لحماية المال العام، تورطهم في جرائم فساد ونهب المال العام، وهي عودة بقوة لتسيير ورئاسة الجماعات وللتشريع البرلماني.. إنها عودة الفساد المحلي و المركزي لسطلة القرار بحماية الدولة.
لقد لوح منسق فيدرالية اليسار الأخ عبد السلام العزيز بإمكانية العودة لمقاطعة الانتخابات، حين استقباله من طرف المكلف بتشكيل الحكومة، بعد الفساد البين الذي شاب العملية الانتخابية، وإغراقها بالمال الفاسد وبشراء الذمم، لأنه في نهاية الأمر المشاركة والمقاطعة تقديران سياسيان غير ثابتين، وفيدرالية اليسار تمتلك استقلال قرارها الداخلي، ويمكن أن تقلب الطاولة وقت ظهر لها أن الصراع السياسي يقتضي هذا الموقف أو ذاك، رغم أن الخط الجماهيري الديمقراطي الذي نتبناه في فيدرالية اليسار يسمح بالمزاوجة بين النضال الجماهيري الميداني في الشارع، والدفاع عن مصالح المغاربة في المؤسسات وتدبير الشأن المحلي في الجماعات، فلا تضارب هناك، الأساسي أن مشروعنا ندافع عليه، ولنا كل الجرأة لفضح الفساد وقول كلامنا كما هو ونفسه بالشارع والقبة، وأجهزة الدولة تتحمل كامل المسؤولية في إفساد العملية الانتخابية، ولا أحبذ جملة “الحياد السلبي”، بل الداخلية “دارت إيديها ورجليها في توجيه نتائج الانتخابات”.
وعودة للأجواء الداخلية التي صاحبت تحضير فيدرالية اليسار للانتخابات، فلا يختلف إثنان على أن القرار الأحادي الجانب للأستاذة نبيلة منيب بالانسحاب من فيدرالية اليسار عشية الانتخابات خطأ فادح بكل المقاييس، ونرجسية سياسية غير مفهومة أثرت على نتائجنا، لأنها عطلت التحضير الجيد للانتخابات في فيدرالية اليسار، وشكلت عامل إنهاك للفيدرالية بدل الدخول المتماسك للانتخابات، لكنها خيارات خاصة تتحمل مسؤوليتها في حزب الشمعة.
إن المطروح على اليسار أن يعيد النظر في كيفية الدخول للانتخابات، بأن يملك تصورا للماكينات الانتخابية، وهو مصطلح يطلق عليها في لبنان، وتعني الآلة الانتخابية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، ماكينة مركزية قوية، وأخرى جهوية، وماكينات فعالة محليا، تشتغل بزمن طويل سابق للحظة الصفر لإجراء الانتخابات ممتدة بعمق جماهيري وتخترق النسيج المحلي بكل مكوناته وأطيافه، لها إمكانات بشرية، مؤهلات تقنية، حد أدنى مالي لإدارة الحملة، خطة تواصلية، قاعدة بيانات رقمية حول العينة المستهدفة وأرقام الخصوم وكل المعطيات التي تهمهم.. بدون تصور متكامل لهاته الماكينات سنبقى نزاول الدخول للانتخابات من باب المبدئية لكن أيضا من باب الهواية.
بقية نقطة تتعلق بعتاب البعض لتحالف فيدرالية اليسار، حول مسألة ترشيح الرسالة لبعض رجال الأعمال وهو كلام غير دقيق، وبمسح بسيط للوائح فيدرالية اليسار وطنيا، يظهر بجلاء أن رمز الرسالة استند بالأساس على الشابات والشباب ليس فقط في ذيل المرشحين بل كوكلاء للوائح وقادة للفروع والجهات، ومن كل شرائح المجتمع بأطر مشهود لها بنظافة اليد، وبتقديم فيدرالية اليسار لشخصيات نزيهة، نفس الشيء بالنسبة للقوة النسائية التي كانت وازنة في لوائح فيدرالية اليسار، وهي معطيات مثبوتة بشهادة كل المتتبعين، لكن لمزيد من التوضيح فلا تضارب لدينا إن رشحنا بعض رجال الأعمال في فريق الرسالة، لأن مشروعنا المجتمعي يرمي أيضا لبناء بورجوازية نظيفة تواجه معنا الفساد وهيمنة اللوبيات المخزنية على الصفقات العمومية، وتقاسم الريع بين بعض العائلات الفاسدة فقط، واستيلاء أشخاص بعينهم مقربين من أجهزة الدولة على ثروة البلد.. كل هذا يقتضي من فيدرالية اليسار أن تحمل أيضا مشروع بورجوازية وطنية تستثمر وتبني معنا الدولة الوطنية الديمقراطية التي نطمح لها.
وللإشارة فإن الاكتفاء فقط بهذا العامل الموضوعي لتحكم الدولة في الانتخابات لإعاقة بناء يسار قوي، سيجعلنا كالنعامة التي تحشر رأسها في الرمل إذا لم نقم بافتحاص واع للذات، فلا يمكن أن يعيش اليسار بدون عملية النقد البناء، والذي يعتبر عملية تراكمية وديمقراطية لتطوير ذاته، لكن هناك فرق كبير بين النقد كآلية إيجابية لتقدم اليسار، وبين جلد الذات والزعماتية كعملية سلبية لا تؤدي إلا للتآكل الداخلي، ما يحتاجه اليسار حاليا، وابتداء من مشروع اندماج فيدرالية اليسار الذي سيوضع قطار انطلاقه الرسمي بفتح ورش داخلي يقوم على رافعتين أساسيتين :
- الرافعة الأولى : إعادة بناء سليم للتنظيم القاعدي المحلي في المناطق والأحياء، والقطاعات المهنية والشبابية والنسائية،.. وتوسيع الأذرع الموازية الجمعوية والمدنية لفيدرالية اليسار في كل ربوع المغرب، بحيث تتحول سلطة القرار من المركز والتمركز إلى القوة المحلية والجهوية الفعالة، باحترام تام لقواعد الديمقراطية الداخلية، والنقد والنقد الذاتي وتفعيل آليات المحاسبة، ولا مكان هنا لتيارات تستند على المحاصصة وصراع المجموعات المغلقة والأوراق المبعثرة دون سند الامتداد المجتمعي، لأن التيارات الحقيقية يجب أن يكون لها امتداد قطاعي وفي نسيج المجتمع لتمتلك القدرة على المطالبة بنسبية التمثيل في الأجهزة، كأن يكون لك مثلا تيار جارف للأطباء أو مهنيي الصيد أو جمعيات القرب،.. حين ذلك يمكن المطالبة بنسبة تمثيلية لتيار الدينامية المجتمعية التي يمثلها هذا العمق الجماهيري. فالتنظيم السليم يفتح النقاش الداخلي أمام كل التصورات والأوراق والحساسيات لكن بعد لحظة حسم القرار أو الفكرة يصبح التنفيذ جماعيا وتنتفي بعد ذلك كل حلقيات “الجْمَيْعَات” الأولى.
- الرافعة الثانية : بأن تفتح فيدرالية اليسار ورشا فكريا حقيقيا يرمي إلى تجديد الفكر التقدمي، وتحيين النظرية الاشتراكية بتبييئها، فعلا تبقى الأسس الكبرى لعدالتها وأهدافها الإنسانية والأممية في الدفاع عن الكرامة البشرية كلها قائمة، لكن آليات تنزيلها في نسيج المجتمع المغربي تحتاج منا لكثير من الجهد والاجتهاد، لأن أزمة كورونا عرت توحش رأس المال في التعاطي مع القضايا الاجتماعية، وأظهرت بجلاء التفاوتات الطبقية الصارخة، لكن فترة الخصب المتاحتة حاليا لليسار لم تجد تنظيمات قوية، قادرة على انتزاع فرض ذاتها كبديل جماهيري ونيابي. لهذا فتدقيق الجانب الفكري والنظري كسند مرجعي متجدر ومتجدد وواقعي سيكون أولوية في المشروع الاندماجي لفيدرالية اليسار الذي نتجه صوبه.. بنقد هادئ وبناء لمسار حركة اليسار بالمغرب وبتأسيس جديد لحركة اليسار المغربي.
إن فِرق الشباب والنساء التي نزلت لشوارع المغرب وقراه، وحملت رسالة فيدرالية اليسار، بدفاع مستميت عن مشروع جديد لبناء المغرب، وبأيادي بيضاء، هو مشروع لن يتوقف عند اللحظة الانتخابية، فهي مرحلة عابرة، رغم الدروس المهمة المستخلصة، بل الأهم هو البناء العلمي للأداة التنظيمية الواضحة الرؤية السياسية والمالكة للبوصلة الفكرية، إنه الرهان الحقيقي لتحقيق أمل ورسالة وحدة اليسار كبديل مجتمعي للمغاربة.