شخصياتمستجدات

عــــزيـــز قنجــــاع “لِمَ تتشابه أحزابنا في مضمون خطابها السياسي؟”

بمناسبة تنظيم الانتخابات العامة بالمغرب

لِمَ تتشابه أحزابنا في مضمون خطابها السياسي؟

محاولة في القراءة

عــــزيـــز قنجــــاع

إن مجمل العملية السياسية بالمغرب، بحيثياتها المنطقية الواقعية والنظرية، لا تنضبط لقانون واضح تتشكل على ضوئه قطبية سياسية معلومة، تنبني عليها اصطفافات واضحة، حيث يمكن لحزب ما أن يتحالف مع حزب آخر في مجلس جماعي ويعاديه في مجلس جماعي آخر دون مراعاة لأي منطق، كما يمكن أن يتحالف حزبان في انتخابات بلدية رغم ادعائهما التناقض على مستوى مشاريعهما المجتمعية، وكأن المدينة وحدة لتمرين ثانوي في السياسة، لا يرقى إلى مستوى التدبير ضمن المشروع المجتمعي العام، وهي الظاهرة التي أصبحت طاغية في المشهد السياسي وتثير استغراب الدارسين للمجال الحزبي بالمغرب.

كما أصبحت عمليات التمييز وإمكانيات الفرز داخل أطر الخطاب السياسي المغربي الراهن، المعبر عن التفاوتات البرنامجية القائمة بين الفصائل المتقاسمة للحقل السياسي المعاصر، عملية معقدة جدا ويلفها الكثير من الإبهام والغموض، خصوصا مع استجداء كل الأطراف الحزبية لغة نمطية أصبحت تتقاسمها كل التيارات السياسية، حيث يتم اعتماد تعبيرات إيديولوجية متشابهة وتماثلات على مستوى الموقف، ومفاهيم نظرية متطابقة في توصيف الأوضاع السياسية القائمة، دون الرجوع إلى مؤسساتها النظرية والمرجعية، حيث تتغير مؤشرات الميل العام في العلاقة بين الأحزاب، وتصبح هذه العملية، الدقيقة جدا في تطور العملية السياسية، مرتهنة إلى الأمزجة ومحكومة بالعلاقات العائلية والصداقات الوقتية دون ضوابط سياسية؛ وهي العملية التي كانت مستحيلة في مرحلة تاريخية معينة من تاريخ الاستقلال إلى زمن قريب.

وقد أفرز هذا الخضم من التماهي والتماثل والهلامية والتشابه الذي أصبح يطبع الحياة الحزبية في المغرب مرحلة كاملة من الاندماج والانفصال والتنافر ثم التحالف والانفصال دون محدد ودون معطيات سياسية تستوجب تحالفات سياسية جديدة أو مرحلة سياسية مستجدة تتطلب مواقف مستحدثة، الشيء الذي أعطى انطباعا سلبيا عن السياسة وعن ممارسيها. أمام وضع كهذا، صار لزاما علينا العودة إلى البحث في أصول العملية الحزبية برمتها ومنطق اشتغالها السياسي في أفق صياغة ضابط فكري ومنهجي بالنسبة إلى المحلل السياسي والفاعل الحزبي، يساعد على التمييز بين مواقع الأحزاب، من جهة، ويكون منهجا متبعا للمناضل السياسي يوجهه في إنتاج مواقفه وبناء تحالفاته ورسم مسار خطه السياسي. وتأتي هذه القراءة، بالإضافة إلى محاولتها لفت الانتباه إلى هذا المشكل، لتقترح كذلك مقدمات التفكير في إبداع قانون يتم من خلاله تصنيف التيارات في حقلنا السياسي المعاصر كمسألة ملحة.

في المنهج تتولد صعوبة قراءة تطور الحركات السياسية المغربية الراهنة من صعوبة الاتفاق حول تحديد الفترة التاريخية التي أعادت تأسيس الحقل السياسي المغربي الحالي، فمما لا شك فيه أن الحقل السياسي الراهن لم يعد محكوما بقواعد ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويترتب عن ذلك سؤال أساسي هو: من أين تبدأ المعاصرة المحايثة لعملنا السياسي الراهن؟ وما هي الحقبة التاريخية التي ينبغي اعتمادها كنقطة انطلاق لممارستنا السياسية الراهنة؟ والتي أدت إلى تآكل أحزاب قوية، وبروز أخرى بقوة متفاوتة، وتململ أخرى واحتلالها حيزا مهما بموقع سياسي وبخطاب ينم عن دور جديد وحدة المراوحة التي عرفها الحقل السياسي طيلة العقدين الأخيرين من الزمن، هذا الحقل الذي شهد وفود فاعلين جدد إليه واعتملت داخله تناقضات مستجدة، وتّرت الحقل السياسي بحدة، دون أن تحرره.

إن تحديد الفترة التاريخية التي أعادت توضيب حقلنا السياسي هي ما اصطلحنا عليه ب«المرتكز المرجعي « ، وحددناها مع بداية تسعينيات القرن الماضي، بعد تحول العالم إلى القطبية الأحادية وسقوط الاتحاد السوفياتي وجدار برلين. نشترك في هذه الوضعية مع العديد من الدول التي تشبهنا. من هنا كانت قراءتنا لمنطق الفعل السياسي الراهن محكومة حاضرا وآنيا بالنقطة التي أعادت توضيب منطق ممارستنا السياسية ضمن سياق جديد مخالف، والذي هو ليس حدثا سياسيا داخليا، ثمرة قرار أو تفكير ما. سيقول الكثير من القراء إن الأحزاب السياسية وُجدت قبل هذه المرحلة ولا ينبغي إهمال تاريخ طويل كعامل في ما وصلت إليه الآن، والأحداث الداخلية التي تميزت بانفتاح الحقل السياسي التي دشنتها عملية النقاش حول التداول السياسي وبعده التناوب السياسي.

نقول: إن العامل الداخلي في السياسة محدد في إنتاج الموقف المناسب من الحدث السياسي المحلي، لكن العامل الخارجي يمثل منطق الموقف الذي ينبني عليه، باعتبار أن المتحكم في إنتاج الموقف هو المسار العام للتاريخ الكوني، وكما شكلت الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بالنسبة إلى حقلنا السياسي المغربي مرتكزا لبناء الرؤى والبرامج وإنتاج المواقف، كذلك فالمرحلة الجديدة أعطت منطقا مغايرا تبدلت على إثره مواقف، ووقعت تنازلات، وانبنت تحالفات، وتقوت خطابات كانت موجودة من قبل لكنها تغيرت بالحجم، كما تبدلت مواقع القوة والجذب. قد تبدو هذه النظرة تطرفا تاريخانيا مبالغا فيه، لكن الذي دعانا إلى اعتماده هو فائدته المنهجية والعملية في قراءة تطورات الخطاب السياسي المغربي المعاصر وإماطة اللثام عن إبهام يلاحق فهمنا للعملية السياسية، كما أن العديد من المناضلين لا يفهمون سر التقارب على مستوى الخطاب بالنسبة إلى جميع الأحزاب، ولا يفهمون عدم إمكانية إنتاج نفس مواقف المراحل السابقة رغم بقاء نفس الخطاب ونفس الوجوه والتوجه.

إن هذه المسألة المنهجية أساسية في إعادة توضيب فهمنا للعملية السياسية بالمغرب، وذلك من خلال الجواب عن سؤال: من أين تبدأ المعاصرة في حياتنا السياسية؟ والجواب عن هذا السؤال يفيدنا في تعيين نقطة مرجعية مركزية تمكننا من الارتكاز عليها كإطار عام يؤطر الأحداث السياسية ويعطيها اتساقيتها ومعقوليتها. غير أن النقطة المرجعية في قراءة التشكل المعاصر لخطابنا السياسي وبالتالي للتشابكات السياسية المصاحبة، لا تعني القطع مع تاريخ الفاعلين السياسيين بالحقل السياسي المغربي، بل نقول إن قراءتنا للعملية السياسية الراهنة محكومة حاضرا بالفترة التي أعادت صياغة هذا الفعل ضمن سياق كوني جديد.

وبالنسبة إلينا، فمرحلة بداية التسعينيات من القرن الماضي تعتبر مرحلة إعادة توضيب شامل بالنسبة إلى جميع الأحزاب السياسية لخطابها السياسي. ولا نقصد هنا أن هذه الأحزاب قامت بقراءات نقدية لبرامجها، بل نقصد أن فحوى ومضامين خطابها سيقت داخل سياق جديد، فأفرزت اضطرابات أولى استقرت بعدها المنطوقات القديمة بمضامين جديدة، وهي العملية التي تمت دونما مساءلة فكرية، ودونما قصد إلى المراجعة تحت ضغط الظروف ومع الرجة العالمية التي عرفتها الأنظمة السياسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين.

في الموضوع : تميزت مرحلة ما بعد انهيار المنظومة الاشتراكية عموما بميلان جميع القوى السياسية بتعدد تلاوينها إلى تبني خطاب سياسي ليبرالي يتفاوت في حدة تعاطيه مع متطلبات الواقع، بين الاعتدال والميل نحو تجذير خطاب ليبرالي راديكالي بسقف ديمقراطي، تم تخليص المعجم السياسي من مفاهيم ظلت مركزية حتى حدود ذاك التاريخ، مثل الصراع والتناقض والمجابهة، مع تبني خطاب المصالحة والتماثل تحت شعار المشاركة الديمقراطية. كما ستعرف تصنيفاتٌ تقليدية استند إليها التحليل السياسي طويلا في عقل الحركية السياسية بالمغرب اختلالاتٍ بينة وإعادة صياغة واضحة، لازالت تطبع قراءاتنا له، رغم ما نعانيه في تصنيف قوى اعتبرت تاريخيا في خندق تصنيفي واضح، خطابها لكن وممارساتها وتحالفاتها أصبحت تندرج ضمن معطيات جديدة أبعدتها عن التصنيفات السائدة خلال مرحلة ما قبل تاريخ النقطة المرجعية التي حددناها، أي بداية تسعينيات القرن الماضي، وذلك ضمن توازنات سياسية جديدة:

اولا: بالنسبة إلى القوى الإصلاحية التقليدية والقوى الليبرالية: لينت القوى الإصلاحية التقليدية مواقفها السياسية لتلتقي مع القوى اليمينية المحافظة، في الوقت الذي سارعت فيه الأخيرة القوى اليمينية المحافظةإلى توسيع دائرة خطابها السياسي ليتمطط إلى مستويات ليبرالية وسطى تتوسل فهما للطرح الديمقراطي وترفع يافطة الإصلاح السياسي، والتقت بذلك مع الجناح المعتدل داخل الصف الإصلاحي التقليدي في تجربة التناوب، مما جعل الأحزاب السياسية الوازنة والمتحكمة في المجال السياسي المغربي تبدو للحظة وكأنها متشابهة. وفي هذا الوضع التاريخي المتميز، كفت القوى الإصلاحية التقليدية عن تذكير اليمين الليبرالي القديم بارتباطاته الإدارية. هذا الأخير، وبسبب النجاح الحاسم للتجربة الليبرالية التي أكدتها أحداث مطلع القرن الحالي، أصبح يتبجح بكونه وارث المواقف التاريخية الصائبة، إلا أنه كف بدوره، في هذا السياق، عن أن يعيب على أعدائها الإصلاحيين التقليديين السابقين تنكرهم لماضيهم المعارض وتهافت خطابهم الإصلاحي القديم، بسبب أرضيات التلاقي الجديدة حد التماهي التي وفرها الخطاب السياسي الجديد، حيث وفر أرضية تحالفات جزئية في البداية توسعت تدريجيا للإعلان عن تحالفات تتبدل بين الفينة والأخرى، لكنها ممكنة في أي لحظة حتى دون داع، الشيء الذي كانت تطمح إليه هذه الأحزاب لتدعيم تاريخ طويل من البحث عن شرعية سياسية وجماهيرية.

ثانيا، اليسار الأرثوذوكسي: بعد عمليات المراجعة المعلنة وغير المعلنة لمواقفه، اندفع تيار منه في اتجاه الجناح الليبرالي الإصلاحي برفع سقف مطالب الوحدة والاندماج كشعار لتسريع وتيرة الضغط في أفق إقرار إصلاحات مستعجلة وضرورية، لكن تراجعه البرنامجي والمطلبي بشكل استعراضي رفع سقف قوى الإصلاح التقليدي لكي تصب في مطلب الوحدة والاندماج في صيغة أكثر عملية، وهي الالتحاق. ومع رفضه لصيغة الالتحاق هذه، بقي برنامج اليسار الأرثذوكسي مركزا حول الوحدة كبرنامج نضالي استراتيجي في صيغة وحدة – وحدة – وحدة. في ظل هذا التراجع السياسي البرنامجي، توجهت مجموعة من القواعد الغاضبة نحو التكتل داخل مجموعات صغيرة، ووجدت مجموعات أخرى ضالتها في المتاح على الصعيد النضال الدولي، حيث التحق بعض منها بجماعات الضغط العولمي، خصوصا جماعة أطاك، في حين سيحاول جزء عريض تجريب العمل الجمعوي بالصيغ الجديدة التي أملتها الأحوال الدولية ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، حيث تم التخلي عن الممارسات الجمعوية التقليدية، محاولا تجديد عمله الجمعوي بالاستناد إلى خطاب التنمية كما روجت له المجموعات اليسارية التي رجعت إلى المغرب بعد العفو العام وقرار عودة المنفيين. وبالنسبة إلى الجناح الجذري الذي بقي متمسكا بالأطروحات اليسارية الماركسية، فقد لعب ورقة حقوق الإنسان التي شكلت مصيدة لكل من شق عصا الطاعة على التوجهات السالفة، وكذا للتائبين عن مسارهم الاشتراكي والذين لم يجدوا بدائل خارج تجربتهم، وللغاضبين. هذه التجربة اتت أكلها على المستوى العملي والسياسي، حيث شكلت الخلفية العملية لتيار راديكالي سينمو باتجاه تبني خطاب أكثر تجذرا، كما مكن الانفضاض من حول الصرامة المرجعية التي وفرتها مفاهيم اليسار من إعطاء زخم ومد شعبي كبير للتيار الأصلاني «الحركة الأمازيغية» الذي استعاد مطالبه التي تشكلت في سياق يساري ليصوغها برنامجيا على أسس هوياتية صرفة، تندد بالإقصاء وتدعو إلى توسيع مجال حضورها.

التيار الديني: إذا كان سقوط الاتحاد السوفياتي وجدار برلين قد أعطى زخما للخطاب الإصلاحي الليبرالي، وتحكم في إعادة صياغة الخطاب اليساري بالمغرب، فإن الخطاب الديني، بالإضافة إلى العوامل السابقة التي أكدت بالنسبة إليه تاريخا طويلا من العداء للشيوعية ومن خلفها النظرية الماركسية، اعتبر نفسه الأجدر بقطف ثمار المرحلة السياسة، لكونه صاحب الخطاب الذي كان السبب في دحر الاتحاد السوفياتي على أرض أفغانستان فاتحا بذلك عصرا جديدا، وقد شكل انتصار المجاهدين بالنسبة إليه عاملا إضافيا أعطى زخما وزهوا مبالغا في تقدير قوة إنجازه الذي شكل أرضية استقطاب واسعة في صفوف أنصاف المتعلمة وبوتيرة سريعة جدا.

وقد ارتبط بروز الحركات الإسلامية في هذا السياق بتيارين، أحدهما يدعو إلى المشاركة ويرفع شعار الديمقراطية ويقحم خطابه الديني في مسائل جزئية ولغايات استقطابية لا غير، وقد بنى هذا الجناح تحالفاته بتماه تام مع أصحاب التيار الإصلاحي الواسع، واستطاع تلوين خطابه السياسي وتطعيمه بمفاهيم ليبرالية بتوفيقات معرفية في الديمقراطية والجماهيرية والتقدمية ورؤية للتاريخ تود إدراج التاريخ الإسلامي في إطار التاريخ الكوني؛ وتيار ديني آخر توسل بدوره الدين كأداة لممارسته السياسية الراديكالية، وهو ينتقد منطق المشاركة السياسية وينادي بالتغيير الجذري، ورغم العداء الظاهر الذي ميز هذا التيار الإسلامي لجميع الحركات السياسية بجميع فصائلها، خصوصا عداءه المتبادل للتيارات اليسارية الأرثوذوكسية، فإنه في خضم هذا العداء المتبادل لليسار الأرثوذوكسي اكتشف الفريقان إمكانية الالتقاء بعد أن تبين أنهما يلتقيان في مطلب التغيير ويختلفان في مضمون هذا التغيير، مما أصبح يؤسس لإمكانيات واسعة من التحالفات التكتيكية المرحلية والعملية كما شهدتها حركة العشرين من فبراير.

إن المآلات الواقعية للأحزاب ومساحات فعلها داخل الحقل السياسي أصبحت مشدودة إلى أفق مغاير للأفق الذي كان مرسوما قبل بداية تسعينيات القرن الماضي. ومن ثمة ومن خلال الخطوط العريضة لهذه المآلات، كما بيناها، تساعد على الأقل في تثبيت بوادر لقراءة منحنى التحالفات الممكنة واصطفافات موضوعية عقلانية. إن الاتفاق على قراءة للمشهد السياسي من خلال منهجية «المرتكز المرجعي» يساعدنا على استجلاء الالتقاءات والاختلافات الحاصلة في راهننا السياسي، وسيساعدنا على إيجاد مداخل لإعادة توضيب حقلنا السياسي الراهن وتوجيه دفة التحالفات في اتجاه عقلنة هذا الحقل الذي لن يؤدي بقاؤه هكذا إلا إلى تدعيم منطق المراوحة المستعادة التي يعرفها المجال السياسي في بلادنا، ويحرر قوى فاعلة من ضغط التاريخ المنجز المكثف بفعله في ربقة سياق مخالف، وتأسيس فعل متجذر قوي يراعي الاستدراجات الضاغطة للتاريخ الكوني الراهن.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube