فضاء الخبراءمستجدات

معارضة تقرير النموذج التنموي الجديد

محمد المباركي

تقديم

في هذه المعارضة سنحاول معاينة تقرير النموذج التنموي الجديد الذي يطرح نفسه كميثاق وطني جديد وعقد اجتماعي / خطة طريق للمستقبل.

ما يلفت النظر قبل كل شيء كون اللجنة التي حررت التقرير، هي لجنة استشارية حسب الدستور. لكنها نظرا لكونها معينة من قبل السلطة العليا للبلاد ارتقت حسب العرف المتداول داخل الدولة العتيقة لمستوى هيئة تقريرية. مما سمح لمحرري العقد ووسائل الاعلام الرسمية تقديم مشروع النموذج التنموي جديد كميثاق وطني جديد وخطة طريق بمثابة عقد اجتماعي يتجاوز حيز الشرعية الدستورية. لأن العقد الاجتماعي يحدده الدستور ويتمّ قبوله أو رفضه عبر استفتاء عام تناقشه وتؤطره القوى السياسية النقابية الحقوقية وممثلي المجتمع المدني. يشير تقرير النموذج التنموي الجديد الى المساهمة التشاركية لجميع الفرقاء. لكنها تشاركية من جانب واحد وكل ما على الفرقاء السياسيّين والنقابيّين والجمعويّين سوى المصادقة كبيعة ضمنية.

نظرا لأهمية مشروع النموذج التنموي الجديد وجب فتح نقاش عام حوله، خاصة أنه يطرح عمليا كتوجيه للسياسيات التي ستسير عليها البلاد خلال الخمس عشر سنة القادمة. والذي يعتبر في الظرفية الحالية، المطبوعة بالتحضير للانتخابات البرلمانية والمحلية والجهوية القادمة، أرضية توجيهية للأحزاب المتنافسة. مشروع يطرح نفسه كتوجيه جديد بدل مشروع قديم لم يتم تقييمه ومحاسبة المسؤولين عن اختلالاته، وهذا منذ 2005. والذي كانت سمته الأساسية، اغناء الغني وافقار الفقير. لنترك حاليا تقييم المشروع التنموي القديم ونعاين الوجه الجديد لنفس العملة مع طرح البدائل التي نقترحها.

كعناصر توجيهية لتشريح عناصر ما جاء به تقرير النموذج التنموي الجديد، سنحاول من خلال محتوياته تبيان نواقصه بالإجابة على التساؤلات التالي، أو التي ستأتي خلال الفحص. من بين هذه التساؤلات لا الحصر:

ما معنى تقديم مشروع تنموي جديد في غياب تقييم النموذج التنموي الذي سبقه خاصة، وباقي المشاريع التنموية السابقة عامة؟

ماهي الخلفية التي تحكمت في وضع هذا المشروع الذي سيحدد مستقبل البلاد؟

ما هي العقلية / الفلسفة / المنهجية التي تحكمت في وضع هذا المشروع؟

أين يختلف هذا المشروع التنموي الجديد على المشاريع التي سبقته؟

للإجابة على هذه التساؤلات والتي ستظهر عبر الحوار، سنعمد الى مسايرة المقترحات والأفكار الأساسية التي جاء بها تقرير النموذج التنموي الجديد، لمناقشتها قبل ابداء الاقتراحات.

1 – هل تقرير النموذج التنموي الجديد مشروع أم ميثاق وطني لعقد اجتماعي جديد؟

لو أن تقرير النموذج التنموي الجديد يقدم نفسه كمشروع للجنة من اللجن التي تظهر وتختفي، أو تظل مجمدة لتبرز من حين لحين كتبرير لوجودها، ما ناقشنا محتواه. لكن اللجنة التي ظهرت علينا بمشروع النموذج التنموي الجديد، أعطي لها من الهالة شكلا ومضمونا حدا يلفت النظر. لدرجة تظنها رسالة دعوة على شاكلة المشاريع التجديدية القديمة التي قامت باسم “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. لفهم ذلك نبدأ بالشكل الذي طرح به التقرير. ثم بعد المضمون الذي جاء به.

الشكل الذي طرح به المشروع / الميثاق

ككل دعوة تجديدية دينية لا بد لها من داعية ملهم تتمثل فيه أوصاف الامامة والولاية. أي نوع من القدسية والتفقه في أمور الذين والدنيا. هل هناك أجلّ مقام، بخصوص دعوة / تقرير النموذج التنموي الجديد، من ضلال عاهل البلاد؟ الذي هو على المستوى الروحي أمير المؤمنين. ومن الناحية الدهرية ملك البلاد. لذا لما يتم الحديث عن النموذج التنموي الجديد، يقدم له كون مرجعيته الفكرية ال واطاره العقائدي خطاب العرش لسنة 2019. هذا ما خص الجانب الروحي. أما الشرعية الدستورية أي الدهرية، مرجعيتها خطاب رئيس الدولة لافتتاحية الدورة الحولية للبرلمان في 13 أكتوبر 2017 وكذا افتتاحية دورة 12 أكتوبر 2018. هكذا لتأكيد الشرعية الدستورية، يتم التأكيد على الخطابات الملكية كلحظة تاريخية لإحداث منعطف حاسم للمسار الاجتماعي السياسي الثقافي بالمغرب. لذا فالنموذج التنموي الجديد لم يعد تقرير مشروع فقط، كغيره من المشاريع التنموية، بل ارتقى الى مستوى ميثاق وطني يشمل كافة مرافئ الحياة. والذي قبل الشروع في تطبيقه خلق دينامية انخرطت فيها جميع القوى المحلية ببلادنا، كما جاء في مدخل التقرير النموذجي التنموي الجديد. مؤكدا في نفس الوقت أنها في حد ذاتها – أي الدينامية التي خلقها الميثاق الجديد؟ حبلى بالآمال.

لإضفاء الهالة على تقرير النموذج التنموي الجديد وتقديمه كميثاق الوطني أو عقد اجتماعي بالمفهوم الحداثي، بعد تقديمه لرئيس الدولة في 27 ماي 2021. تمّ مباشرة في 15 يونيو 2021، عقد لقاء واسع بالقصر الملكي، حظره الى جانب الملك رئيس الحكومة والوزراء ورؤساء الغرف البرلمانية ورؤساء الأحزاب السياسية وكبار المسؤولين في الدولة. لقاء بمثابة استفتاء تأكيدي حضره خاصة القوم.

عموما لمّا يقدم مشروع، كيفما كانت أهميته، يتم الاستدعاء أساسا للمختصين والمهتمين بالموضوع، لكن أن يحظر ممثلون عن كل المؤسسات الدستورية والسياسية والمدنية، هذا معناه بيعة ضمنة. ما معناه ونحن على أبواب الظرفية الانتخابية المقبلة، يقدم كأرضية للبرامج التي ستقدمها الأحزاب السياسية التي ستدخل حلبة الانتخابات البرلمانية والجهوية والمحلية في 8 من شتنبر 2021.

إذا علمنا أن النموذج التنموي الجديد، هو خطة طريق عامة للخمس عشر سنة القادمة، وهي مدة زمنية جد طويلة بالنسبة لزمنا الراهن حيث أصبح التطور على كل المستويات جد سريع. السنة الحالية توازي عشر سنوات بداية القرن الفائت. أي أن مدة 15 سنة توازي حولية ابن خلدون في بعث الدعوة وقيام وانهيار دولتها. ثم ما دور المؤسسات الدستورية التي من مهامها الأساسية وضع البرامج التنموية والاجتماعية والاقتصادية اللازمة مع ضرورة تطبيقها؟ وهي محاسبة في ذلك عبر الانتخابات البرلمانية. لذا ما قيمة الانتخابات والبرلمان المنبثق عنها في هذه الحالة؟ معناه كون البرلمان ما هو سوى عبارة عن لجنة روتينية وبوق للتوجيهات الخارجة هنه. وأن الحكومة عبارة عن مجموعة من تقنيّين لتطبيق البرنامج التنموي الجديد. إذا لم تكن الغاية من النموذج التنموي الجديد كخطة عمل وميثاق وطني / عقد اجتماعي، فما المقصود من كل هذه الهالة التي حضيّ بها؟ وإذا لم يكن كما أشرنا، فما هو المعمول إذا جاءت أغلبية حزبية بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة بمشروع مناقض للنموذج التنموي الجديد؟ في هذه الحالة يصبح مصير النموذج المقترح مثله مثل النموذج التنموي الذي سبقه. ومثله سيعرف سلّة المهملات دون رقيب أو حسيب. هذا رغم الطاقات البشرية والموارد المادية التي أهدرت فيه. انها بالفعل معضلة عاصية تطرح أكثر من سؤال وتساؤل. أولها في أية دولة نحن؟ ما نوع خصوصيتها لنفهم عقليتها؟ ألا يمكن ربط إنزال تقرير النموذج التنموي الجديد بتزامنه مع القاسم الانتخابي الجديد، يجعل من الانتخابات القادمة ريع سياسي بامتياز؟ الغريب أن القاسم الانتخابي الذي تنعته الأحزاب السياسية المشاركة في اللعبة الانتخابية بأنه غير ديمقراطي، تراها رغم ذلك، تعلّل موقفها أن القاسم الانتخابي الجديد بلاء لا مناص عنه. يمر هذا السيناريو في صمت عميق عن الاعتقالات التعسفية وانتهاكات حقوق الانسان وعدم انتقاد السياسات المتبعة التي أوصلت البلاد الى الوضعية التي هي عليها، من ريع وامتلاك الثروات عنوة وتفشي الفساد والرشوة على مجمل مستويات المجتمع. القبول بالنموذج التنموي الجديد يعني القبول بثياب جديدة وثمينة، وأنت لا تملك قيمتها، ويمنعونك من غسل ثيابك القديمة. ما معناه كيف تقديم مشروع جديد دون تقييم الذي سبقه مع محاسبة الساهرين عليه؟

يقدم النموذج التنموي الجديد لتبرير نجاعة مشروعه، نفس الكلمات التي حفظناها ونحن تلاميذ غداه الاستقلال. كأن التاريخ يعيد نفسه وهي مهزلة. كون المغرب يزخر بمؤهلات مهمة يمكنه الاعتماد عليها من أجل النهوض بتنميته وتسريع وتيرتها. وهي مؤهلات مستمدة في المقام الأول من تاريخ المملكة العريق وموقعها الجغرافي وانتمائها الافريقي المتجذر، فضلا عن انتمائها إلى مجموعات حضارية كبرى. ومن المؤهلات الهامة التي يحبل بها المغرب أيضا، ثراء رأسماله الطبيعي والبشري وغير المادي، لاسيما السمعة التي يتمتع بها وإشعاعه الدولي، بالإضافة إلى قدرته على القيام بإصلاحات كبرى “. ويزيد التقرير في الاطناب بالحديث عن حضارة المغرب العريقة وتنوع ثقافته وهويته الموحدة والقيم المشتركة ونعمة الاستقرار عبر الوحدة والتنوع وموقعه الجغرافي كحلقة وصل بين الحضارات. كما للمغرب مؤهلات استقطاب الاستثمارات ولعب دور اقتصادي مهم في القارة الافريقية. كل هذا حسب التقرير بفضل نهج المملكة مسلسل مطردا ً جديدا وروحية“. كلمة روحية جائت نعت للمملكة وليس، كما يجوز لغويّا، لمسلسل. التركيز على المرجعية الروحية للمملكة كما أشار لذلك التقرير يفهم منه، أن تقرير النموذج التنموي الجديد، هو عقد بيعة مباشرة بين الملك والشعب. على منوال ثورة الملك والشعب.

حتى لا نقف عند كل صيغة من هذا القبيل والتي يعج بها مخطوط النموذج، أمكن القول أن النموذج التنموي الجديد يأتي كميثاق وطني بين الملك والشعب، في مستوى أعلى من الدستور والمؤسسات الناتجة عنه وباقي تنظيمات المجتمع، سياسية نقابية حقوقية جمعوية مهنية وغيرها. الأمر الذي يبرهن أن نفود سلطة المؤسسة الملكية أصبح بغنا عن مختلف المؤسسات. كان هناك أمل مع حكومة التناوب حدوث مرحلة انتقالية تتساوى خلالها صلاحية المؤسسة المالكة والقوى السياسية والاجتماعية عبر المؤسسات التشريعية والقضائية المستقلة. هذا كضمانة لانتقال ديمقراطي فعلي. ما معناه دخول العصر الحديث. لكن لا شيء من هذا القبيل حدث.

اشار التقرير في مستهله اقتحام السوق الافريقي كتأكيد على نجاح المقاولات والأبناك المغربية. وهذا دليل حي للقفزة النوعية التي ستوفر، الى جانب المشاريع الأخرى، سيولة مالية متدفقة تعود منافعها على المواطن. يقول هذا من دون وضع تفاصيل مرقّمة ومؤرخة لقيمة للسيولة السنويّة وطريقة توزيعا. علما أن التوزيع العادل للثروة الوطنية لن يتحقق في غياب مؤسسات قوية تربط المسؤولية بالمحاسبة. من أين تأتي الأموال؟ ومن يستثمرها؟ وما هي الأرباح الحقيقية وكيف يتم توزيعها ومن يقرر ذلك ويراقبه؟ كلها أسئلة بسيطة ومشروعة، يمكن طرحها والاجابة عنها بربط المسؤولية بالمحاسبة في إطار مؤسسات قوية وقضاء مستقل.

بدون مواطنة فعلية لن تكون هناك تنمية. انعدام الحريات الفردية والجماعية وربط المسؤولية بالمحاسبة هو سبب تفشي الريع والرشوة والفساد. الثورة الثقافية وما نتج عنها من تقدم صناعي وإنتاج مالي سمح بتوزيع متنامي للسيولة المالية في المجتمعات المتطورة ديمقراطيا. حدث هذا كنتيجة تفتح العقول عبر نشر المعرفة والوعي بأن ضمان الحرية الفردية والجماعية أساس كل تنميّة فعلية في إطار الديمقراطية الحقة. التنمية الفردية والجماعة تتحقق لمّا تعمّ الطمأنينة والسلامة النفسية والجسدية لكل أفراد المجتمع. في غياب الديمقراطية الفعلية كل حديث عن النمو يعني المزيد من غنى الغنيّ وتفقير الفقير. أي المزيد من الفوارق الاجتماعية.

في ورقة كتبتها منذ عقود، قارنت فيها إمبراطورية أقصى الغرب وهو المغرب، باليابان إمبراطورية أقصى الشرق. وخلصت لو أن المغرب قام بعملية تنويرية تحديثية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كما حصل باليابان، لكان مستواه الاجتماعي والاقتصادي اليوم في مستوى الدول المتقدمة. قريبا منا تجربة كوريا الجنوبية، التي كانت سجينة الحكم الدكتاتوري، ثم تبنّت ابتداء من 1964 نظاما ديمقراطيا حقا، حدث إثره طفرة نوعية أوصلتها لما هي عليه اليوم من تقدم سياسي واجتماعي اقتصادي. نجاح كوريا الجنوبية التنموي، تحقق بعد إقرار الديمقراطية قولا وفعلا مع التركيز على التعليم والصحة كرافعتين أساسيتين للتنمية المستدامة. أما النموذج التنموي الجديد فانه يأتي من آخر الآية، أي النمو الاقتصادي كرافعة للتنمية الاجتماعية والمؤسساتية. وهي معزوفة روج لها منذ بداية ستينات القرن الفائت، لما استفرد القصر بكل دواليب السلطة ليقر حكمه الفردي، والتي زادت في تعميق الفوارق الاجتماعية ومعها المزيد من الفساد والرشوة والمحسوبية. كان يروج كون المرحلة هي للبناء الاقتصادي وليس للهدرة الزائدة، أي الخوض في السياسة. وأنه بالتنمية الاقتصادية كل المجالات الاجتماعية والسياسية ومعها الديمقراطية، ستحل من تلقاء نفسها. فيتمّ تعميم التعليم ومجانية الصحة وضمان السكن اللائق والشغل للجميع. ما ذا حدث لمّا علّق المشروع الديمقراطي؟ عوض السيولة المالية الناتجة عن التنمية الاقتصادية وتوزيعها على المجالات الاجتماعية من تعميم التعليم الصحة السكن والشغل، تمّ اغناء الغني وتفقير الفقير في ظل سنوات الجمر والرصاص. قمعت خلالها الأصوات التي تنادي بالحرية والكرامة واثبات أسس نظام ديمقراطي. فحصل احتكار وسائل الإنتاج التجاري الصناعي والفلاحي في يد الاقطاع والسماسرة الجدد وتهميش الطبقات الشعبية. نهاية الحماية، كنا نسمع ونحن صبيان، بعد الاستقلال سيجد كل مغربي ومغربية أربعمائة ريال تحت الوسادة، وجاء الاستقلال ولم يجد المغاربة سوى البطالة وطحين الفرص الأمريكي. أما الفوسفاط فلا أحد يعرف ليومنا هذا، كم انتاجه بالضبط وأين تصرف موارده المالية. ونفس الشيء بالنسبة لباقي خيرات البلاد، برّا وبحرا. والتي هي ملك الشعب ومن حق المواطنين والمواطنات مراقبة مداخلها ومحاسبة من يتصرف فيها خاصة ونحن نتحدث عن التنمية. كيف تمّ توزيع الأراضي المسترجعة من المعمرين ولماذا لم يطبق الشعار التنموي السليم الأرض لمن يحرثها“. وأخيرا جائت بشرى حميدة، كون المياه البحرية جنوب المغرب، تختزن كمية هامة من المعادن النادرة والثمينة، مما جعل بعض الدول تتهافت اما إيجابيا أو سلبيا اتجاه المغرب. فهل وضعت لجنة برلمانية لمتابعة هذا المشروع الحيوي الهام لمراقبة تطوره، أم أن هناك لجنة معيّنة؟

ان ما نقدمه من انتقادات لا علاقة له والمواقف العدمية التي يرفعها في وجهد كل نقد بنّاء بشأن القضايا المصيرية للشعب، كل من دعاة الفكر اللاهوتي وأولياء السلطة وأتباعهم. انما هي حقائق نستوفيها من سجل التاريخ، أو نستنتجها من المعطيات الملموسة كما هي على أرض الواقع.

بنى تقرير النموذج الجديد هرمه التنموي على القاعدة الاقتصادية، مما يفرض قول كلمة حول علم الاقتصاد الذي يقدم كعلم خارق للعادة، بدونه لا يمكن الحديث عن بناء الديمقراطية أو صيانة حقوق الانسان. خاصة أن لعلم الاقتصاد رموز وقوانين ورسوم بيانية وتصاميم مختلفة، تزيد في تعقيد فهم معطياته والحلول التي يأتي بها. حيث يقبل بها لغير المتمكن كأنها مفتاح سحري يحل مجمل المعضلات الاجتماعية والسياسية. والحقيقة أن علم الاقتصاد عامة وعلم الاقتصاد السياسي خاصة، هو علم يفهم بالحدس والفطرة السليمة التي توجد عند غالبية الناس. تدبير الحياة المعيشية للمنزل، تساير في جوهرها الرئيسي إدارة الشؤون الاقتصادية للمجتمع. اسأل ربة ورب البيت كيف يديرا شون أسرتهما، من أكل وشرب وسكن وشغل وكساء وسفر وتدريس ومخيم للأطفال وزيارة الأحباب وتحضير ملزمات الأفراح، من سبوع وأعياد وخرجات للفسحة، ومزاولة الرياضة والخيالة والمسرح والمواسم وشراء السيارة والتلفزة وغيرها من المسائل الضرورية لحياة عادية. طبعا هذه الضروريات تختلف من أسرة لأخرى لكن أسس تدبيرها واحدة…. من دون اللجوء لعلم الاقتصاد يظهر للعيان، أن القاعدة العامة التي يلزم لرب وربة البيت السهر عليها هو الحفاظ على التوازن بين المدخول والمخسر. إذا حصل هناك سوء التدبير، أو انعدام المدخول أو حادث خارجي غير منتظر، أو أي عامل يؤثر على هذا التوازن، يؤدي لا محالة لوضعية وخيمة يتضرر منها أولا وقبل كل شيء الأطفال. وأكثر حدة هذه العواقب لما لا ينعدم المدخول.

الفطرة السليمة في علم الاقتصاد مبنية على التوازن بين الدخل والانفاق. بين مجموع ما ينتج ومجموع ما يستهلك. إذا تمّ هناك تبذير أو سوء التصرف سواء ما خصّ الدخل أو الانفاق أو تجاوز الانفاق ما يذخر، يحصل فقدان التوازن بين الدخل والانفاق ومنه المديونية. وهو نفس الأمر بالنسبة لأي فرد لما يطلب دين من البنك. وهو ملزم رد الدين – بجزم الياء – مع أداء الفوائد المصرفية. وكلما طال رد الدين زادت الفوائد البنكية. نفس الأمر يحصل في مستوى أشمل وأعقد بالنسبة للدول التي توجد في مثل هذا الوضع. انها قاعدة ثابتة في فهم أبجدية الاقتصاد، تطبق على الفرد والعائلة والمؤسسات والدولة تطبق بمستويات تتعمق وتتعقد بالنسبة لكل منها.

إذا كان البلد يتحكم في عملته، ومن ميّزة المغرب أنه يتحكم في سكّته وهذا من غابر الأزمنة، خلافا للعديد من البلدان. ضرب العملة له أهمية بالغة وأساسية في علم الاقتصاد، الأمر الذي لا ينتبه اليه ولا يحسن استعماله بالمغرب الاّ ناذرا. سكّ العملة ليس معناه اصدار النقود المالية فقط. سكّ العملة ليست طبع أوراق مالية وصياغة معدن النحاس والفضة الذهب الى نقود. بل هي عملية سياسية استراتيجية بالأساس. تسمح عند الاستعمال الذكي والمنتج لها، الحفاض على القدرة الشرائية لعامة لأفراد المجتمع، وتقليص الفوارق الاجتماعية. هكذا عوض رفع الأسعار بشكل فوضوي كما هو حاصل، مما يسهل المضاربات والسمسرة في كل المجالات، وجب ضبط الأسعار والسير حسب الإمكانيات الفعلية للبلاد مع التوزيع العادل لخيراتها الطبيعية والإنتاجية. هذا من الجهة الداخلية، أما على صعيد التبادل التجاري أو المالي فيجب رفع قيمة العملة الوطنية بالقدر الكافي وكما هو معمول به في السوق العالمية. بمفهوم أن المغرب بلد يوجد بين البلدان داخل الكرة الأرضية وليس في كوكب خاص به. ومنه أمكن التصرف في قيمة الدرهم من منظور سياسة وطنية، نقرّ معها إعطاء قيمة معينة للدرهم تتناسب والعملة المعمول بها في السوق العالمية، هكذا يصبح الدرهم الواحد يساوي أورو أوروبي أو دولار أمريكي. لنأخذ ثمن قطعة الخبر الصغيرة بفرنسا التي هي “الباغيت” كمثال حيّن والتي ثمنها أورو واحد عموما. فبما أننا وضعنا قيمة الدرهم الواحد يساوي أورو واحد، فعوض رفع ثمن قطعة الخبز بالمغرب كما هو حاصل، سعيا في الالتحاق بمستوى الأثمان المعتمدة بفرسنا كمقياس، نترك ثمن الخبر وغيره بالمغرب يساير القدرة الشرائية للمواطن العادي، ونعوض مداخلنا من خلال التبادل التجاري والمالي عبر القيمة الجديدة التي نعطيها للدرهم. هكذا السيارة التي ثمنها عشرون ألف يورو عوض أن يصبح ثمنها عند استيرادها للمغرب مائتين ألف درهم، يصبح ثمنها عشرون ألف درهم. انها السياسة النقدية التي تسير عليها في تبادلها السلعوي كل من اليابان والصين وكندا وأستراليا وإنجلترا وبلدان أوروبا الغربية. أي كل دولة أو مجموع دول لها استقلالها السياسي والاقتصادي. الى متى يظل المغرب تابعا للدوائر الاقتصادية والتجارية المستفيدة من السوق العالمية. الى متى يظل المغرب رهين افتراءات البنك العالمي للتنمية وصندوق النقد الدولي وغيرهما من أدوات التبعية؟ يتم الحديث في دباجة التقرير التنموي الجديد عن العبقرية الملكية وعن الخصوصية الفريدة للمغرب والحال أن البلد سجين مساطير تبادل اقتصادي تجاري المالي تجعله كبشا يساق لمذبحة التبادل الاقتصادي الغير المتكافئ والتبعي، وهو في ذا، خادم طيع للرأس المال الأجنبي. والسيولة المنتظرة في هذه الحالة، لن تكون الا في صالح الراس الأجنبي وحليفه الطبقة الطفيلية محليّا، كما كنا نقول سبعينات القرن الفات. يمكن القول بغلة الحال، الا المزيد من التبعية. هذا الطرح الذي يفهمه كل مواطن ومواطنة لا علاقة له بالحواجز الجمركية للتبادل المالي والسلعي. الخلل يحدث إذا تمّ تهريب العملة الوطنية مما ينتج عنه تضخم مالي وكل الأزمات الخطيرة المترتبة عنه. أليس بإمكان الدولة التي يضرب بها المثل في ملاحقة الإرهاب بوسعها رصد وملاحقة المتلاعبين بأموال البلد؟ التخوف من المحتالين والمتلاعبين بمال الشعب أمر موجود، لكن إمكانية محاربتهم ممكنة إذا كانت هناك شفافية وعدالة مستقلّة. ليس هناك قانون يمنع إعطاء قيمة معية لعملة البلاد. أمامنا تجربة حيّة المفعول يمثلها اقدام حكومة عبد الله إبراهيم الوطنية سكّ عملة الدرهم مكان الفرنك الفرنسي، مع اعطائه قيمة كانت تضاهي قيمة هذا الأخير. هل خلق هذا القرار السياسي الجريء حرجا أو مشكلا لأحد، إذا استثنينا أعداء استقلالية القرار الوطني؟ هل هناك مانعا في اعطاء العملة الوطنية القيمة التي تحررها

عوض طرح القضايا كمهندس معماري يخطط لبناية من عدة أطباق، كل منها مخصص للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، تعليم صحة شغل قضاء… ينبغي أولا رصد جيولوجية المكان الذي ستقام عليه العمارة الضخمة والتي لا علاقة لها بخيمة من القمش. وحتى الخيمة إذا لم تضبط أوتادها صعب استقرارها وكانت ضحية أول ريح أتت. ما معنى هذا؟ أن النموذج التنموي الجديد المقترح لم يحدد لنا أولا وقبل كل شيء أية استراتيجية ديمقراطية كأرضية ثابتة لبناء الهرم التنموي خلال المرحلة التاريخية المقبلة؟ انه بيت القصيد الذي تغاضاه الميثاق التاريخي الجديد. لماذا لا نبدأ بالمدخل الطبيعي لأية تنمية. والمدخل بين أيدينا راهنا، عوض انتظار حقبة زمنية جد طويلة ننتظر نتائج النموذج / الميثاق المقترح. هذه النتائج التي لا أحد يضمن نجاحها. كما لا أحد كان يتصور عدم نجاح النموذج التنموي السابق وكذا جملة المشاريع المجهضة بدون محاسبة المسؤولين عنها.

المدخل الأساسي الذي بين أيدينا والذي لا محالة يحقق التنمية الاجتماعية المنتظرة منذ عقود ومختلف المشاريع الاقتصادية، والممثل في القيام بانفراج ديمقراطي فعلي الآن وليس غدا. هذا الانفراج الممثل في عقد اجتماعي فعلي أساسه وضع دستور يقر بالديمقراطية الحقة لصالح الطبقات الشعبية، عوض ما هو عليه الوضع راهنا حيث الدستور يثبت الهيمنة الاستبدادية. دستور يقر بالعدالة الاجتماعية الممثلة في حرية التعبير ومحاسبة المباشرة للمسؤولين عبر قضاء حر ومستقل. الأمر الذي يجعل حدا للريع والمحسوبية والرشوة وغيرها من العاهات التي تحبط العزائم والمشارع. الثقة في المؤسسات التي هي عماد الحكم لن تحصل الا إذا شعر المواطنين والمواطنات بإمكانية محاسبة المسؤولين. وأن كل أفراد المجتمع سواسي أمام وداخل القانون كيف ما كان موقعهم. أما “إذا كان صاحب الدار بالدف مولعا فلا تلم الصبيان ساعة الرقص كما يقول المثل الشعبي. إذا كان هناك تلاعب بالعدالة لأن هناك من هو فوق القانون فلن تتحقق أية تنمية مهما تمّ التفنن في تحرير مشاريعا.

المغرب والعمق الافريقي

لا أحد ينفي العمق الأفريقي للشعب المغرب، حيث أن إحدى روافضه الأساسية في تشكيله هو الانسان الافريقي لما تحت الصحراء، سواء عبر النزوح لما قبل التاريخ، أو خلال التبادل التجاري القديم وفي العصر الوسيط المعروف بتجارة الملح. كما حصل منذ العهد المرابطي وخاصة السعدي، استقرار مجموعات افريقية مهمة بالمغرب، الذي كان يضم ساكنة الصحراء انطلاقا من موريتانيا والصحراء الغربية الى الفزان الليبي مرورا بصحراء الجزائر فمالي والنيجر. وهو ما يفسر تواجد الجيش الافريقي / البخارى المكون من الأفارقة، الذين قدموا قسم الطاعة على صحيح البخاري للسلطان إسماعيل بن علي الشريف. وهو الجيش الذي سيلعب دورا كبيرا في دواليب الدولة المخزنية في ترسيم وتغيير السلاطين. ولقد كان منهم وزراء وصدر أعظم، آخرهم أحمد بن موسى المعروف ببّا أحمد الذي فرض عبد العزيز سلطانا على البلاد، رغم أنه أصغر اخوته بعد وفاة والده الحسن الأول عام 1894. وفي الحقيقة كان بّا أحمد، بدعم من الجيش البخاري، هو الحاكم الفعلي الى حين وفاته عام 1900. ليومنا هذا لا زال هناك نفود، بهذا الشكل أو ذاك، لبقايا الجيش البخاري، منها الحراسة المقربة للقصور الملكية. كما أن الزوايا المغربية لعبت دورا مهما في نشر طرقها بين السكان الأفارقة ببلدان افريقيا الغربية. ما يعني أن العمق الافريقي للمغرب هو حقيقة تاريخية ثقافيا وتجاريا وعسكريا، وليس حدثا جديدا كما يوهمنا بذلك محرري بيان النموذج التنموي الجديد. السياسات المتبعة هي التي أضاعت العلاقة العضوية للشعب المغربي بإخوانه الأفارقة، الذين تجمعه بهم علاقة الرحم والثقافية. لقد تلاشت هذه العلاقة العضوية، خاصة خلال مرحلة الاستعمار المباشر وعبر التنازلات التي عرفتها مباحثات اكس ليبان، وعقد الاستقلال بسان كلو الذي تنازل عن موريتانيا والصحراء الشرقية والغربية. كل ما يمكن الحديث عنه هو استدراك ما تم الافراط فيه لمدة تاريخية معينة. لذا تقديم التجذر التجاري في افريقيا كحدث جديد وكرافعة أساسية يبني عليها تقرير النموذج التنموي الجديد مصداقيته، أمر له أهميته طبعا، لكنه في العمق ما هو سوى استدراكا لما كان موجودا تاريخيّا والتي أضاعته الرؤية الضيقة التي قبلت باستقلال ناقص.

المغرب والتأهيل الديمقراطي

يؤكد تقرير النموذج التنموي الجديد أن نجاعة ونجاح المد الافريقي للمغرب دبلوماسيّا واقتصاديا، ومواجهة التصّحر والهجرة السرّية يرجع أساسا الى نهج سياسة تقوم على احترام حقوق الانسان ومواكبة التطورات التي تعرفها هذه الظاهرةالمغرب بلد يمتلك العديد من المؤهلات وتمكنه أن يتطلع إلى الطموح التنموي كما يشكل التقدم المحرز في مجال الديمقراطية وحقوق الانسان وتكريس دولة الحلق والقانون مؤهلات أساسية أخرى يرتكز عليها المغرب. فبفضل الاصلاحات السياسية والمؤسساتية المتعددة والطموحة التي ً قام بها المغرب، لا سيما اعتماد دستور جديد سنة 2011، أرست المملكة دعائم:

1 – مجتمع أكثر انفتاحا ً وديمقراطية وأكثر حرصا على احترام حقوق الإنسان،

2 ِدولة ٍ قانون ومؤسسات َ أكثر حداثة،

3 – فصل أفضل بين السلط،

4 – ورش الجهوية المتقدمة وهو ورش لا يقدر بثمن….

بالإضافة إلى ذلك، يمتلك المغرب ساكنة شابة تشكل موردا تنمويّا هاماما يوصف بكونه امتيازا ديمغرافيا“.

تسطير فقرات أساسية من تقرير النموذج الجديد للتنمية حسب تسلسل الأفكار التي جاء بها لتبرير طرحه، هدفه اعطاء القارئ نظرة اجمالية عن محتواه ومسايرة ما نقدمه كمعارضة وتقابل:

– الملاحظة الأولى تتجلى في المنهجية المتبعة والتي انطلقت لتبرير طرحها لما خصّ احترام حقوق الانسان بإقحام عامل خارجي الذي هو العمق الافريقي ديبلوماسيا وتجاريا للمغرب. السؤال الذي يطرح نفسه، ما هي العلاقة بين المسألتين؟ لأنه مهما بلغت قيمة العامل الخارجي فهي عنصر مكمل للسيرورة التنموية وليست سببية لها. العوامل الداخلية للمجتمع هي أساس تطوره أو تراجعه. أمّا العامل الخارجي أو العوامل الخارجية فتأثيرها ثانوي يتحدد، امّا لتسريع أو تأجيل وثيرة التطور الداخلي للمجتمع. إذا أخدنا دور الحماية كعنصر خارجي في تطور المجتمع المغربي، نراه قد لعب دورا سلبيا. وذلك بعطيل تطور الطبيعي للبنى الثقافية والاجتماعية للمجتمع المغربي. خاصة أنه كانت هناك بوادر وارهاصات محتملة لثورة ثقافية، كما يمكن لمسها في مواقف أنصار “بيان المغرب”، من وطنيّين وعلماء، ممن دعموا دستور 1908 وفرضوا البيعة المشروطة للسلطان عبد الحفيظ. كانت الثورة التحديثية في أدهان محرري “بيان المغرب” ودستور 1908، مرجعيتها النهضة الاجتماعية والسياسية التي عرفها اليابان ابتداء من عام 1870. لكن الاستعمار الفرنسي أخفق تلك التطلعات الجنينية، بعد معاهدة الحماية عام 1912، ليثبت الجمود الثقافي والسلطة المخزنية. عكس هذا، شكّلت قوى التحرر عاملا خارجي ايجابي، عبر دعمها للحركة الوطنية المغربية في صراعها ضد المستعمر. لذا أمكن القول ان خطاب محرري النموذج التنموي الجديد في هذا الباب، هو خطاب تحريضي ودعائي بالأساس. يتم من خلاله طرح مسألة النجاح الافريقي واحترام حقوق الانسان كمسلّمات لا تحتاج للمناقشة والتمحيص.

يؤكد التقرير المقترح كون دستور 2011 هو حجرة الزاوية للعهد جديد عليها يتم ترميم المجتمع الأكثر انفتاحا وديمقراطية وحرصا على حقوق الانسان. وأن النموذج التنموي الجديد هو بمثابة الروح بالنسبة للجسد المجتمعي الجديد الذي بشر به الدستور الجديد. كل هذا لتثبيت الدور الرمزي والعملي للنموذج التنموي الجديد. هكذا مباشرة بعد تقديم تقرير النموذج التنموي الجديد لرئيس الدولة في 27 ماي 2021، سيتم القيام “باستفتاء الضمني” بالقصر العامر يوم 15 يونيو 2021، حضره أعيان الدولة الى جانب رئيس الدولة.

لم يشرح التقرير ما نوعية هذا الانفتاح الذي يتحدث عنه. وأين تتبلور هذه الأكثر ديمقراطية والأكثر حرص على احترام حقوق الانسان. علما أن كل الأحداث، وأولها الحراك المطلبي السلمي والشعبي بالريف، وما واكبه من قمع ومتابعات واعتقالات وأحكام جائرة بتهم ملفقة تثبت عكس مثل هذه المسلمات التي جاء بها تقرير النموذج التنموي الجديد، الذي يعطي لنفسه هالة ميثاق وطني الجديد. والظاهر للعيّن أن القبضة الأمنية زادت شراستها. الاعتقالات والمضايقات للحقوقيّين والصحافيّين والمزيد من تهميش النضال المطلبي والعمل السياسي الحقوقي النقابي، تبرهن عكس ما جاء به تقرير النموذج التنموي الجديد.

يؤكد التقرير على دولة المؤسسات التي أصبحت أكثر حداثة. لكنه لم يفسر أين تكمن هذه الحداثة. بل اكتفي بالتفصيل في البديهيات. هل الحداثة هي افراغ الدستور والمؤسسات الناتجة عنه من كل فعّاليتها؟ الملاحظ أن الحكومة المنتخبة تنفد ما تمليه علها حكومة الظل، التي هي صاحبة القرار الفعلي. أما استقلالية المؤسسات وضمنها استقلالية القضاء، العمود الفقري لكل ديمقراطية حية، غائبة في التقرير. كما هي غائبة استقلالية الصحافة، احدى الأركان الأربع الأساسية في بناء هرم كل ديمقراطية تمثيلية حديثة. روح الدولة الديمقراطية الحديثة غير موجودة والتقرير الذي يطرح نفسه بمثابة ميثاق وطني جديد يطبل ويزمر لهد جديد في مغرب جديد وهذا كله في صمت كامل.

يتحدث تقرير النموذج التنموي الجديد عن الجهوية المتقدمة كورش لا يقدر بثمن. كلام جميل ومعقول يتفق معه كل عاقل لو كانت له امكانية التطبيق، الممثلة في ضمان استقلالية محلية للجهات كما هو الحال في الديمقراطيات التي تعتمد الجهوية المتقدمة كسبيل لتحقيق الديمقراطية المحلية والتنموية المباشرة. حيث مجلس الجهة هو برلمان له سلط واسعة في مختلف المجالات الاجتماعية الاقتصادية الثقافية. ما جاء به التقرير في باب الجهوية المتقدمة عن شيء ليست له مؤهلات وجوده على أرض الواقع حتى يتحقق. سبب ذلك المركزيّة المزمنة والمفرطة التي تطبع الدولة العتيقة.

اضافة إلى الحيثيات والتأكيدات التي جاء بها التقرير، ذكر أن المغرب يمتلك ساكنة شابة تشكل موردا ديمغرافيا تنمويّا بامتياز. لكن هذا الامتياز الديمغرافي التنموي بامتياز يعرف حسب التقرير وجود أربع ملايين ونصف شاب لا يتوفر على تكوين أو شغل. إذا عمّقنا التحقيق والتشخيص وجدنا ضعف الرقم أشار اليه التقرير. وذلك إذا تمّ اعتبار كل الشباب الذين لم يحضون بأيّ تعليم أو تكوين كاف أو شغل دائم. ما معناه أن خمسين في المائة من الشباب يعرفون التهميش والبطالة. وهو ما يفسر عدم اهتمام الشباب بالسياسة والعمل الجمعوي. سبب هذه الوضعية عدم تعميم التعليم وصيانة مستواه ومجانيته. كيف يمكن للشباب أن يكونوا رافعة أساسية لتنمية بشرية واقتصادية في غياب تعليم جاد وعام وتكوين مستمر؟ الشباب بطبعه يطمح للحرية والتفتح على ما يروج في العالم وحتى يكون حبه هذا للاطلاع على كل ما هو حديث إيجابيا وفعّالا لمّا يتمّ تحصينه بالمعرفة الجادة الواعية والأخلاق الإنسانية المتفتحة. الأمر الذي لن يتحقق في غياب تعليم جاد ومعرة حية على يد معلّمين محترمين مقدّرين لهم مكانة رفيعة في المجتمع. وهذا ما تعنيه حكمة، قم للمعلّم وفيه التبجيل. خلافا لهذا نجد شبابنا تائه في الشكليّات وما يتوارد من الخارج من تفاهات وضياع، لحد يصبح همّ وتطلّع جزء مهمّ منهم غايته هجرة البلاد بأية وسيلة كانت، ولو على حساب حياته. فعلا الشباب رافعة أساسية للتنمية وهذا على كافة المستويات. لكنها رافعة رهينة بالتكوين والتعليم وهذا ممكن ابتداء من اليوم وليس في أجل غير مسمى، يمكنه أن يحصل أم لا، كما ينبأ بذلك تقرير النموذج التنموي الجديد.

يتبيّن بوضوح بما سبق، عند انعدام الأسس الموضوعية، من انفراج سياسي كمدخل للقيام بالطفرة الديمقراطية الضرورة، يصبح الحديث عن نموذج تنموي جديد من خبر كان.

الغريب في الأمر، عوض الابتعاد عن منهجية المشاريع السابقة ونقدها ربط النموذج التنموي الجديد مصيره ” بفلسفة وطبيعة مختلف النماذج التنموية التي جرى تشكيلها على امتداد تاريخ المغرب المعاصر. ذلك أنه في كل محطة من المحطات الكبرى التي عاشتها المملكة، دأبت هذه الأخيرة، رغم الاختلافات السياسية، على جمع كل القوى الحية والفاعلين (الدولة والمؤسسات والأحزاب السياسية والمجتمع المدني والمثقفون وقادة الرأي والشباب ووسائل الاعلام) في فضاء النقاش العمومي من أجل تشخيص الوضع وتسليط الضوء على النجاحات المحققة وتحديد نقاط الضعف وفهم المخاطر وترصيد المنجزات بالارتكاز على المؤهلات المحتملة ثم تصحيح المساراتوتحت قيادة جلالة الملك نصره الله…”.

بصريح العبارة يعلن التقرير فلسفته التي لا تخرج عن نطاق العقلية التي تحكمت في السياسات السابقة والتي تبيّن بالملموس افلاسها. ما هو منطلق افلاس المشاريع السابقة؟ كونها وضعت –بكسر الضاض- خارج اجماع الفاعلين الذين يتحدث عنهم التقرير. كما أنها ولم تربط المسؤولية حين تطبيق المشاريع السابقة بالتقييم والمحاسبة. لم يأتي تقرير النموذج التنموي الجديد بتقييم المشروع التنموي الذي سبقه. عوض التقييم الموضوعي لجأ التقرير، تحت مظلة الشرعية الملكية، ليقدم نفسه كميثاق وطني غير مطروح للنقد كما هو حال التوجيهات المولوية. بهذه الطريقة الضمنية، لم يعد تقرير النموذج التنموي الجديد عبارة عن اقتراح للجنة تقنية مطروحا للمناقشة داخل المؤسسات السياسية والهيآت الاجتماعية قبل الحسم فيه داخل البرلمان.

معارضة التقرير النموذج التنموي الجديد، لا تعني الطعن في كفاءات محرّريه المحترمين ونياتهم الحسنة. انها تخالف فلسفة المنهجية التي تجعل من المواطنين والمواطنات عبارة عن رعايا قاصرين يقومون بما يؤمرون ويمتثلون لما هو قائم.

زيادة على نجاعة المشاريع التي تمّت الإشارة اليها والتي يبني عليها التقرير تشخيصه، يزيد مؤكداتحت قيادة جلالة الملك نصر الله، استطاع المغرب خلال العقدين الماضيّين، تحديث مؤسساته وإحراز تقدم مهم في العديد من المجالات: ارتفاع أمد الحياة، تحسن الدخل الفردي، تراجع الفقر إلى حدود النصف، والانفتاح التدريجي للسوق الداخلي“. بعد هذه التأكيدات يعود التقرير مرة أخرى للازمة حقوق الانسان والاستقرار الذي جلب الاستثمار الخارجي والسيولة المالية. وهو بذا كمن يدور في حلقة مفرغة.

لندقق ما تمّ تسطيره لما جاء به التقرير أعلاه للتيقن من صحة ما جاء بخصوص ما تحقق خلال العقدين المنصرمين من:

تحديث القضاء:هل فعلا هو قضاء مستقل؟ هل فعلا هو قضاء نزيه لا يعرف الرشوة؟ وأنا اخط هذه السطور اطلعت على بيان المجلس الأعلى للقضاء يشير فيه الى اقالة قضاة بسبب الرشوة. والأحكام الجائرة اتجاه مناضلي الحراك السلمي وغيرها من التظاهرات المطلبية والحقوقية والصحافية هل هي فعلا تعبير عن مؤسسة حديثة؟ والبرلمان الذي هو عبارة عن قاعة تسجيل والحكومة التي تخضع لأوامر حكومة الظل، هل هما فعلا مؤسستين حديثتين؟ ويمكن طرح السؤال حول كل مؤسسة لنفهم ما هو حديث فيها كما جاء به التقرير. إذا كان التحديث بالنسبة هو البنايات والآلات الالكترونية وتأثيث المكاتب والقاعات، فهذا ليس بتحديث بل هو تأثيث يمكنه أي يقام في أي مكان وأي زمان. لكنّه كل شيء غير التحديث. أما التحديث الذي نقصده هو تحديث القوانين والعمل بها. هو تحديث العقليات واستقلال القضاة عن أي توجيه. التحديث هو عوض الزج بالمواطنين والمواطنات في السجون المكتظة، التي يفوق عدد المحتجزين بها، حجم الاستيعاب بشكل مهول. هذا زيادة على المعاملة البدائية التي لا تليق بأية حالة من الأحوال بمؤسسة القضاء والسجون جزء منها.

تحديث المؤسسات

التحديث الفعلي للمؤسسات هو استقلاليتها وضبط موقعها في هيكل الدولة، هذا الى جانب التكوين المستمر للقائمين بأمرها.

هناك تعارض بين مؤسسات خاضعة لعقلية دولة عتيقة ومؤسسات دولة حديثة. يريد التقرير ايهامنا أن ما دام خطابه حديث في طرحه، أن ما يتكلم عنه هو أيضا حديث. كمن يصبغ خشبا ويوهمك أن ما تحت الزواق حديد. لأن المؤسسات التي يتحدث عنها التقرير ليست حديثة كما يزعم. انما مؤسسات ذات عقلية عتيقة في تعاملها مع المواطنين والمواطنات. مثال ذلك التعامل اليومي للمؤسسة الأمنية، والوضعية المزرية لباقي المؤسسات العمومية ادارية كانت أو تعليمية و صحية ومختصة بالشغل والسكن ….

يزيد التقرير قائلا، كما تمّ تسطيره، أن ما حصل في العقدين الماضيّين “تقدم مهم في العديد من المجالات“:

ارتفاع أمد الحياة: لكن ارتفاع أمد الحياة حصل في كل البلدان نظرا لتطور وسائل العيش وامكانيات العلاج. عوض الأخذ بمتوسط العمر وجب طرح المعطيات الخاصة بكل شريحة اجتماعية والنظر الى مشاكلها ومستوى عيشها. فحص نسبة وفيات الأطفال داخل كل طبقة اجتماعية. يتبيّن أن نسبة وفيات أطفال الطبقات الفقيرة مرتفعة نسبيّا بشكل كبير مقارنة بوفيات أبناء الطبقات الثرية. كما أن عمر أفراد الطبقات العليا أطول بكثير ممن يقضون أعمارهم في طلب قوت يومهم. تقديم احصائيات عامة كما فعل محرري التقرير، غير مجدية لأنها لا تدقق المعطيات وان فعلت فلتبرر الفشل الحاصل على مختلف مرافئ الحياة الاجتماعية السياسية الاقتصادية بالبلاد، والتي يلزمها مدخل جدّي عوض التبريرات.

تحسن الدخل الفردي: نفس الأمر بالنسبة للدخل الفردي. ما لم يتحدد دخل كل فئة من الفئات الاجتماعية يظل التعميم غير كاف. إذا أخدنا الدخل المتوسط لمليون من الأفراد تحت عتبة الفقر وأضفنا لهم ثلة قليلة ممن يملكون الملايير والملايين يصبح متوسط الدخل العام للجميع فوق عتبة الفقر بشكل ملحوظ. لكن هذا لا يعكس حقيقة دخل الطبقات الشعبية التي ذاب واقعها المزي في جدول الأرقام سهلة التأويل. لسوء الحظ حياة الفاقة لا يحلها جدول الأرقام والخطاب المنمق الذي يريد حجب الشمس بالغربال.

تراجع الفقر إلى حدود النصف: نفس الأمر، لم يتم تقييم ظاهرة الفقر للساكنة وتحديد العوامل الاجتماعية والمادية التي تحدد عتبة الفقر لنحدد هل فعلا هناك تراجع الفقر عند النصف المذكور، والى أي حد تفاقم عند النصف الآخر. ثم وهذا هو الأساس هل العتبة التي تمت كقاعة كافية لتحقيق الامكانيات الضرورية للحياة الكريمة في تعليم الأطفال والسكن اللائق والتطبيب الكافي والشغل الضروري؟

الانفتاح التدريجي للسوق الداخلي:ما معنى هذا؟ هل معناه الانفتاح على سوق الاستهلاك السلعوي وفتح المجال للسوق الليبيرالي المتوحش؟ لا يحدد التقرير بتدقيق عن أي انفتاح يتحدث. ولذا من حقنا المطالبة بالتوضيح الكافي ليكون تقييمنا موضوعي. على من يتم تفتح السوق الداخلي؟ ما هي المواد المروجة؟ من المستفيد من ترويجها؟ ومن المستفيد من دخلها؟ أسئلة واضحة تتطلب الإجابة الواضحة.

يعود التقرير للازمة الاستثمارات والفوائد المترجاة منها، كمنطلق للتنمية. انها منهجية تتعارض والتعاطي مع العوامل الفعلية لكل تنمية اجتماعية سياسية حقيقية. جعل العامل الاقتصادي مركز التنمية عوض الانطلاق من العامل البشري، هي نظرة اقتصادوية أرضيتها الطبيعية النيوليبيرالية. النموّ البشري والاجتماعي ينطلق من الانسان كمواطن يتمتع بحقوق المواطنة الكاملة، السياسية والحقوقية. لا تنمية حقيقية في غياب الدولة الديمقراطية أي الاجتماعية التي تجعل حدا للفوارق الطبقية وتضمن حرية التعبير والتضامن والمساواة. لتوضيح ما نقول، تصور كعكا وزنه ألف غرام وحوله عشرة أفراد. قبل أكله يلزم توزيعه بالشكل التالي. للفرد الأول، نظرا لوضعيته الخاصة في المجتمع، نصيبه خمسين في المائة أي خمس مائة غرام. أمّا الثاني لنفس الاعتبارات نصيبه ثلاثين في المائة من الكعك أي ثلاث مائة غرام. الثالث لنفس الاعتبار له عشرة في المائة أي مائة غرام. عملية حسابية بسيطة تعطي للسبعة الباقين عشرة غرام من الكعك يقتسموها بينهم. هذا هو عمق تقرير النموذج التنموي الجديد حيث يقترح من حيث لا يدري أو يدري، مضاعفة الكعك لحد تتمكن فيه الأغلبية الغير المستفيدة من خيرات البلاد الوصول الى حد كاف للعيش السليم. بينما عمق المعضلة من أجل التقليص من الفوارق الاجتماعية المطروحة هو اعادة النظر في الكيفية التي يتم بها الاستفادة من خيرات البلاد وطريقة استعمالها والاستفادة منها. لأن المنهجية التي يقترحه تقرير المنهج التنموي الجديد مآله المزيد من غنى الغني والمزيد من تفقير الفقير.

أفتح قوسا عابرا لأقول. بينما أنا أقرأ وأسمع هنا وهناك ما يقال حول تقرير النموذج الجديد، عرجت على مقالة لأحد الأساتذة المحترمين نشرت بإحدى الجرائد اليومية يوم 30 يوليوز 2021. كتب – بضم الكاف وكسر التاء-عنوان المقابلة بخط عريض بارز احتل جزء مهم من الصفحة تحت عنوان “النموذج التنموي الجديد يجسد الرؤية الاستبقائية والقيادية المتبصرة لجلالة الملك“. مقابلة طويلة ومتفرعة. أهم ما جاء فيها ملخص في التقديم الذي يقول ” ان ورش النموذج التنموي الجديد يجسد الرؤية المتبصرة والحكيمة لجلالته، لوضع خريطة طريق ومنهجية عمل وهندسة بيداغوجية واضحة وشجاعة وجريئة وغير مسبوقة وان تنزيل هذا الورش الكبير يواجه تحديات مرتبطة بتداخل العديد من العوامل وتعقيداتها. ومن أهمها المتغيّرات والخصوصيات السوسيوثقافية والمجالية والثقافية …. وأضاف العالم البليغ في اطنابه. ” انه انسجاما مع الرؤية والتوجيهات السامية فان هذا الورش يعد محطة تاريخية وقفزة نوعية من حيث تصوراته ومقاربته ومنهجيته وخىلاصاته ومقترحاته والسبل المقترحة لتنزيله وتتبعه وتقييمه، بحيث يعتبر دعوة عامة للتعبئة الشاملة والعمل والتفاني. ستمكن بلادنا من الانتقال الى مرحلة جديدة في مسارها التنموي. وتشكل نقطة انطلاق لدينامية قوية جديد ومتجددة ستكون لها آثار إيجابية ملموسة ومرئية وذات منظور وجاذبية من حيث ازدهار ورقاء المواطنات والمواطنين المغاربة والانخراط الجماعي في بناء المغرب الذي يطمح له الجميع“.

ادراج ما تمّ تسطيره أعلاه، يعطي نظرة عامة بما جاء به المقال، ويسهل فهم الغاية من تقرير النموذج التنموي الجديد من قبل مدافع عنه والذي يتجاوب و:

– الكتابات والتصريحات الكثيرة الخاصة بتقرير النموذج التنموي الجديد، سواء عبر الإذاعة والتلفزة الرسمية أو عبر وسائل الاعلام وشبكات التواصل المساندة للبيان. كلها تردد مضمونه وتعابيره المنمقة مع كثرة الاطناب كونه الحر السحري لكافة المعيقات المجتمعية.

– ذكرتني الصيغة التي جاء بها النصّ المسطر أعلاه بحالتين. الأولى بمعلّمنا الجليل ونحن بقسم المتوسط الأول أ والثاني ابتدائي. ذلك الرجل الطيب الذي حبب لنا اللغة العربية، لحد كنا نحفظ التلاوة العربية – الصيغة اللبنانية-ومعها المعلقات وأشعار الفحول. كنّا نتبارى بيننا عند كتابة الانشاء بحشو أكبر عدد من المرادفات والكلمات الرنانة كأننا نحاكي مقامات بديع الزمان الهمداني. والحالة الثانية لما أخدت أحلّل النص المكتوب أو المسموع. حيث يتم تحديد الموقع الذي ينطلق المتكلم، ثمّ تحديد لمن يوجه خطابه ونوعية الرسالة أو التوجيه الذي يريد تبليغهما. النص المسطر واضح ومن السهولة فهم الغرض من خطابة. يلخص ما يقصده تقرير النموذج التنموي الجديد، الذي ينطلق بقناعة تامة بصحة خطابه. دليل ذلك أنه من الهام رئيس الدولة. نص منزه لأنه من ايحاء أمير المؤمنين. أي نص ذو بصيرة وتدبير وإدراك ورؤية مستقبلية …. أما المستهدف من الخطاب عامة الشعب المغربي الذي سيعرف الرفاهية الطمأنينة الهناء وما عليه سوى النوم الثقيل عل يده اليمنى. وما على المواطنين والمواطنات سوى الانخراط الجماعي والحماسي في المشروع المقترح. عند تحليل الخطاب، يظهر للعيّان أنهخطاب تحريضي تعبوي وليس خطاب علمي نقدي كما يتوجب على كل من له مسؤولية أكاديمية.

– كما ذكرني النصّ المسطر لقاء الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك مع آخر صحابي رأى الرسول. في السنة الثانية والتسعون هجرية حج هشام بن عبد الملك وزار إثرها المدينة المنورة. لما نزل بها طلب هل هناك من لا زال حيّا من أصحاب الرسول. دلّه أحد أفراد حاشيته على صحابي رأى الرسول، لكنه أعمى سليط اللسان. جيء بالصحابي لحضرة أمير المؤمنين. لما وصل الصحابي عند عتبة باب المجلس سلّم ووقف ينتظر الجواب. لم يجبه أحد. حينها قعد في مكانه. تدخل الخليفة وأخبره أنما عدم التعقيب عن السلام هو فقط لاختباره. ثمّ أجلسه بجواره. أخد فقهاء أمير المؤمنين يطرحون الأسئلة على الصحابي وهو يجيب. سألوه عن بعض سيّر النبوي وتفسير بعض الآيات المختلف في تأويلها. وكلما أجاب الصحابي عارضه فقهاء الحاكم بأمر الله بالأدلة والحجج. لما طال الجدل ولم تعد هناك فائدة في الكلام، سأل الصحابي محاوريه كم من العلم يفقهون؟ فمنهم من قال ربع العلم ومن قال ثلاث أرباعه. أجابهم أن ما جائهم به هو الربع من العلم الذي غاب عنهم. سفلّه أحد الفقهاء الحاضرين وأن الله عذبه في الدنيا قبل الآخرة بأخذ بصره. ردّ الصحابي وهو يهمّ للانصراف، أن الله أخد بصره حتى لا يرى وجوههم وزاد قائلا. كان هناك العلم والدين الحق لما كانت الأمراء تأتي لباب العلماء. أما اليوم فذهب العلم والدين لأن العلماء تقف طيّعة على أبواب الأمراء. سلم وهو يشق طريقه بعصاه. أوقفه الخليفة مخاطبا له طلب ما يريد. رد الصحابي أنه لم يقرضه مالا حتى يطلب ردّه اليه، وأنه يرفض العطايا لأنها من بيت مال المسلمين ولا حق له التصرف فيها. قال هذا وانصر.

– كما ذكرني النص المسطر بمجالس الخلفاء والأمراء حيث يدور الراح ويطرب العود وتتمايل أجساد الحور والغلمان. فيطلق شعراء القصر لسان بلاغتهم. منهم من يصف صاحب الأمر والنهي بأنه العبقري التقي النهي صاحب الحكمة والنظارة والعدل والتقوى. المحيط بكل علم وفقه لايتيه الشر من يمينه أومن يساره. انه الهمام النقي الوفي العظيم النظير الرفيع الجليل العظيم المتواضع المحبوب المبجل الملهم المعظم. الذي لا يخطئ ولا يغضب. المسامح العطوف الرحيم براعيته، راعي الملّة والدين المتفقه العالم الوثوق الرفيق الصادق الحاكم الموثوق. يتفنّن كل خطيب وشاعر في أوصاف ومزايا صاحب الأمر. منها ما هو في خصائله. ومنها ما لم يوجد قطّ في أحد من بني الانسان. كل ذلك من أجل دريهمات معدودة واقتطاع دائم أو هيبة من صاحب الأمر. ومنه التعبير ” أعطيه ألف دينار” ومن المديح ما يتماشى والمقام. ما جاء على لسان ابن هانئ في مدح الخليفة الفاطمي المعزّ لدين الله مطلعها:

ما شأت لا ما شائت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار

فـكأنما أنـت الـنبيّ محـمـد وكأنما أصحابك الأنـصار

كما ذكّرتي المبالغة في تقديم مزايا النموذج التنموي الجديدة بمشهد آخر، والحال ان سرّحت سيل الكلام في هذا الباب طاب انسيابه. لكن كما تقول الآية الكريمة “وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون” (العنكبوت – 43)، أي الذي يستعملون لتحيق في ما يقترح عليهم.

يفهم ممّا تقدّم، أن المطلوب من ذوي العلم والمعرفة هو النقد الموضوعي لإغناء المشروع المقترح كنموذج جديد للتنمية، وليس التماهي في المديح والتمجيد. ان المسألة تخص الطبقات الشعبية وخاصة المحتاجين والمهمشين وهم غالبة الشعب. قبل التهليل والتطبيل للمشروع الجديد يلزم تقييم ومحاسبة من سهروا على وضع وتطبيق المشروع التنموي السابق وباقي المشاريع التي هدرت فيها طاقات وأموال جسام.

أساس الفهم الموضوعي للأشياء هو طرح مختلف الأسئلة بحثا عن الاقتناع بما يقدم لفرز الصحيح من الخاطئ. كما يجب على المخاطب –بكسر الطاء-إعطاء الدليل أو الدلائل لإقناع المخاطب –بفتح الطاء-. حقائق الأمور تظهر لما نرفع الغشاوة التي تغطي جوهر المقترح بالتعرية على الخلفية التي من ورائه. في تراثنا الحضاري أمثلة كثيرة عن ذلك والتي لا تتعارض والمناهج العلمية. لنأخذ مثل إبراهيم خليل الله، أي رفيقيه. ألم يشك في وحدانية الله؟ كان ذلك لتطمئن نفسه. فنفس الأمر بالنسبة لأي انسان حر وواع. من واجبه الشك في كل ما يقدم اليه الى حين تمكنه من الدلائل الدامغة لصحة ما يقدم له. والدليل الذي نطالب به هو تفكيك الخطاب والمعطيات التي جاء بها تقرير النموذج التنموي الجديد لتشريح خلفيته. مثل إبراهيم الذي طلب من ربّه احياء الموتى. لا نطالب بإحياء الموتى لأنه ليس في مقدور البشر، لكن من حقنا المطالبة بالتقييم اللازم للمشروع التنموي السابق، وكذلك الفحص التدقيق في المعطيات التي يقدمها المشروع التنموي الجديد، الذي يطرح نفسه كميثاق وطني بمعني عقد اجتماعي جديد، وكخريطة طريق استراتيجية لمستقبل البلاد، أن يقدم لنا تقييما دقيقا للمشاريع الساقبة وتفسيرا مقنعا لأسباب فشلها، أم أنه يطلب من الجميع السمع والطاعة؟

نظرا لأهميته القصوى وجب لتقرير النمج التنموي الجديد تشكيل هيأة تمثيلية لمختلف المؤسسات، ملكية برلمانية حكومية قضائية، وكذلك ممثلين عن تنظيمات المجتمع المدني، أحزاب سياسية قوى نقابية حقوقية صحافية. مهمتها القيام بتقييم شامل لمختلف المشاريع ومجمل الموارد البشرية الطبيعية الاقتصادية والمالية للبلاد مع ضبط توزيعا لفهم أسباب الفوارق الاجتماعية التي يريد المشروع المقدم معالجتها. كيف نعطي الحلول دون وضع الأسئلة الحقيقية؟ كيف تم توزيع الأراضي المسترجعة من المعمرين وغيرها من أراضي الدولة والجموع؟ المغرب بلد فلاحي، لحد الآن لا زال نصف ساكنته يهتمون بأمور الزراعة أو يعيشون منها. أين تذهب مداخيل الخيرات البرّية والبحرية للبلاد؟ ما هي الأسباب التي تعرقل الانتقال الديمقراطي والانفراج السياسي الاجتماعي وإطلاق المعتقلين السياسيّين والحقوقيين والصحافيّين؟ كيف يمكن الحديث عن مغرب جديد دون قراءة صفحة المغرب القديم؟ أم يلزم التبلّد العقلي، لا أذن سمعت ولا عين رأت وضع الرأس بين الرؤوس والقول أهلا وسهلا بقاطع الرؤوس؟ إذا فعنا هذا وصفقنا هللنا كبرنا وقلنا لقد سمعنا وأطعنا. أليس في هذا التصرف الجاهل جريمة لا تغفر اتجاه أنفسنا والأجيال القادمة؟ التي ستجني ويلات اهمالنا. لتؤاخذ علينا اهمالنا وانصياعنا دون تبصر. أيكون من السليم القول حينها هذا ما وجدنا عليه حال من سبقنا؟ كيف يمكن القبول بهذا القول ونحن نعتقد جازمين، لو كان قد حصلت قفزة ثقافية تحديثية واجتماعية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. أو قريبا منّا، لو حصلت يقضة سياسية لوضع أسس الدولة الديمقراطية غداة الاستقلال لكنا اليوم قوة متقدمة على منوال اليابان وألمانا. العبقرية المغربية يلزم لها أن تكون وريثة فكر ابن رشد وابن طفيل وابن باجة ولسان الدين بن الخطيب وبن خلدون وغيرهم كثيرون. لقد أطفأ الجهل نور عقلهم عندنا وأشعله الغرب فأضاء عقولهم وحققوا إثر ذلك المعجزات. سواء ما خص التعايش السلمي فيما بينهم أو على مستوى الرفاهية واحترام القانون وحفوف الانسان.

الاحصائيات والديمقراطية وحقوق الانسان

ما يلفت النظر عند قراءة تقرير المشروع التنموي الجديد، اعتماده لازمة. التركيز على لازمة الديمقراطية وحقوق الانسان يظهر بما ليس فيه شك، أن العامل الاقتصادي الذي قدم كقاعدة لمشروع النموذج التنموي الجديد ليس هو المدخل الضروري. المدخل الضروري كما تركز علية لازمة الديمقراطية وحقوق الانسان في التقرير، هي البوابة الحقيقية والتي أساسها سياسي واجتماعي. بمعني أنه في غياب الإقرار بدولة المواطنة الكاملة عبر انتقال ديمقراطي يضن استقلالية المؤسسات التشريعية التنفيذية القضائية والإعلامية. وهذا بشكل صريح وقاطع مجسد على أرض الواقع، وليس الكلام الخطابي العابر، هو مقياس نجاح أي مشروع تنموي. يتحدث تقرير النموذج التنموي الجديد عن المصالة التي حصلت والتي تمت تزكيتها بتعويض مالي لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان. ليس جبر الضرر هو فقط التعويض المالي بل جبر المواقف والأهداف التي دافع عنها المتضرّرون وكذا مجموع الطبقات الشعبية التي تضررت من سياسة الاقصاء الاجتماعي والقمع؟ جبر الضرر الفعلي هو قراءة صفحة سنوات الجمر والرصاص، بمعني مسائلة الدولة ومحاسبة الذين قاموا بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان وتبذير خيرات البلاد في سياسات أمنية. بلا ديمقراطية فعلية يستحيل القيام بعدالة انتقالية وطي صفحة الماضي مع قراءتها بتبصر وحدها تسمح بموضع النماذج التنموية التي تجعل حدا للفوارق الاجتماعية.

تكلم نص المشروع التنموي قال، ” علاوة على ذلك، عززت بلدنا مكانتها كوجهة إقليمية لجب الاستثمارات الأجنبية المباشرة كقطب للأمن والاستقرار باعتراف من المجموعة الدولية. لقد مكنت الإصلاحات التي تمّ انجازها من تكريس الخيار الديمقراطي للمغرب وجعله خيارا لا رجعة فيه، وتأكيد انخراط البلاد في إعمال الجيل الجديد من حقوق الانسان، وإرساء المساواة بين الجنسين، وإقرار الطابع المتنوع للمكونات َّ والروافد الثقافية والحضارية للهوية المغربية الموحدة، كما نص على ذلك دستور سنة 2011 .وبالموازاة مع ذلك، جرى إطلاق مسلسل واسع للمصالحة مع الماضي، وإحداث مؤسسات لحماية حقوق الانسان والنهوض بها، مثل المجلس الوطني لحقوق الانسان، كما تم إنشاء مؤسسات دستورية أخرى، من قبيل المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، من أجل تشجيع وتعزيز الحوار بين القوى الحية للأمة وتطوير الديمقراطية التشاركية. ومن جهة أخرى، تمّ تعزيز الديمقراطية التمثيلية من خلال إرساء دعائم ِ الجهوية

يعود تقرير المشروع التنموي الجديد، مرة أخرى، للازمة الديمقراطية وحقوق الانسان ليؤثر على العواطف لتجاوز المطلب الشعبي المصيري في الحرية والكرامة والذي يؤخر كل مرة بدعوى أن هناك وضعية عاجلة ومنها نحقق الديمقراطية. لتحصين خطابه يقدم التقرير مجموعة من التشخيصات والاحصائيات لاستنتاجات قبليّة. والتي لا ترقى لما يجب القيام به راهنا وليس بعد أعوام. الانطلاقة الضرورية تبدأ بتعميم التعليم ومجانيته الأن وليس بعد سنوات. تعميم التعليم ومجانيته وضمان الصحة للجميع والسكن للمحتاجين والشغل للعاطلين ممكن ابتداء من الآن. الإمكانيات التي بين أيدينا لتحقيق ما نطرحه كبديل هي الطاقات العظيمة التي تختزنا الجماهير الشعبية عند تحريرها وحسن استعماها. مثال حيّ على هذا، طريق الوحدة التي ربطت شمال المغرب بجنوبه غداة الاستقلال. انها طريق جبلية صعبة، تمّ شق وتعبيد أزيد من 60 كلم بأدوات بسيطة بتطوع مجموعة من الشباب أتوا من مختلف المناطق المغربية. تمّ هذا المشروع الكبير في فترة زمنية قياسية.

يعبر المثال أعلاه، أن التنمية الحقة هي التي تعتمد على الثقة في الجماهير. وذلك بتوعيتها لتأخذ زمام الأمور بنفسها. وليس توظيفها كما صنعت كافة المشاريع الفاشلة.

مرة أخرى يعود تقرير النموذج التنموي الجديد للازمة الديمقراطية ويسطر عبر إحصاءات عامة تتطلب التنقيب والمعاينة الفعلية فيقول: وقد مكن ترسيخ الخيار الديمقراطي من تطوير دينامية سياسية هامة، تستند على قيم الحوار والمشاركة، كما سمح ببروز دينامية جديدة للمجتمع المدني. وعلى مستوى العمل الاجتماعي والتضامني، أعطت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية دفعة قوية للجهود الهامة المبذولة من أجل تدارك التأخر المسجل في المجالات الاجتماعية، حيث جرى تعميم الولوج إلى التعليم الابتدائي، وتضاعفت بأزيد من مرتين نسبة التمدرس في مستوى الثانوي الاعدادي، بينما بلغت ثلاثة أضعاف تقريبا بالنسبة للتعليم الثانوي التأهيلي ….”. قدم التقرير النسب المئوية التي تحققت في ما يخص الماء الصالح للشرب والكهرباء والتعليم في الابتدائي والاعدادي والثانوي ومجال السكنوفك العزلة القروية وامتداد الطرق ومواجهة الأزمة المالية والنهوض بعدد من القطاعات الصناعية… وأشار الى تراجع مستوى العيش. كما ذكّر بالأعمال الكبرى، كالطرق السيار وميناء طنجة المتوسط والاستثمار الأجنبي واتفاقيات التبادل الحر. كما أكد على المؤهلات التنموية بالرجوع الى لازمة الخطابات الملكية السامية في مختلف المناسبات، وكذا العمل بالمبادئ الدستورية واحترام حقوق الانسان بمفهومها الشامل والشفافية في تحمل المسؤولية والتنمية المستدامة والاقتصاد الأخضر والحفاظ على البيئة بحرا وبرّا. والتشبث بتقرير 26 نونبر 2011 من أجل ميثاق اجتماعي جديد: ضوابط يجب احترامها وأهداف ينبغي التعاقد بشأنها. لقد حددت هذه الوثيقة أسس ميثاق جديد للتماسك الاجتماعي والنمو الاقتصادي، في إطار مرجعي من مبادئ وأهداف مستمدة من معايير كونية. هذا بالطبع ” لا يتم الا بعودة الثقة والتي ستساهم بدورها في تعزيز الحس الوطني والشعور بالانتماء إلى الوطنوتتجلى أوجه الضعف الماكرواقتصادي لنموذج النمو الحالي أيضا، في وضعية المقاولة المغربية، التي لا تزال تعاني من ضعف قدرتها التنافسية“. ويزيد التقرير مثبتا “هل من مقدور النموذج التنموي الحالي ضمان الرخاء الاقتصادي؟ تنمية الفرد وتطوير قدراته؟ تحقيق التضامن وتكافؤ الفرص والاندماج؟ ..”

أسئلة يجيب عنها التقرير كخلاصة إن نموذج النمو الحالي لم يعد قادرا على ضمان تطور مطرد للنشاط الاقتصادي يسمح بخلق الثروة وفرص الشغل ذاك أن غالبية المقاولات تشتغل في قطاعات ذات قيمة مضافة منخفضة، من قبيل المجال العقاري والتجارة، في حين لا تتجاوز نسبة المقاولات العاملة في مجال الصناعة وتكنولوجيا الاعلام والاتصال 10 في المائة من العدد الاجمالي للمقاولات. وبالإضافة إلى ذلك، يتسم النسيج المقاولاي المغربي بتوجه ضعيف نحو التصدير…”

يطرح تقرير النموذج التنموي الجديد عدة تساؤلات لها علاقة بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية، ويجيب بأنها ضعيفة وفي غير المستوى. لكن ما يلفت النظر كون التقرير رغم المعطيات والاحصائيات السلبية التي جاء بها، لا يصبو لمرتبة طرح الأسباب التي أدت الى هذا الضعف في المردودية رغم استقلال البلاد منذ ستين سنة ونيف. يكتفي التقرير بتشخيص المعطيات ليس بهدف تقييمها كما هو ضروري في كل دراسة علمية، بل يأتي بها لإضفاء نوع من الأهمية والمصداقية للتقرير. النموذج. هذا التسخير هو نوع من الخطاب السياسي التحريضي، خطاب ايدلوجي، الذي يخالف المنهج العلمي اي أساسه التقييم الموضوعي يتم خلاله إفراز عوامل القوة والاعتماد عليها. وضبط مكامن الضعف لتجاوز ما يلزم تجاوزه وتصحيح ما يمكن تصحيحه.

يحتمي محرري تقرير النموذج التنموي الجديد بمنهجية علم الاقتصاد أساسا. هذا العلم الذي يقدمه دعاة الليبرالية كحل فريد لتجاوز المشاكل الاجتماعية والسياسية وتحقيق النموّ. لكن ما لا يقوله لنا دعاة هذا التوجه، أن الليبيرالية هي أيديولوجيا بالأساس، أي اختيار سياسي لإدارة المجتمع. وهي مبنية على الأنانية الفردية ومنها مصلحة الطبقة المتنفذة. كما لم أن الليبيرالية في زيّها الحالي عبر العولمة، ساد فيها التوجه النيو ليبيرالي الذي وصل حد التوحش عبر التبادل العالمي للمؤسسات الرأسمالية. إذا أخدنا بعلم الفه مثلا، نجده ينطلق من قوانين العقيدة لأولها حسب في اتجاهات عدة. من التطبيق السمح للشعائر الى التشدد فيها وتطبيقها بشكل قسري قهري فاشي. كذلك الاقتصاد فهو ينطلق كما لخصه مؤسس علمه “أدام سميت”، كونه تحقيق الأنانية عند كل فرد لصالح الجميع. وأن المتحكم في قوانين التبادل السلعوي هو اليد الخفية للسوق. والمعروف أن اليد الخفية للسوق التجاري هو الربح أو الربى الذي تمقته مجمل القواعد الأخلاقية. الا أن القوانين الوضعية تبرّره وتحرسه لأنه ينتج فائض القيمة ومعها السيولة المالية التي تحقق رفاهية الجميع. لكن ما يلزم فهمه أن تطور الإنتاج وتعقد الأسواق تجاوزت هذا المنظور البدائي لعلم الاقتصاد ليصبح ميدانا / وحشا يصعب التحكم فيه. ومنه الأزمات الاقتصادية والتحكم في سياسات الدول، وخاصة التابعة منها.

نظام التربية والتكوين والحقل الثقافي

التعليم والتكوين يشكلان الحلقة المركزية لأي تطور اجتماعي سياسي ثقافي اقتصادي. يقول التقرير بشأنهما، المفترض فيهما أن يشكلا الرافعتين الأساسيتين لتطوير قدرات الأفراد، لا يزالان يعانيان من خصاص كبير يحول دون اضطلاعهما بدورهما على الوجه الأمثل. تعاني المنظومة الوطنية للتربية والتكوين من ضعف على مستوى اكتساب المتعلمين للمعارف الأساسية في القراءة والرياضيات والعلوم، كما تكشف عن ذلك نتائج الاختبارات الدولية والتي احتل فيها التلاميذ المغاربة مراتب متأخرة. بالإضافة إلى ذلك، يشكل الهدر المدرسي، ظاهرة تضر المنظومة التعليميةوهي منظومة باتت غير قادرة اليوم على توفير التعليم الجيد لغالبية التلاميذ والنجاح على الصعيدين الوطني وعلى تعزيز منوهم وتطورهم“.

يشير مشروع النموذج التنموي الجديد الى كل النواقص المسطرة أعلاه، دون تكليف نفسه عناء تدقيق أسبابها وإعطاء التفسيرات الواضحة التي أدت الى هذه الوضعية الكارثية. تعامله بهذه الطريقة هو اسقاط الأيدولوجية الليبيرالية على خطاب يريده موضوعيّا. إذا لم يتم تفحّص تقرير المشروع المقترح على ضوء تقييم المشاريع السابقة التي أوصلت التعليم العمومي الى الوضعية الكارثية التي هو عليها، ما فائدة العلاج المقترح؟ في غياب فحص دقيق للمرض العضال الذي يعاني منه التعليم، يصبح التوقيع على بياض للنموذج التنموي الجديد، غير المزيد من تقهقر التعليم العام.

كما يسطر تقرير النموذج التنموي الجديد بخصوص مشكل الثقافة، فيقول ان، ضعف الصناعة الثقافية في المغرب، نتيجة نقص المبادرات العمومية والخاصة القادرة على تقديم عرض ثقافة تلائم احتياجات مختلف شرائح المجتمع“.

غداة الاستقلال السياسي للبلاد، كانت هناك ثقافة تنويرية. وهذا في وقت قلّت فيه الإمكانيات الماديّة. لكن كانت هناك وروح التضحية حاضرة وروح الابداع ماثلة. لأن المناخ كان مؤاتيا. تضحية البارحة موجودة اليوم عند المثقفين والمبدعين. لكن الغير الموجود هو الحافز، هو حرية الابداع خارج سوق الثقافة الاستهلاكية التجارية والتوجيه الفوقي الذي يقتل روح الابداع.

يعترف تقرير النموذج التنموي الجديد أنقدرة نموذج النمو الحالي في الادماج عن طريق الشغل في تضاؤل مستمر. ويتجلى ذلك من خلال المنحى التنازلي لمستوى التشغيل في النمو

لتأكيد ما جاء أعلاء، يقدم تقرير النموذج التنموي الجديد أرقاما تبرهن بها تقهقر قطاع الشغل والبطالة، التي تخص بشكل أساسي النساء وحاملي الشهادات والشباب. هذا الى جانب تسارع وتيرة ظاهرة هجرة الكفاءات نحو الخارج ً خلال السنوات الأخيرة. إن هجرة الكفاءات نحو الخارج ليست ظاهرة جديدة َ بالمغرب. غير أنه بدا جليّا أن حجمها آخذ في ازدياد. وتهم هذه الظاهرة بشكل أكبر مهندسي المعلوميات والباحثين الجامعيين والمهندسين والأطباء، والحال أن هذه الكفاءات كانت وستظل كفاءات ذات دور استراتيجي متزايد في اقتصادات ومجتمعات المعرفة“.

التقرير يتكلم لوحده لحد يعفي المتتبع من البرهنة على افلاس السياسات المتبعة في مختلف المجالات. أما الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية فلا يستفيد منها الاّ نسبة محدودة عوض أن تكون عامة. كما تثبت الاحصائيات المقدمة هشاشة السياسات المتبعة في الميادين الاجتماعية والاقتصادية.

ويزيد التقرير في التشخيص كون ” مسألة الفوارق الاجتماعية وفقدان الأمل الناجم عن نقص فرص الارتقاء الاجتماعي، تحديا كبيرا يتعين مواجهته، وذلك بالنظر للتحولات والتغيرات التي شهدها المجتمع المغربي مؤخرا. حيث أن المواطنين باتوا يعبرون بشكل متزايد، وبطرق متنوعة، عن عدم رضاهم وعن حاجياتهم ولآليات الارتقاء“. ويزيد التقرير مؤكدا، “خاصة النساء وساكنة العالم القروي. علما أن ساكنة العالم القروي اضافة لساكنة هوامش المدن، التي هي عبارة عن دواوير قروية، تمثل أزيد من 60 في المائة من المواطنين والمواطنين المهمشين.

يعود التقرير بعد لازمة دولة القانون وحقوق الانسان والتوجيهات الملكية، مرة أخرى للمنظومة التعليمية والتكوين مشيرا الى النواقص التي جاء بها سابقا. نفس الأمر يخص المشاريع السابقة والقطاعات العمومية التي عرفت اختلالات، ما بعدها اختلالات، في عدم التنسيق بينها وعدم المتابعة وانعدام المردودية. أما القضاء أمكن القول بأضدادها تعرف الأشياء. ذلك أنه سطر ما يلزم أن تكون عليه المؤسسة القضائية من قضاء نزيه وفعال، يوفر حماية حقيقية للمتقاضين تضمن الكرامة والحريات والحقوق الأساسية. تشخص تقرير النموذج التنموي الجديد أمهات الركائز التي يقوم عليها نظام الحكم، لحد يمكن الاستنتاج معه أنك أمام نظام سياسي واجتماعي غير ديمقراطي. التشخيص الذي جاء به التقرير يؤكد هذا، لكنه عوض إقرار أسس الديمقراطية الحقة، رجع لنفس الحلول الترقيعية التي تؤجلها ومعها العواقب الوخيمة التي أشار اليها هو نفسه.

لا يجيب التقرير على التساؤل الذي يمكن استنتاجه حول نوع السلطة من المعطيات التي قدمها. مسألة السلطة محسومة بالنسبة اليه. بل يقدمها كمسألة ثانوية. السلطة عنده ديمقراطية وأن العوائق المشار اليها ستحل عن طريق تحقيق السيولة المالية التي يبشر بهان وهو بذا كالذي يبيعك الحوت في الماء. بالنسبة اليه هناك فقط مشاكل تقنية ينبغي ترميم بعض جوانبها في إطار نظام السلطة القائم. هذا رغم الحكم السلبي لوضعية القضاء بالبلاد. والقضاء الحالي حسب تشخيصه، غير فعال ولا يوفر حماية حقيقية للمتقاضين تضمن الكرامة والحريات والحقوق الأساسية. مما يعني أن القضاء غير مستقل وأنه قضاء سياسي بمعني أنه موجه، وأن الأحكام معروفة من قبل المحاكمة. والدليل على ذلك وضعية معتقلي الحراك السلمي المطلبي، والمحاكمات الصورية التي يعرفها المدافعين عن حقوق الانسان وحرية الرأي من صحافيّين ومثقفين من ومدونين. خلاصة القول في هذا الباب يتناسى محرري التقرير، ما حفظناه ونحن أطفال، العدل أساس الحكم. ما معناه بلغة العصر، استقلالية القضاء أساس النظام الديمقراطي.

يختم التقرير المقترح، كمشروع استراتيجي للتنمية المستدامة والمتجددة للمرحلة القادمة، بالرجوع الي بيت القصيد. العزف على نغمة دولة المؤسّسات وحقوق الانسان وتوجيهات الخطب المولوية، ضرورةتحقيق مستويات النمو المستهدفة من 6 إلى 7 في المائة“. هكذا نرى أن البداية والنهاية، المبتدأ والخبر في التقرير المقدم كعقد اجتماعي جديد للبلاد خلال المرحلة التاريخية القادمة، تتلخص في مسألة واحدة وهي ضرورة تحقيق نمو مستمر ما بين 6 و7 في المائة كل سنة لتحقيق مجموع المشاريع الاجتماعية. لم يشر التقرير المقترح، أن هذا المستوى من النمو، هو الحد الضروري للخروج من وضعية اجتماعية متخلفة، التي تطبع الدول النامية وتؤهلها الارتقاء الى حيز الدول الناشئة التي هي على أبواب دخول حقل البلدان المتقدمة اجتماعيا واقتصاديا. تحقيق هذا المستوى من النمو ممكن وفي مقدور شعب عنيد كالمغرب القيام به. بل هناك اليقين الذي ما بعده يقين، أن تحقيق مستوى من النمو يتجاوز 7 في المائة سنويّا ممكن. لكن هذا ليس عبر البوابة الاقتصادية المقاولتية التي اختارها مشروع التقرير. بل كما هو مطروح منذ أواخر القرن التاسع عشر، وضع دستور يحد من سلطة المخزن، وذلك بتجاوز عقليته العتيقة وتحديث أشكال اشتغاله، التي أساسها الاستبداد.

العامل الأساسي الغائب في النموذج التنموي الجديد

لقد مر التقرير على أحد مكونات الشعب المغربي وإحدى ركائزه الأساسية ما خص التنمية، والمجسدة في المواطنين والمواطنات المغاربة بالمهجرالذين يلعبون دورا محوريا في التنمية البشرية والاقتصادية بالمغرب منذ ستينات القرن الفائت. هذا سواء عبر التحويلات المالية أو عبر المشاريع التنموية التي أقاموها ببلدهم الأصل لأنفسهم أو لأفراد عائلتهم ومعارفهم.

انهم المساهم المباشرة في العملة الصعبة التي تشكل العمود الفقري لميزانية الدولة، التي تجاوزت منذ 1978، دخل الفوسفاط الذي كان يشكل المنبع الأساسي للاقتصاد الوطني. بل، أكثر من هذا، فان مساهمة المهاجرين في الاقتصاد الوطني لم يزل يتصاعد على الدوام بحجم لا يمكن الاغتناء عنه. حيث إذا أضفنا الى ما يمثله تحويل العملات، الى ما يصرفونه المهاجرون أثناء تواجدهم بأرض الوطن، فان مساهمتهم في الناتج الداخلي العام يقارب 15 في المائة من الدخل العام. علما أن الهجرة المغربية تتفرد بدورها المتصاعد في التنمية الوطنية خلافا لباقي الهجرات الأخرى، التي تضاءلت تحويلاتها النقدية وارتباطها بالوطن الأصل مع تعاقب الأجيال.

الأهم من هذا وذاك، هو التشبث الروحي والثقافي للمهاجرين المغاربة بهوية بلدهم الأصل والتي تمثل ظاهرة فريدة من نوعها. وقد يشقى عن النفس والعقل والضمير، أن ترى أشقائنا المهاجرين التونسيين والجزائريين وغيرهم من مهاجري بلدان الجنوب، علاوة على مهاجري الدول الديمقراطية الغربية، يتمتعون بحقهم المشروع في المواطنة الكاملة عبر المساهمة السياسية عن طريق التصويت والترشيح في كل المجالات.

الغريب كون مشروع النموذج التنموي الجديد، الذي يطرح نفسه عقدا اجتماعيا جديدا وخريطة طريق للمرحلة التاريخية القادمة، يتجاهل بشكل لافت دور الهجرة في التنمية ولا يذكرها الا كمشل، عبر الهجرة السرية. كما أنه لا يتحدث عن حق المواطنة الكاملة للمهاجرين/ت، التي شعارها مساهمتم/ن في الانتخابات البرلمانية. حقهم في المواطنة الكاملة مطلب تقرها أعراف وأسس المجتمعات الديمقراطية. هذا الى جانب روح الدستور وخطابات رئيس الدولة الواضحة في هذا المضمار.

مجمل القول في هذا الباب، لا يعقل ونحن نتحدث عن نموذج تنموي جديد والدولة الديمقراطية، اقصاء الملايين من المواطنين والمواطنات بتجريدهم من حقهم المشروع في التصويت والترشيح داخل المؤسسات التمثيلية.

مسألة المنهجية المتبعة في تقرير النموذج التنموي الجديد

يوكد التقرير أنه اعتمد منهجية علمية وذلك عبر لقاءاته الميدانية بتحقيقات مع مواطنين والمواطنات من مختلف الشرائح الاجتماعية والمناطق المغربية، سواء بالمدن أو البادية. لكن التحقيقات وحدها لا تكفي ما لم يكن هناك تقييم دقيق للمشاريع السابقة مع ضبط نقط القوة والضعف فيها أولا. ثم بعد المسح الشامل للمعطيات على كافة المجالات والمستويات وجب وضع جداول زمنية تحدد ما يلزم القيام به كل سنة بالنسبة لكل مشروع. كم من مدرسة ومعهد ومستوصف ومستشفى ومشروع فلاحي واقتصادي …. سنبني أو نحق كل سنة. ما هي ميزانية التعليم، لتكوين رجاله، من مربّين وأساتذة وكم عددهم في كل سنة. المنهجية العلمية التي يلزم اتباعها واضحة في ما يخص العلوم الاجتماعية والاقتصادية والتي ابتعد عنها التقرير ليصبح عبارة عن خطاب سياسي تبريري أي ايدلوجي. التشخيص والتحقيقات لوحدها لا تكفي، خاصة لما تدرج ضمن خطاب سياسي ينطلق من النوايا الحسنة ليخاطب المشاعر. مبررا طرحه ذلك بالرجوع الى خطاب سياسي عام وشامل لرئيس الدولة. هذا الخطاب العام والشامل يمكن تأويله كما يؤول الفقهاء الشرائع والسياسيّين خطاباتهم. والحاصل أن التوجه الذي يدافع عنه التقرير المقترح كنموذج تنموي جديد، هو توجه ليبيرالي محض في عمقه مغلف بشعارات رنانة من قبيل دولة المؤسسات وحقوق الانسان والمساواة بين الرجل والمرأة، وبين المواطنين أمام وداخل قانون. لم يقل التقرير كيف نحقق هذه الشعارات، كيف نضمن استقلالية القضاء، كيف نربط المسؤولية بالمحاسبة، كيف نقضي على الفوارق الاجتماعية، إذا لم نحاسب كل من تحمل أية مسؤولية كيفما كان نوعه ومقامه؟ في غياب طرح جداول مرقمة بميزانيتها ونوعية مجالاتها وترابط بعضها مع بعضها، في غياب تقييم الأسباب التي أدت للمعيقات التي شخصها التقرير يصبح ما جاء به كخطة طريق مستقبلية وان كان طموحا محترما، يظل رغم ذلك تصورا لا أقل ولا أكثر.

ثم وهذا جانب لا بد الإشارة الية، كون المدقق في التقرير المقترح، يلاحظ أنه عبارة عن عدة تقارير أو بحوث أضيف بعضها لبعض. وهو ما يفسر كثرة التكرار ومعاودة الطرح بأشكال مختلفة لنفس المسألة الاجتماعية أو الاقتصادية. مما فرض علينا في هذه المعارضة التكرار أيضا. هذا لا يعني الاستخفاف من العمل الذي جاء به التقرير، بل العكس هو الصحيح، لكننا هنا نعالج قضايا مصيرية بالنسبة للشعب المغربي تتطلب الصراحة والنزاهة الفكرية وطرح الأمور كما يلزم أن تطرح وليس التبرير.

خلاصة عامة حول تقرير النموذج التنموي الجديد

مهمة المنهجية العلمية أنها بعد تشخيص المعوقات وأسبابها طرح الوسائل المادية المستعملة والبرامج الموضوعية المرقمة التي يمكن متابعتها وتقييمها عند كل مرحلة. وليس بعد خمسة عشر سنة ليقال لنا مثل ما قيل في النموذج التنموي السابق، ان النموذج التنموي الحالي، لم يحقق التنمية المنتظرة نظرا ونظر… أي صرد نفس المعوقات التي عاينها التقرير الحالي. لماذا هذا القول، لأنه بدون اقتلاع جذور الأسباب التي أدت الى الوضعية القائمة، والاجابة الصحيحة والواعية عن أسباب المعيقات التي حالت والتنمية الضرورية يصبح أي تقرير غير كاف.

لقد شخص تقرير النموذج التنموي الجديد المعيقات للتنمية في بعض معالمها الظاهرة باستعمال كلمات منمقة لخصها في سيادة:

– الفساد المستشري،

– الرشوة المعممة على جميع مرافئ الحياة،

– تزايد الفروقات الاجتماعية

– انعدام الثقة في المؤسسات والشعور بالإحباط عند المواطنين والمواطنات،

– انعدام العدالة والتغطية الاجتماعية والصحية،

– تدني مستوى التعليم وعدم تعميمه ومجانيته مع تقليص التعليم العام بالنسبة للتعليم العام،

– طرح مسألة الهجرة السرية كتعبير عن انغلاق أبواب الشغل أمام الشباب….

– المسألة الديمغرافية، كون المغرب من البلدان النامية الذي سيعرف تراجع في التناسل بعد 25 سنة، حيث ستقل نسبة المشتغلين لتحقيق الضمان الاجتماعي للمواطنين/ات في سن الشيخوخة.

إذا تمعن المتتبع وجد أن التشخيص الذي جاء به التقرير، معروف لدى الجميع وهذا منذ زمان والذي هو نتيجة بنيات تركيبة، معهودة هي الأخرى. الغريب أن التقرير الذي يطرح نفسه كميثاق وطني وعقد اجتماعي جديد، يأتي بحلول لا ترقى للمستوى المطلوب. فهو عوض القيام بعملية جراحية للمرض العضال الذي يشتكي منه المجتمع، يطرح حلول مثالية تفقد الجديّة التي يطمح اليها. يقدم التقرير كحل سحري للمعيقات الحاصلة للتنمية، الانصهار الجماعي للمواطنين والمواطنات في العملية التصحيحية، وان لم يذكر هذا المصطلح وان تمت الاشارة اليه ضمنيا. لم ينتبه التقرير بأن كل المشاريع، منذ الاستقلال كانت تهلل بالانخراط الجماعي للمواطنين بدعوى أنهم الركيزة الأساسية لأيّ نموّ حقيقي. الحل للمعيقات الذي يقترحه التقرير هو معدل النمو من 6 الى 7 في المائة للناتج الداخلي العام السنوي وهذا طيلة الخمس عشر سنة، أي مدة النموذج الجديد أو على الأقل حيز زمني مهم منها. انه فهم عقائدي روحي كمن يومن بمجيء المهدى المنتظر ليحرر البشرية من الشر في آخر زمان. لحسن الحظ أن آخر زمان بالنسبة للنموذج هو 15 سنة التي هي حقبة زمنية تقدر بالعقود نظرا للتطور المطرد عكس ما كانت علية المجتمعات في السابق. لأن المراحل الزمنية تغيرت بتغيّر التطور التقني الذي تعرفه المجتمعات لما بعد التصنيع. عالم الثورة التكنولوجية الرابعة، حيث تتطور المجتمعات بوثيرة مذهلة. إذا كانت اليابان قد عرفت ثوتها الصناعية والحضارية في ثلاثة أجيال، فان كوريا الجنوبية عرفتها في جيلين والصين في جيل واحد. أذن 15 سنة ليست بالمرحلة الزمنية القصيرة كما يمكن تتخيله، خلالها يمكن تحقيق المعجزات. هذا طبعا إذا اعتمدنا الإصلاح الاجتماعي الضروري والذي يمكن تلخيصه في المحاور الأساسية التالية:

أولا : جعل حد للصراع التناحري من أجل السلطة الذي عاق كل تطور مجتمعي فعلي منذ نهاية القرن التاسع عشر، لما وضعت مسألة التحديث كضرورة لصيانة حوزة البلاد وضمان تطورها كما حصل لليابان. وقف النظام المخزني عقبة عثرا أمام كل تحديث فعلي، بل تشبث بمرجعيته الاستبدادية تشبث الأعمى بعصاء ولا زال قابضا بها الى اليوم. لذا وجب عوض النماذج المنمّقة، طرح معضلة السلطة على الطاولة وحلّها بشكل سلمي وعقلاني حداثي. إذا لم يحقق المغرب الطفرة التحديثية، والتي نشير اليها بلغة الحال بالتنموية، للاستفادة من الطاقات البشرية والمادية التي أهدرت في صراع مرير من أجل حل معضلة السلطة والسيادة. للحفاظ على نهجه السلطوي المخزني لحكم ما قبل الحداثة، وقف النظام ضد كل محاولة إقرار نظام ديمقراطي حقيقي يحترم حقوق الانسان واستقلالية القضاء. الاستبداد هو عقلية متخلفة لذا غير ممكن إحلال نظام ديمقراطي بعقلية رجعية. للوصول الى معدل النمو المقترح الذي يطرقه تقرير النموذج التنموي الجديد بل وتجاوزه، ينبغي عوض الاقتراحات الاقتصادوية التي جاء بها، قبل كل شيء ربط المسؤولية بالمحاسبة وعدم الجمع بين السلطة والمال. لقد نبه ابن خلدون بخصوص تقهقر الدول ومعها المجتمع، لما يتم الجمع بين الامارة والمال. ذلك أنه للبقاء في الحكم تكثر السلطة المركزية الضرائب والخراج لتمويل حاجياتها وخاصة العسكر الحامي لها، فيكثر الظلم والسخط على السلطة القائمة والانخراط في كل دعوة مناوئة لها. وهو ما يعبر عنه اليوم بالجمع بين السلطة والثروة. كيف يمكن لمن يملك الثروة وبين يده السلطة أن يعمل على ربط المسؤولية بالمحاسبة وشنّ قوانين تمنع الجمع بين السلطة والمال واحتكارها بين أيدي فيئة قليلة متنفذة ؟ أي شن قوانين تفرض التوزيع العادل للمال وثروات البلد بين المواطنين عبر سياسة تضامنية فعلية عوض سياسة الصدقات.

ثانيا كيف يمكن للجنة معينة أن تقترح نموذجا تنمويّا يطرح نفسه كميثاق وطني، أي عقد اجتماعي بمعني بيعة غير مشروطة، في المخيّل القديم لعلاقة الحاكم والمحكوم. طرح النموذج التنموي الجديد كميثاق وطني أو عقد اجتماعي جديد، يلزم اعتماد استفتاء عام مع إعطاء الوقت الكافي لفرقاء الحقل السياسي وقوى المجتمع المدني من نقابات وجمعيات حقوقية تنموية ثقافية ومهنة لمناقشته والقيام بتعبأة شعبية شاملة تكون فيها السلطة محايدة. كل هذا في ظل دستور يضمن استقلالية المؤسسات. دون هذا يظل طرح مشروع تلو مشروع كونه الحل السحري هو عباره عن الدوران في نفس دار لقمان التي تظل على حالها.

مقترحات عملية لتنمية فعلية

مدخل

النقد عملية صحيّة وكما يقول الحديث الصحيح من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، وان لم يسطع فبلسانه، وان لم يستطع فبقلبه. بعد الصراع التناحري بين السلطة المخزنية وقوي التحرر منذ الاستقلال، انتهي الأمر بتثبيت الحكم الفردي خلال سنوات الجمر والرصاص وسيادة القبضة الأمنية بزرع سياسة الخوف. لم يعد أمام المواطنين والمواطنات الا قولة حسبي الله ونعم الوكيلأي محاربة الظلم بعبارة تدلّ على انعدام قدرة المواجهة. أو ما يتم اليعبر عنه العين بصيرة واليد قصيرةوغيرها من الأمثال والأقوال الشعبية الكثيرة. لماذا ذلك؟ لأن القبضة الأمنية أصبحت أمرا سائر به العمل وكل من يتكلم فقط تنزل عليه العصى الغليضة بقوتها القمعية، كما حصل لمتظاهري هراك الريف السلمي وغيرهم من المطالبين بحقوق الانسان وحرية التعبير. الذين كان مآلهم أحكام جائرة وغيابة السجون. انها وضعية لا يمكنها أن تدوم، وأنها تفتح الباب على مصراعيه لردود أفعال متطرفة أو عبر مقاومة عفوية يمكنها العصف بالحابل والنابل، كما حصل ببعض الأنظمة أثناء الربيع العربي. والتي أدت في بعض منها لحرب أهلية لا زالت ويلاتها قائمة لحد الساعة. ما أسهل الحرب الأهلية، وما أبشع ويلاتها. لحسن حظ الشعب المغربي، له حصانة ووعي تاريخي بوحدته، ما يقيه قيام مثل هذه المخاطر. لكن هذا لا يعني استحالة قيامها، إذا استمرت السياسة الأمنية التي وصلت التنكيل بأعراض المواطنين. ثم لا ننسى أن العوامل الداخلية والخارجية يمكنها أن تتفاعل إيجابا أم سلبا في كثير من الانتفاضات والثورات.

إذا استمر قمع الأصوات الحرة والقوى التي تدافع عن الديمقراطية الحقة، ازدادت غطرسة النظام وأصبح حاله كمن يسوق سيارة بلا فرامل –فران بجزم الفاء-. في هذه الوضعية مختلف حوادث السير ممكنة. لأن السيارة، أي السلطة، في هذه الحالة تكون خطرا على السائق والركاب والمارة. من كان يتوقع حدوث انقلاب عسكري في عهد الحسن الثاني بعد ان فرض سلطة الحكم الفردي؟ علما أن الجيش الذي سهر على تأسيسه بنفسه، كان عصاه الصلبة التي يتك عليها. ان الصراع المجتمعي في تطوره شؤون غريبة، التي لا يقيها، في عصرنا الحديث الا الديمقراطية. من دافع عن الحسن الثاني أثناء الانقلابات المعلنة أو الغير معلنة؟ القوى الوطنية والتقدمية التي كان لازال لها رصيد شعبي وازن لم تنحاز لأي انقلاب. ما معني هذا؟ الديمقراطية لا تبنى على دستور ممنوح وحالة استثناء وحكم فردي.

المقترح الأول: التعليم والصحة

تجاوزا لأي جدل حول نوعية النظام أمكن القول، أنه سواء كوريا الجنوبية وسنغافورا الليبيراليتين، أو الصين وراهنا الفيتنام الشيوعيتان، انطلقوا جميعا في تنميّتم الواعدة من تعميم التعليم ومجانيته ورفع مستواه. ورفع مستوى التعليم لا يكون بدون تقدير واحترام مكانة المدرسين في المجتمع كونهم الانارة التي تزيل غشاوة الجهل والتخلف الفكري. أي كل ما يحفّز روح التضحية والبدل ورفع الهمم والتضامن الفعلي. البلدان المشار اليها أعلاه، رغم اختلاف أنظمتها، لم تكن عند انطلاقة مسيرتها التنموية المظفرة عبر مجانية التعليم، تملك ما بحوزة المغرب من خيرات قياسا بساكنته. ما معناه، أن الاختيارات الفعلية كركيزة للتنمية، مربوطة أساسا بالإرادة السياسية الأمر الذي لم يذكره تقرير النموذج التنموي الجديد. لقد أشار للحكامة التي هي لفظ عام تعني التسيير، خلافا للإرادة السياسية التي تعني اختيار أنجع السبل لوصول الهدف. هناك خلاف بين التسيير والاختيار. يتم تسيير ما هو يا يتم اختيار. المطروح اذن قبل التسيير / العربة، هو الاختيار / الحصان. ا هو الفرق بين ما نقترح ومحرري التقرير. هم يقولون أن المشكل هو التسيير / الحكامة / العربة ونحن نقول المشكل هو الاختيار/ الديمقراطية / الحصان أو المحرك. لذا في رأينا الاختيار السليم هو الانطلاق العملية التنموية الجادة بتعميم التعلم والتكوين ورفع مستواهما وتأتي التنمية الاقتصادية كنتيجة لهما. وللتذكير مطلب تعميم التعليم كان من أول مطالب الشعب المغربي غداة الاستقلال.

الى جانب التعليم وتعميمه ومجانتيه، وضعت تلك الدول، وفي نفس المستوى الضمان الاجتماعي والصحي. تعميم التعليم ورفع مستواه يسمح بخلق الأطر العليا وضمنها العاملين في ميدان الصحة. هناك دولة كوبا التي تعرف حصارا شرسا منذ ثورة 1959. والتي ركزت أساسا على التعليم والصحة لحد أصبحت مثالا لنجاعتها ونجاحها في هذين الميدانين.

اذن مسألة تعميم التعليم والتطبيب، لا علاقة لهما بنوعية النظام القائم ومستوى نموّه وامكانيّاته المادية. بل راجع لإرادة سياسية واعية.

المقترح الثاني: الأرض لمن يحرثها ومحاربة البطالة

مطلبان أساسيان في مشروع الحركة الوطنية غداة الاستقلال. لكن ما حدث؟ استرجعت أرض المعمرين ولم توزع على أهلها وكذلك أراضي الدولة. كما لم يتم تحديث الفلاحة بالعالم القروي وذلك بتكوين ومساعدة الفلاحين بخلق البنيات التحتية والتعاونيات الإنتاجية المتطورة. كل ما حصل هو تجميع الأراضي في يد معمرين جدد ونهج فلاحة مخصصة للتصدير. كما أن سياسة السدود كانت أساسا لصالح الإنتاج الفلاحي للخواص، وظل منتوج أراضي الفلاحين الفقراء والصغار تحت رحمة تهاطل الأمطار. مما عجل الهجرة الداخلية من البادية للمدن وتقوية جيش العاطلين بها. أو الهجرة للخارج كمنفذ وحيد لضمان الترقية الاجتماعية التي لا تتوفر بأرض الوطن.

كان شعار محاربة البطالة من أولويات المهام المطروحة غداة الاستقلال. وكانت هناك بوادر مشروع تنموي فعلي عبر التعبأة الشعبية في عدة ميادين. مثل ما حصل بمشروع طريق الوحدة وخاصة أثناء حكومة عبد الله إبراهيم التقدمية والتي أقيلت بعد مدة وجيزة، مما أوقف المد التنموي الهادف. لا زلت أذكر كيف كنا نخرج لضاحية المدينة ونحن تلاميذ نهاية خمسينات القرن الفائت لغرس الأشجار. كان هناك حماس شعبي أكيد، لكنه ضاع بين سندان الحركة الوطنية ومطرقة السلطة المخزنية. وانتصرت المطرقة وضاعت التعبأة الشعبية.

المقترح الثالث: الديمقراطية أولا وأخيرا

الديمقراطية ليست معطى جامد كبدلة يمكن الحصول عليها عبر دساتير منمّقة تستجيب ومصالح الطبقة السائدة والباسها للمجتمع. انها عملية صراعية، اما عن طريق العنف الثوري أو عن طريق الصراع الاجتماعي السلمي. والحاصل بالنسبة للمغرب أن النهج الذي اختارته القوى الديمقراطية واليسارية بعد تجارب عدّة هو طريق الصراع الطبقي الاجتماعي والسياسي السلمي. ما معناه خوض صراع سلمي تعبوي للجماهير الشعبية لتحقيق حقوقها المشروعة في العيش الكريم وذلك بضام حاجياتها الضرورية في الأكل الشرب التعليم التطبيب السكن الشغل التثقيف وهذا عبر الحد من الفوارق الطبقية والتقسيم العادل للخيرات الطبيعية والمالية الاقتصادية للبلاد. مهمة القوى التقدمية الدائمة والملحّة هي نشر الوعي الديمقراطي فكرا وممارسة بين الجماهير الشعبية، صاحبة المصلحة العليا في التغيير الاجتماعي. ينبغي ممارسة الديمقراطية داخل المجتمع المدني، أحزاب نقابات جمعيات… للفعل داخل الطبقات الشعبية التي تمثل غالبية الشعب. وذلك بالانصهار معها في مختلف مرافئ الحياة لتوعيتها وتنظيمها بهدف فرض ميزان قوى، خارج اللعبة الانتخابية المقترحة التي تثبت سلطة التحالف الطبقي المسيطر. بل عبر النضال المطلبي اليومي وعلى مختلف الواجهات الاجتماعية والسياسية الاقتصادية.

النموذج التنموي الجديد هو برنامج مطروح لتأطير وتوجيه الاختيارات السياسية للأحزاب السياسية المتصارعة على المقاعد البرلمانية لانتخابات 8 شتنبر القادم. الغرض السياسي من تقرير النموذج التنموي الجديد هو توجيه سياسة الدولة للمرحلة الطويلة المقبلة. دور الأحزاب السياسية في هذه البرنامج التوجيهي سوى الاندماج في أهدافه. مما يعني تعليق إعادة النظر في المنظومة الدستورية كما كان يحدث كل عقد من الزمان تقريبا في السابق. لما كان لليسار ثقل وازن داخل المجتمع. المسألة الدستورية لا زالت مطروحة لضمان ديمقراطية حقيقية يبنى في اطارها مجتمع العدالة الاجتماعية، القادر تجاوز الاختلالات البنيوية العميقة التي تنتج الفقر والفوارق الاجتماعية الفساد الأمية البطالة والتهميش. قاعدته فصل فعلي للسلط، ملكية تشريعية قضائية وصحافية مع ضمان استقلالية قوى المجتمع المدني، أحزاب نقابات جمعيات حقوقية واجتماعية. أي ضمان كل الآليات التي تضمن الحريات الفردية والجماعية حقوقيا اجتماعيا سياسيا ثقافيا واقتصاديا. المسار الديمقراطي الواعي والفعلي وحده يضمن ثقة المواطنين والمواطنات في مؤسسات الدولة.

المقترح الرابع: العدل أساس الحكم

كيف يمكن الحديث عن العدالة الاجتماعية وحقوق الانسان في غياب استقلال المؤسسة القضائية؟ من منّا لا يذكر ما لقّنه لنا معلّمينا الأجلاء، أن العدل أساس الحكم. ومنه المقولة الشهيرة “عدلت يا عمر فنمت”. الخليفة الذي هزمت جيوشه جحافل إمبراطورية الروم، ينام سالما ومستسلما على الأرض تحت ظل شجرة يلتحف السماء لا يحسره الخدم والعساكر. انه زمان له ما له وعيه ما عليه من أساطير وحكم، لكن الهدف من هذه الحكمة هو استنتاج العبرة من أن الحاكم الصالح هو من يخدم مصلة المحكومين لا مصلحته الذاتية. أخدا بهذه العبرة المنبثقة من تراثنا الحضاري والتي لها تأثير في مزاجنا العقلي، كتبت في تقديم احدى كتبي ” القطب الديمقراطي الحديث”، الذي ناسب نشره تولية العاهل الحالي للبلاد. تمنت في ذلك التقديم أن تكون سيرة الخليفة الجديد، على منوال سيرة الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز. الذي عارض في معاملاته المطبوعة بالعدل والتقوى والابتعاد عن ملذات الحياة، باقي سلاطين بني أمية. لقد مر عقدين من الزمان، ورجاؤنا في قومة الفضيلة العمرية لا زال حاضرا. في العهود لما قبل الحداثة، كان الشعب يطمح للفضيلة والعدل لدى الحكام، حيث لم يكن هناك وعي وتبصر جماعي لمفهوم وإقرار النظام الديمقراطي عوض النظام الاستبدادي الفردي. أمّا اليوم فإننا في عهد الدرة والتواصل الالكتروني، حيث العالم أصبح عبارة عن حديقة صغيرة. كل يعرف ما يدور ويجري في أيّ بقعة من المعمورة. والمعروف أن المجتمعات التي تحققت فيها ديمقراطية فعلية وتمّ فيها استقلالية القضاء، عرفت العدالة الفردية والاجتماعية والرفاية. وبهذا أصبح الحاكم العادل هو الشعب الذي يفرض عقد اجتماعي يتساوى فيه الجميع. وقوة الحاكم الفردي في عصرنا الراهن، هو من يساير أحكام العصر الحديث وقوانينه في حياة الشعوب الحرة. لو كان أحد العمرين بيننا وجد في الديمقراطية الحقة ضالّته ومبتغاه ولقضى حياته سعيدا هنيئا، لا أحد يبغضه أو يطعنه أو يسمّمه.

حكمة زمننا الحاضر هي الاحتكام لقوانين الديمقراطية الحق وتجاوز الأنانية المرضية في حب السلطة والمال، لأنها وباء عضل يشلّ حركيّة المجتمع، الذي لن يقوى القيام بتنميّة اجتماعية سياسية ثقافية واقتصادية، في دوام الحالة المرضية التي يعاني منه المغرب منذ عقود في هدر الطاقات المادية والبشرية حول السلطة.

المقترحات الأخرى

حرية الصحافة واستقلاليتها، سواء الصحافة العمومية التابعة لمؤسسات الدولة، أو الصحافة الحرة. ذلك أن الصحافة في المجتمعات الديمقراطية هي المؤسسة الرابعة. المؤسسة التنفيذية التي هي الحكومة، التشريعية الممثلة في البرلمان، القضائية الضامنة للعدل بين الجميع في إقرار القانون اتجاه الجميع. والمؤسسة الإعلامية التي تربط بين مختلف المؤسسات ومكونات الشعب لتضمان حرية الرأي والتعبير عبر توعية عموم طبقات المجتمع بالأخبار الصادقة والتحاليل النيرة. الصحافة السمعية البصرية والمكتوبة تلعب دور معلم الشعب. فهي تنيره وتوعيه بمصلحته ومصلحة الوطن. الصحافة الموجهة هي وسيلة للتضليل والتجهيل ذات العواقب الوخيمة على طول المدى. انها أداة دعائية لأيديولوجية الاستبداد والتأخر لا يرتجى منها خدمة أية تنمية. لأن حالها في هذه الوضعية عبارة بوق دعائي للسلطة القائمة.

في كل هذا يظل عدم استقلالية القضاء هو المشكل العويص، الذي بدون احترامه لن تكون هناك أية إمكانية للتنمية، اقتصادية كانت أو اجتماعية. عدم نجاح المشاريع التنموية السابقة تجد تفسيرها في عدم ثقة المواطن والمواطنة من الطبقات الشعبية في المؤسسات القائمة. كيف يمكن للثقة المتبادلة بين المواطنين والسلطة في حالة قمع كل صوات تطالب بالمساواة الكاملة داخل قانون والمجتمع وربط المسؤولية بالمحاسبة؟

ضمان الحد الأدنى من الدخل الفردي ومنذ الأن، لأن ذلك حق مشروع وممكن إذا تمّ احكام الشفافية التامة لموارد البلاد المادية والبشرية ومداخل الدولة والأفراد. لا يعقل في بلد كالمغرب أن تعرف فيه شرائح كبيرة من المجتمع في البادية والمدن، نقصا كبيرا في تحقيق الأولويات الضرورية للعيش الكريم. حيث في الحين الذي فيه خصاص في المجالات لأغلبية الشعب هناك شريحة ضئيلة تنعم في رفاهية لا يقبلها الضمير. كيف يسمح لشريحة الأرستقراطية الطفيلية للإمبراطور والسماسرة الجدد، الاستحواذ على خيرات البلاد وادخار المال داخلها وخارجها، بلا حسيب أو رقيب؟ يحصل كل هذا في غياب استقلالية القضاء واحكام قوانين زجرية للجمع بين المال والسلطة. إقرار هذه القوانين وحدها تسمح بالتنمية والتضامن الاجتماعي وحب الوطن:

سواد العين يا وطني فداك وقلبي لا يحب سواك

الوطن هنا هو الشعب الذي هو روح الجسد الوطني الذي يجب اكتمال وحصانة كل أعضائه ومنه لا يمكن فك حب الشعب والأرض التي هو عليها. الديمقراطية تركز على الروح الشعبية أساسا.

ينبغي عند تعميم التعليم تدريس الأشعار الوطنية التقدمية والأخلاق الانسانية البعيدة عن الجهل اللرجعي الذي يزرع الخنوع في النفوس وانعدام الفكر النقدي في العقول.

انما الأمم الأخلاق ما بقيت ان هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

يلزم تعريف الأخلاق في البيت أعلاه بالقوانين الديمقراطية، التي تضمن العيش الكريم في سلم وأمان بوطن هو للجميع. إذا لم يكن هناك قانون يحتكم له الجميع، ساد قانون الغاب، الذي يوّلد الفساد والرشوة وعم المسائلة والمحاسبة كعنوان لسيادة الغلبة والظلم والاستبداد.

الاستقلال الذاتي للجهات

لضمان وحدته الترابية يرفع المغرب شعار الاستقلال الذاتي لمنطقة الصحراء الغربية. والغريب في الأمر أن هذا الشعار لم يدخل حيز التطبيق. علما أن عدم إنجازه حالا يمكن اعتباره مناورة سياسية لا غير. أما إذا تمّ تطبيقه وقام إخواننا في الصحراء بتجربة رائدة في ضمان حقوق الانسان وإقرار القانون الذي يضمن المساواة، تمّ تجاوز الوضعية الشاذة التي لازالت تعرفها قضية الصحراء ولا احتاج لمساندة أي كان لحلها. معنى هذا أنه لمّا يتم تطبيق الاستقلال الذاتي على شاكلة الجنيهات بإسبانيا. أو اللدنات / الجنيهات بألمانيا، شعر إخواننا الصحراوين/ت داخل وخارج المغرب، بأن هناك انتقال ديمقراطي. كما يقال ” من يترك الزردة ولو كانت في بغداد؟”. كيف يقبل إخواننا الصحراويّين/ت العيش في فيافي تندوف تحت حداء العسكر، عوض رخاء وحرية ربوع بلدهم المغرب؟

ليكون موقف الحكم الذاتي بالصحراء مفعوله الفعلي، يلزم تعميمه على باقي الجهات المغربية والتي يمكن إعادة تقسيمها بشكل يضمن لكل منها، توفّر الامكانية البشرية والجغرافية الكافية لتنمية اجتماعية واقتصادية. في دراسة سابقة كنت قد حددت إمكانية تشكيل فيدرالية الأمة المغربية من 6 جهات قائمة الذات. لكل منها واجهة بحرية ومنطقة برية وكثافة سكانية تساعد على التنمية الاجتماعية الكافية لإحداث القفزة النوعية الضرورية. يتحقق هذا النمو المستمر بوضع لكل جهة برلمانا محليّا، له صلاحيات كبرى في مختلف القضايا الاجتماعية القانونية الثقافية والاقتصادية. هناك عدة أمثلة سواء التي بإنجلترا، كندا، المانية، إيطاليا… لقد ورث المغرب عقلية النظام المركزي المخزني العتيق والفرنسي المتشدد، وبقي سجينه رغم تكوينه التاريخي الذي يتقارب بتشكيلة الأمة الإنجليزية أو الاسبانية.

خلاصات عامة

1 – ما يتعلق بدباجة المشروع النموذج التنموي جديد

ليست هناك فلسفة واضحة تربط فصول تقرير النموذج التنموي الجديد. كل ما هناك أسلوب تبريري عبر تعابير منمقة وعامة تسمح للتأويل حسب الأهواء. مثل لفظة الحكامة النجاعة التحسين، التنزيل الانصاف الإنتاج، دون تقييم ما تمّ انتاجه سابقا. كما شخص تفشي الفساد الرشوة المحسوبية وهدر الثروة البشرية والمادية للبلاد، مركزا على المشاكل الكبرى من بطالة تعليم صحة سكن هشاشة البنيات التحتية في العالم القروي والحضري. وأشار التقرير للفوارق الاجتماعية وسوء تدبير المؤسسات العامة وسيادة القطاع الخاص وأن هناك اقتصاد غير مهيكل ومنتج …

ما يظهر عند قراءة تقرير النموذج التنموي الجديد، أن هناك عدة تقارير جمعت من غير رابط فعلي أو دمج للأفكار بعضها لبض. وهو ما يعبر عن ضعف المنهجية المتبعة التي اكتفت بالتشخيص وطرح أماني ووعود من غير تقييم أسباب القضايا تم تشخيصها والتي هي معروفة. كما وضع التقرير خطوط حمراء لتحصين خطبها والممثلة في الخطابات المولوية. اعتماد هذا الأسلوب الغير منهجي يدخلنا في الأسلوب التحريض الإيديولوجي. هكذا يصبح عبثا تقييم المشاريع التنموية السابقة وخاصة الكبيرة منها. مثلا، ألم يكن من المفيد عوض درّ المليارات في مشاريع مثل الطرق السيارة ومناء طنجة المتوسط والقطار السريع، نفق نصفها في مشاريع أكثر أهمية، مثل التعليم الصحة الشغل وتخصيص النصف الآخر توسيع الطرق الموجودة وشق شبكة طرقية وحديدية عبر مختلف المناطق وخاصة النائية منها؟ كما أن توسيع الموانئ الموجودة كانت كافية لاستعراب ما يضاعف الميناء الواحد رغم عظمته. لا نقول إن المشاريع الضخمة التي تحققت غير صائبة، لكن من حقنا تقييمها ومقارنة مردوديتها على المستوى المادي والبشري، هل كانت أكثر نجاعة من مشاريع أخرى؟ هذه النظرة النقدية تجعلنا نتحرر من الرأي الواحد الجانب الذي هو أصلا غير عقلي أي مناف للمنهجية العلمية.

2 – اقتراحات عملية

– المساواة بين المرأة والرجل في كل مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية، هذا سواء أمام أودا خل القانون. أول هذه المساواة، التقسيم العادل للإرث، لكل امرأة مثل حق الرجل. وكذلك احترام التساوي في الأجر لنفس العمل. كما يجب تطبيق حق المناصفة في ولوج التمثيلية داخل المؤسسات. لا يمكن للمجتمع أن يسير برجل أطول من أخرى والا أصبح جسدا عائبا، لا يخطو بيسر أو الجري عند ضرورة الإقلاع التنموي والديمقراطي.

– ضروري انصاف جزء كبير من المواطنين والمواطنات الذين يساهمون بقسط وافر في كل الواجهات الثقافية الرياضية الفكرية العلمية والدبلوماسية، زيادة على أنهم أهم مورد للعملة الصعبة وعامل تنموي مهم كما أشرنا أعلاه. رغم دور المهاجرين/ت يحرمون من حقهم المشروع في المواطنة الكاملة الممثلة في حقهم السياسي، بالتصويت والترشيح كغريرهم من المواطنين/ت في الداخل. حيث حسب القاسم الانتخابي المعتمد يحرمون من 60 مقد برلماني. هذا علاوة عن حقهم في الغرفة الاستشارية التي يمكن لممثلي الجمعيات ولوجها. كما يلزم مراجعة النظر في ما سمّي بمجلس الجالية وكذا المؤسسات والجمعيات الأخرى المهتمة بقضايا الهجرة والمهاجرين/ت.

– وضع هيئة وطنية تمثل مختلف التنظيمات، احزاب نقابات جمعيات حقوقية تنموية ثقافية، الى جانب المؤسسات، ملكية حكومية برلمانية اجتماعية. لوضع مشروع اصلاح عام للمنظومة القانونية والتنموية. مستقلة عن أي توجيه من أي طرف كان. مهمتها وضع عقد اجتماعي يضمن الطفرة النوعية للنهوض التنموي الفعلي

– مهمة الهيأة المستقلة زيادة على وضع برنامج تنموي عام، القيام قبل ذلك برصد الأسباب البنيوية العميقة التي حالت والنمو البشر. خلاصات هذه اللجنة تطرح لاستفتاء عام كما يسمح بذلك الدستور.

– ربط المسؤولية بالمحاسبة. وهذا بعدم الإفلات من المحاسبة كل من يرتكب تجاوزات في تحمل المسؤولية مع معاقبة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان وهدر المال العام أو الاستلاء عليه بطرق غير قانونية.

– منع الجمع بين السلطة والمال. بالمراقبة المباشرة للبرلمان لكافة المؤسسات، بما فيها المؤسسة الأمنية والعسكرية. هذا حتى لا تكون هناك مؤسسات خارج القانون.

– استقلالية القضاء من أجل ضمان ثقة المواطن في المؤسسات وأولها القضاء. وذلك بوضع قوانين واضحة لا تقبل التأويل كما هو حاصل اليوم. أساس القوانين الجاري بها العمل موروث عن العقلية المخزنية العتيقة وفترة الحماية الاستعمارية. أي قوانين فضفاضة، صالحة للتأويل كما هو حال الدول لما قيل الحداثة.

– القيام بانفراج سياسي يتم فيه إطلاق كافة المعتقلين السياسيّين ومعتقلي الرأي من صحافيين وحقوقيين ومفكرين. بالمناسبة أمكن التذكير أنه منذ تنزيل الدستور الأول سنة 1962، تمّت مراجعته تقريبا كل عشر سنوات. نظرا للوضعية الحالية المطبوعة بالقبضة الأمنية، التي تزرع سياسة الخوف والمبالات وانعدام الثقة في مؤسسات الدولة، وجب مراجعة الدستور لوضع حد للاستبداد ويضمن الانتقال الديمقراطي المنتظر.

– بخصوص المسألة الاقتصادية التي قدمها تقرير النموذج التنموي الجديد كحل سحري للمعيقات الاقتصادية. الواضح أن المنهجية التي اتبعها ظلت سجينة النظرة الليبيرالية المتوحشة. سبب ذلك أن محرريه سجنوا تصوراتهم في جبرية الاقتصاد النيولبيرالي السائد. لكن إذا راجعنا أسس التبادل الغير المتكافئ بين المركز والدول التابعة وغيرها من النظريات والمنهجيات التي تعاكس التوجه النيوليبيرالي، أصبح أمامنا خيار اقتصادي وطني يخضع للإرادة السياسية. ما معناه كون اختيارنا السياسي هدفه المبدئي خدمة القضايا المصيرية للشعب المغربي في التحرر والديمقراطية والتنمية. مما يفرض التحرر من الفكر النيوليبيرالي ومقاطعة البنك العالمي للتنمية وصندوق النقد الدولي، اللذان يشكلان أدوات ووسائل تعمّق التبعية للدوائر الرأسمالية العالمية. ما المعمول؟ من حق المغرب تجميد الديون التي هي عليه لمرحلة معينة يمكن تحديدها في خمسة أعوام. يتم هذا طبعا من خلال التحكم في العملة الوطنية، كما فعلت الحكومة التقدمية لعبد إبراهيم لما أقرت الدرهم بدل الفرنك الفرنسي، وبنفس القيمة. تبين في ما بعد أن قيمة الدرهم تفوق الفرك الفرنسي الجديد. هكذا يمكن وضع قيمة للدرهم تساوي الدولار الأمريكي أو اليورو الأوروبي. لا أحد يمنع هذا القرار إذا رافقته الإرادة السياسية في التحرر من الهيمنة الاقتصادية الأجنبية. ميزة المغرب كونه استقلّ بعملته عبر التاريخ. والاستقلال الوطني لا يتم في غياب الاستقلال الاقتصادي. وفي كلتا الحالتين يلزم التحلّي بعزيمة التضحية. لذا يقال “قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق” أو كما قال الشاعر:

سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى

فأما حـياة تســر الصديــق واما ممات يغيض العدى

كلمات رددناها وآمنا بها، وكما يقول الحكماء الشعب كالأفراد، ما ينطبق على الأول ينطبق على الثاني. شعب فقير لأن خيراته سلبت كانسان فقير سلبت حقوقه في العيش الكريم. وبما أننا نريد التنمية الاجتماعية، أي لصالح الفقراء والمعوزين وهم غالبية الشعب، وجب تحرير الاقتصاد الوطني والتوزيع العادل لخيراته.

– انها اقتراحات تظهر طوباوية غير قابلة التحقيق، لكن ان تفحصناها في العمق ورفعنا الغشاوة التي تقف دون النظر الى الأفاق الواعدة ونقرر أنه من حقنا أن يسود شعبنا بين الأمم.

لا بد من فتح قوس حول الديمقراطية التي ننشدها. كإجابة على طوباوية ما نقترحه حولها. ان واضع منهاجيتها جان جاك روسو، كان محافظا ومشمئزا من البرجوازية الناهضة، لكن طرحه للعقد الاجتماعي كان في أتم الصواب، لأنه يضمن حرية الفرد والجماعة في إطار دولة لها ضوابط ومؤسسات ثابتة ومستقلّة بعضها عن بعض. وهي الوسيلة التي تسمح بتداول السلطة بين الفرقاء بشكل سلمي. كان هذا الطرح في القرن الثامن عشر، ولقد حققته كثير من الشعوب. والتي قال عنها ونستون تشرشل “انّ الديمقراطية هي أسوأ أشكال الحكم، باستثناء كل الأشكال الأخرى التي تمّ تجربتها”. والسؤال المطروح، أما حان دور الشعب المغربي ليقوم بتجربته الديمقراطية؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube